زواج القاصرات بالجنوب الشرقي.. الظاهرة المنفلتة

زواج القاصرات؛ جريمة مكتملة الأركان في حق فتيات قبل بلوغهن السن القانوني، وهي ظاهرة اجتماعية خطيرة في المجتمع باتت ترخي بظلالها عليه وتُخلف مشاكل اجتماعية أخرى متعددة الفروع، حيث ارتفعت وتيرة حدوثها في السنوات الأخيرة بشكل رهيب (12 ألف و60 عقد زواج لقاصرات خلال سنة 2020 لوحدها) رغم ما عرفته السنة من ظروف اجتماعية وصحية استثنائية، عطلت العديد من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في مناحي الحياة .
إن استفحال هذه الظاهرة، له آثار سلبية وخيمة على بنية وتركيبة المجتمع والأسرة على حد السواء؛ خصوصا وأن طبيعة “القاصر” لاتجيز لها التصرف الذاتي والخالص في شتى أمورها الحياتية، وتفتقد – بالطبيعة- إلى الجاهزية النفسية والعقلية والجسدية لمواجهة أعباء الحياة الزوجية وإنشاء أسرة متكاملة.
وحتى يكبر الفرد داخل المجتمع نموا طبيعيا وسويا، لابد له من الاكتفاء بكل مرحلة من مرحلة نمو الإنسان؛ ودخول القاصر مرحلة الرشد والبلوغ والزواج قبل اكتمال فترة الطفولة، يعد اعتداءً على كينونتها وتجنيا على كرامتها وحقها في العيش السليم، بل ويتعدى هذا إلى التأثير سلبا في المجتمع بأكمله.
طاقم بيان اليوم انتقل إلى أقاليم عدة بجهة درعة تافيلالت، وأنجز هذا الربورتاج.

فتيات يعانين شظف العيش أضافوا إليه مآسي زواج قسري

لم يسعف جمال الجبال الشاهقة والقصور التاريخية الضاربة في القدم لمدينة الريصاني، والحمولة الثقافية والعلمية والفكرية التي ترتبط بها مدينة “سجلماسة” قديما، مهد الدولة العلوية، حليمة “حاما” وأخريات من نفس عمرها وبيئتها، من أن تحيا حياة طبيعية وسوية، وأن تستفيد من حقوقها الاقتصادية والاجتماعية كاملة غير منقوصة.
مدينة مولاي علي الشريف (الريصاني) تصنف ضمن قائمة المناطق التي تعاني الهشاشة والفقر بالمغرب، رغم أنها منطقة ترقد على ثروة معتبرة من الثروات المعدنية، التي من شأنها تحسين ظروف العيش وتجويد العروض الحياتية بالمنطقة، علاوة على أنها تشهد رواجا سياحيا كبيراً لتوفرها على مراكز سياحية عالمية، لكنها، ما تزال تئن في صمت وتجر وراءها مآسي القاصرات المتزوجات والمطلقات في سن مبكرة .
انتقلنا إلى “قصر تابوعصامت” بالريصاني، القرية التي تبعد عن مركز المدينة بكيلومترات قليلة؛ هنا كل مقومات النسيان وقصص “الآلام” التي غطت جمال المنطقة وكشفت وجها آخر لـ”الفقر” و”الجهل” والتجاهل الرسمي.
فتيات كبرن تحت وطأة الفقر والتهميش وعانين القسوة، والسبب دائما وما يزال “زواج” شبه “قسري” تحت يافطة “الأعراف”.
“حاما” نشأت وترعرعت في قصر “تابوعصامت”، استطاعت أن تحكي وبكل شجاعة عن معاناتها مع زواجها في سن صغيرة”.
علامات الحزن بادية على وجه حليمة، وهي تروي حكاية جيل من القاصرات اللواتي عانين الويلات بسبب أعراف وقوانين قادتهن إلى جحيم “الاغتصاب” تحت ذريعة الزواج الشرعي أو “العرف” القروي.
والدموع تتهاطل على وجنيتها، تقول حليمة : “بحكم تجربتي ببلدتي، عشت هذه المرحلة بصعوبة بالغة وحين تزوجت كنت أبلغ من العمر 13 سنة ونيف وبعدها أصبح لدي طفل، ولم أقوَ على تربيته، إذ كلانا طفلان، عليهما أن يستمتعا باللعب أولا”.
حليمة، ضحية اضطراب نفسي عانت منه الأم، فترجم قساوة على طفولتها، ليقودها كل هذا إلى زواج قسري، رهن مستقبلها وحياتها، داخل واقع أليم لا فكاك منه.
نحول وجهتنا مرة أخرى، ودائما داخل جهة درعة تافيلالت، إلى أعالي الجبال (إملشيل)، حيث التقينا بأمال، طفلة ذات 16 عاما، تزوجت منذ ثلاث سنوات، وتقطن رفقة عائلتها حاليا؛ فتحت لنا قلبها لتحكي لنا قصتها المأساوية ودموعها تهطل.
“كان عمري 12 سنة حين قرر أبي تزويجي وبضغط منه، أقنعتني أمي بالقبول فوافقت تحت إلحاحها، فقبل زواجي أجبرني أبي على ترك دراستي، وذلك من أجل تهيئي للزواج”.
الطفلة أمال لم تكن تعرف شيئاً عن العلاقات الجنسية، تحكي للجريدة ” فوجئت ليلة الدخلة بزوجي وهو يجردني من ملابسي وكنت غارقة في الرعب فصددته بكل قوتي، لكنه قام باغتصابي رغما عني”.
وتضيف أنها عاشت خلال زواجها أياماً سوداء مع زوجها وأنجبت طفلة، تقول إنها جعلتها اليوم محط سخرية أمام صديقاتها، ناهيك عن النظرة الدونية لشباب ورجال المنطقة.

