تحقيق.. شبح الجوع والهجرة يخيم على القرى المغربية

 من جهة بني ملال خنيفرة إلى جنوب وشمال شرق إسبانيا.. بيان اليوم ترصد تداعيات الجفاف

انجاز: عبد الصمد ادنيدن

في البدء كان الماء؛ في البدء كان الماء، وعلى مر التاريخ شكل الماء، ولا يزال، رمزا للحياة، وارتبط بقيام الحضارات على جانبي النهر الذي مثل ملجأ للإنسان يأوي إليه بعد وحشة الكهوف، فالماء الذي يحيي الأرض ويسهم في إثمارها في إمكانه المشاركة في إحياء كل شيء، حيث إن الأساطير والأديان والميتولوجيات تحكي لنا عن اشتياق أرض بور إلى قطرة ماء تبعث فيها الحياة من جديد وتؤهلها للمهمة التي خلقت من أجلها، لذا فإن انحباس المطر وسيطرة الجفاف يقود إلى موت الحياة في البشر والشجر والبقر، إنها حكاية معاناة الإنسان مع إكسير الحياة أي الماء، فكيف تبدأ الحكاية ؟ تبدأ حكايتنا بصورتين تراجيديتين تفصل بينهما آلاف الأميال من حيث التموقع الجغرافي؛ إلا أن موضوعهما واحد، وهو حقيقة واحدة تجمع مئات المعنيين بها، تبدأ خيوطها من الصورة الأولى حيث لم تعد هناك إلا تشققات وتصدعات للتربة وأحجار ملساء تحكي قصة نهر لم يتوقف مجراه لقرون خلت، وسكان أصبحوا يرهنون مصيرهم للطبيعة، ولأفراد عائلاتهم المتواجدين حيث الصورة الأخرى التي تعكس ألوانها قسوة الحياة والتشتت وقمة اليأس والاختيار الأوحد المحفوف بالمغامرة والمخاطرة، بل صورة يظهر فيها أحيانا كثيرة شبح المجهول والموت القادم من الغرب.

وضعية قنوات مياه السقى

جف مجرى نهر أم الربيع عن آخره، على مستوى بني عمير وبني موسى، إقليم الفقيه بنصالح، وجفت معه آمال سكان البوادي المجاورة والفاعلين بالقطاع الفلاحي، كما هو الحال بأغلب البوادي المغربية، حيث يخيم عليها شبح الجفاف وندرة المياه، ليشد المئات من أهلها الرحال نحو ضواحي المدينة أو خارج أرض الوطن دون التفكير في النتائج أو المخاطر. عندما نعود إلى أصل الحكاية نجدها تبدأ عندما بدأت الفئة المتوسطة والفقيرة بالمغرب، تستعيد جزءا من قواها مع بداية تخفيف قيود الإجراءات الصحية، التي تم فرضها لشهور عدة، نتيجة تفشي فيروس كوفيد 19، وتستبشر خيرا مع موسم فلاحي خصب 2020-2021، حتى توالت الضربات، بداية مع موسم فلاحي جد جاف زادت من حدة أثاره اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فأصبحت هذه الفئة في مواجهة مباشرة مع الارتفاعات غير المبررة والمعقولة في أسعار كل حاجياتها الأساسية منها وأيضا الثانوية. توالت الأزمات على هذه الفئات التي تعد صمام أمان المجتمعات، أعاد ظاهرة الهجرة من القرى نحو ضواحي المدن أو خارج أرض الوطن إلى الواجهة، حيث إن الجفاف والغلاء دفع سكان القرى إلى التخلي مضطرين عن مشاريعهم الفلاحية بسبب الإفلاس، والهجرة للبحث عن مورد رزق آخر. لقد ولدت حدة الظواهر الطبيعية الشديدة المرتبطة بتغير المناخ، مثل التصحر، وندرة الموارد المائية، وتملح الأراضي الزراعية والفيضانات، من بين أمور أخرى، والتي تضاعف عددها ثلاث مرات خلال الثلاثين سنة الماضية، في كثير من الأحيان عواقب وخيمة على المجتمعات الضعيفة، اضطرت معها إلى اختيار الهجرة كوسيلة للبقاء. كما أن وجود محددات اقتصادية وديموغرافية واجتماعية وسياسية أخرى يجعل تحليل ظاهرة الهجرة العالمية الحالية أكثر تعقيدا وتحديد علاقة السبب والنتيجة بين مطرقة  تغير المناخ وسندان الهجرة. هنا نقف لنتساءل؛ هل فعلا تعتبر الهجرة من القرى نتيجة حتمية مرتبطة بالجفاف والتغيرات المناخية، أم ترتبط بالسياسة الفلاحية المتبعة؟ ما مصير أولئك الذين ركبوا الأخطار للوصول إلى الوجهة التي يرون فيها نجاتهم سواء كانت بضواحي المدن أو خارج الوطن؟ هل هناك حقوق تم تأمينها للفلاحين الذين تشبثوا بأراضيهم رغم الجفاف والأزمات؟ هل لدينا رؤية واضحة لتدبير الأزمات القادمة؟ بناء على هذا الاستطلاع الأولي بدا لنا أن التوغل في أعماق الظاهرة يتسع بشكل متزايد ويطرح إشكالات متشابكة حول الجفاف والقرية والهجرة والفلاح والمدينة والسياسات الفلاحية، لذا كان لزاما وضع فرضيات هي كالتالي: < نفترض أن السبب الرئيسي للهجرة من القرى هو ندرة المياه نتيجة توالي سنوات الجفاف؛ < تشكل السياسات الفلاحية المعتمدة منذ سنوات أحد الأسباب المباشرة للهجرة الداخلية والخارجية؛ < الهجرة الداخلية والخارجية إحدى تمظهرات تحالف الجفاف والسياسات الفلاحية؛ وللتحقق من هذه الفرضيات التي بنيناها من خلال الملاحظات الأولية، أجرينا تحقيقا بجريدة بيان اليوم على مدى شهرين بين البحث الأولي (تجميع الوثائق والمعطيات وتحليلها) وتحديد مجال البحث والعينة المستهدفة، ثم النزول للميدان في مرحلة ثانية اعتمادا على تقنية سير الحياة والمقابلة الموجهة وتحليل الوثائق، حيث تم خلال هذه المرحلة قطع آلاف الأميال (منها قرابة 1442 كلم داخل التراب الوطني أغلبها على مستوى جهة بني ملال خنيفرة والتي اتخذناها مجالا للتحقيق في الموضوع لضمها أكبر سهل فلاحي على المستوى الوطني؛ ومن هناك إلى الجارة الشمالية إسبانيا التي تمثل وجهة رئيسية يقصدها المهاجرون من أراضيهم بغية البحث عن الفردوس المفقود في أرضهم (40 كلم بحرا نحو الجارة الشمالية و1258,8 كلم برا على مستوى التراب الإسباني ثم 1320 كلم جوا عودة نحو الوطن).