القانون يبارك تزويج القاصرات ويغض الطرف عن المواثيق الدولية

حملنا هذا الواقع لاستجلاء رأي نساء ورجال القانون فيه، حيث قالت حنان أمراني محامية بالرشيدية، إنه بات من الضروري إلغاء المادة 20 من المدونة التي تنص بالأساس على زواج القاصرات كاستثناء بينما الفصل 19 يحدد سن الزواج في 18 سنة.
وترى المتحدثة أنه لا يمكن أبدا وتحت أي مسوغ، القبول بتزويج طفلة ذات 11 أو 13 أو 15 سنة، في الوقت الذي يفترض أن تكون في مكانها الطبيعي بالمدرسة، مضيفة، أنه بالنظر للحالات التي عاينتها، فإن هذا الزواج غالبا ما يكون تحت إكراه العائلة.
وأبرزت المحامية بهيئة مكناس، أن من تداعيات هذه الظاهرة في المنطقة نجد الهدر المدرسي وارتفاع الهشاشة في صفوف النساء، وهذا كله بسبب أنه بإمكان قاضي الأسرة المكلف بالزواج، حسب المادة 20 من القانون المغربي، أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون سن الأهلية بمُقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، وهو ما يعني أن هذه المادة، على خلاف المادة التي تحدد سن الزواج بـ 18 سنة، فتحت الباب لزواج القاصرين ما دون السن القانونية، وهي مخالفة صريحة للدستور الذي نص على سمو الاتفاقيات الدولية وعلى رأسها اتفاقية حقوق الطفل التي نصت كون مرحلة الطفولة تنتهي بوصول الطفل إلى 18 سنة.
“وهذا الأمر، أصبح عاديا مؤخرا، و نسجل تساهلا واضحا في مسألة منح الإذن للزواج بالنسبة للقاصر الراغب في الزواج، حيث بتنا نجد أنه من بين 8 أو 10 حالات المتقدمة بطلب تزويج القاصر نجد أن القاضي يمنح الإذن ويرفض فقط طلب أو طلبين”، تقول المتحدثة.
وحول نسب الطلاق وطبيعتها، كشفت لنا المحامية أن نسبة الزواج لدى القاصرين أكثر بكثير مقارنة مع زواج الراشدين؛ فلقد عاينا حالة طلاق مرتين لقاصر، تحملت مسؤوليتها الكاملة بسبب اكتسابها للأهلية بعد منحها إذن الزواج.

فتاة في سن مبكرة: بنية جسمانية غير قادرة على التفاعل جنسيا وقابلة للتذمر نفسيا

تبدو الظاهرة متشعبة وذات تفرعات عدة، غير المؤكد أن لها انعكاسات صحية سلبية على الوضعية النفسية و الفيزيائية على حد السواء، للقاصر.
هواجسنا حول الأضرار التي يتعرض لها جسد الفتاة القاصر عند الزواج ومضاعفات ذلك، حملناها إلى الدكتور أناس النجاري، طبيب اختصاصي في أمراض النساء والولادة؛ الذي أكد أن فترة البلوغ أو المراهقة التي تتم عبر مراحل وخلال مدة زمنية طويلة، تحسب بالسنين من شأنها أن تهيئ الفتاة لتحمل العلاقة الجنسية وحمل الجنين وولادته وحتى لو ظهرت علامات البلوغ من بروز الثدين وظهور الدورة الدموية وبداية اتساع الحوض، فالبنت القاصر تكون غير مهيئة للقيام بالوظائف الثلاث السالفة الذكر، فالزواج المبكر قد يعرضها لتمزق الفرج ونزيف دموي حاد وخطير خلال أول علاقة جنسية، كما يعرضها للآلام، باستطاعتها حمل الجنين ومرور حمل صعب مع ارتفاع خطر الإصابة بارتفاع الضغط خلال الحمل، أما في ما يخص فترة الوضع فالزوجة القاصر تكون معرضة لولادة عسيرة وارتفاع احتمال القيام بعملية قيصرية مع كل المضاعفات التي قد تشوبها .
وبخصوص المشاكل المفترضة بعد زواج القاصر، قال الدكتور في أمراض النساء والولادة، أن ضيق الحوض الذي يمنع الولادة الطبيعية، هذا المشكل يمكن تجنبه في حالة اكتمال نمو عظام الفتاة، إذ يصبح حوض الفتاة أكثر اتساعا مما يسهل عملية الولادة، من جهة أخرى لاحظنا حتى ولو تمت الولادة بشكل طبيعي، فإن المخاض يكون عسيرا بالخصوص لعدم استحمال آلام الوضع من طرف البنت القاصر.
من جهة أخرى، قمنا بمعاينة بعض الحالات التي تمزق فيها الفرج بعد أول علاقة جنسية وأدت إلى نزيف دموي حاد استدعى عملية جراحية مستعجلة لإنقاذ حياة المريضات.
وحول الوضعية النفسية والسوسيولوجية، أبرز المتحدث أن الزواج المبكر يستأصل الفتاة من محيطها العائلي، التي هي في أمس الحاجة إليه ليكتمل نموها النفسي، إذ أن حنان الأب أو الأم لايعوضان كما أن الزواج المبكر يحرم الفتيات من الاستمتاع بفترة الطفولة التي تعد ضرورية في التركيبة النفسية للفرد، ويهدف بهن غلى تحمل مسؤولية الزواج في سن مبكر وتربية الأطفال مع الأخذ بعين الاعتبار أنها ما تزال تمر من سن المراهقة مع كل من ما يترتب عنه من هدر مدرسي وارتفاع حالات الطلاق.

آثار سلبية وخطيرة لزواج القاصرات

وترى ميلودة الفريحي، دكتور في العلوم الاجتماعية، أن ظاهرة زواج القاصرات ليست وليدة اليوم بل لها جذور ضاربة في التاريخ، تتحكم فيها السياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، تصنف على أنها بيدوفيليا مشرعنة حسب الأعراف والعادات، خاصة إذا تزوج الراشد بطفلة، فهو يعبر عن سلوك جنسي شاذ أي أنه لا يبلغ شهوته الجنسية إلا مع جسم طفولي فتي.
وأضافت المتحدثة ذاتها، أن الآثار النفسية الوخيمة التي تترتب عن زواج القاصرات هي أن الطفلة تكون غير ناضجة جسديا ولا جنسيا، وغير مؤهلة نفسيا لتحمل أعباء الحياة الزوجية.
وقالت الأستاذة الجامعية، أن القاصر إذا تزوجت تكون قد حرمت من التمدرس ومن اللعب ومن كل وسائل الترفيه، فهي تتكلف بأطفال، فعوض أن تلعب بدمية تجدها ترضع طفل حقيقي، وتتحمل مسؤولية بيت بأكمله.
وكان لزاما علينا إحضار صوت حقوقي لمعالجة الموضوع من كل جوانبه، إذ التقينا رئيسة اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة درعة تافيلالت، فاطمة عراش، التي أكدت أن مدونة الأسرة جعلت من زواج القاصر، زواجا استثنائيا، لكنها وبشكل غريب لم تحدد السن الأدنى، إذ تركت الباب مفتوحا أمام الأسر والقضاء لتقرير مصير الفتيات القاصرات الراغبات في الزواج.
وقالت المتحدثة إنه، بعد التدقيق في وضعية حقوق الإنسان بالنسبة للطفولة بجهة درعة تافيلالت، بات من الضروري جعل اهتمام اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة درعة تافيلالت ينصب في تسطير برنامج إستراتيجي في موضوع الطفولة داخل الجهة، لأننا نعتبر، تقول عراش، تزويج القاصر جريمة ضد الإنسانية وفي حق الفتاة كطفلة لأن تزويجها يعني الكثير: حرمان هذه الفتاة من طفولتها، يعني تعنيف هذه الطفلة التي تعيش حياة جد معنفة وبالتالي فتزويجها مظهر من مظاهر العنف الذي تتخبط فيه المرأة في مجتمعنا والفتاة إلى جانبها لأنها هي امرأة المستقبل .
وأقر المجلس الوطني لحقوق الإنسان بضرورة إلغاء الاستثناء في القانون وتطبيق القاعدة أي إلغاء الفصل 20 من مدونة الأسرة التي جعلته أصبح استثناءً وليس قاعدة، لكي نعود إلى الفصل 19 الذي يحدثنا على الزواج ابتداء من 18 سنة، أي عندما يصل الفتى والفتاة في سن الرشد، ويتخطى مرحلة الطفولة حتى يعيش طفولته بكامل حقوقه التي سطرتها اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها المغرب.
إن هذه الأصوات كلها، تنادي في غير ما موضع، بضرورة الابتعاد عن الفتيات القاصرات وتركهن يعشن طفولتهن بكامل مقوماتها وشروطها، وهو ما يعني أن هناك إجماع من أجل إلغاء الفصل 20 من مدونة الأسرة.
وفي الختام لابد من القول على أن اشتغالنا على موضوع إشكالية زواج القاصرات. اعتمادا على منظورات مختلفة في المقاربة، والتي امتدت من عينات واقعية، إلى مقاربات حقوقية قانونية، صحية …الخ، قد بلور لدينا خلاصة نعرضها كالتالي: أن مقاربة هذا الإشكال في أفق القضاء النهائي عليه باعتباره ظاهرة تخترق كل مجالات المجتمع والقانون والثقافة في مفهومها العام، يفترض اعتماد مقاربة شمولية متعددة المنظورات والتخصصات.
وأن اعتماد الحل القانوني لوحده في تغييب لما هو ثقافي بخلفياته الثقافية والدينية، لن يستطيع الحد من هذه الظاهرة المنفلتة والمتكيفة على الدوام مع مستجدات القانون، وبالتالي يجب الانطلاق في معالجتها من المنظور الثقافي الأنثربولوجي وتمثلات الدينية للمجتمع، وكذا الفهم السوسيولوجي الجيد والدقيق لهذه الظاهرة، ومرتكزاتها الاقتصادية لدى الأسر في علاقتها مع المجال، وفتح دراسة هذه الدراسة على مجالات أخرى، ثم تكثيف هذه الخلاصات في نص قانوني بمضمون حقوقي ضامن لكرامة القاصرات وذويهن.

< إنجاز: يوسف الكوش

Related posts

Top