وضعية بين الويدان

ولا بد من الإشارة إلى أنه تم العمل، طيلة فترة الاشتغال في التحقيق، على التواصل مع مؤسسات رسمية مركزية للحصول على معطيات دقيقة وأجوبة عن عدد من التساؤلات العالقة، إلا أن وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة إلى جانب المندوبية السامية للتخطيط كانتا المؤسستان الوحيدتان اللتان تجاوبتا معنا بشكل إيجابي وقدمتا لنا ما هو متوفر لديهما، في حين تعذر الوصول إلى معطيات وإجابات من مؤسسات أخرى رغم توصلها بالطلب والأسئلة، خاصة وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، وكذا وزارة التجهيز والماء، رغم تربعهما على قائمة المسؤولية فيما يرتبط بموضوعنا؛ فيما كان التواصل على المستوى اللامركزي إيجابيا، حيث فتح كل من رئيس الغرفة الفلاحية لجهة بني ملال خنيفرة محمد رياض، ومدير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لتادلة والمدير الجهوي للفلاحة لجهة بني ملال خنيفرة سعيد أقريال، أبوابهما أمام كل تساؤلات الجريدة.

تنويه هام: >رحلتنا الميدانية على المستوى الوطني تمت في الفترة ما بين 2 و6 فبراير 2023 > رحلتنا على مستوى إسبانيا تمت بين 11 و20 فبراير 2023

**********

سنوات الجفاف والسياسة المائية تتحالفان ضد الفلاح المغربي

أنبوب كان يضخ المياه من النهر قبل أن يجف لسقي الزراعات

في جولتنا التفقدية لمجال التحقيق (جهة بني ملال خنيفرة) نقف على حجم المعاناة، حيث الوجوه الشاحبة، وفقدان الأمل؛ أراضي جرداء هنا وعشب مصفر هناك، ومجاري مياه السقي جافة عن آخرها تعبر من هنا وهناك عبر أراض شاسعة؛ صور متفرقة لمحاولات إحداث ثقوب عميقة (آبار) بحثا عن الماء، ليس بعيدا عن أخرى جافة بعمق يتجاوز المائتي متر؛ أبواب موصدة لتعاونيات تجميع الحليب وكذلك معاصر زيت الزيتون، وعشرات البيوت السكنية الفارغة وأخرى لم يعد يعمرها إلا الآباء والأمهات والأجداد والجدات…؛ هذا هو المشهد العام على مستوى جهة بني ملال خنيفرة، التي كانت إلى زمن قريب بمثابة المخزون الاستراتيجي لبلادنا للعديد من الخضر والفواكه والحبوب ثم مصدرا للزيت والزيتون ذو الجودة الأولى على المستوى الوطني. وتشير الأرقام الرسمية الحديثة التي تمكنت بيان اليوم من الحصول عليها، إلى تزايد العجز المائي على مستوى الجهة، التي تضم أكبر سهل فلاحي على المستوى الوطني (سهل تادلا) بشكل مقلق خلال السنوات الأخيرة. وأصبحت تعيش الجهة، التي تبلغ مساحتها الإجمالية 2811000 هكتار، منها 960000 هكتار صالحة للزراعة (17005 هكتار فقط مستغلة فلاحيا)، حسب الإحصائيات الرسمية التي تحصلنا عليها، (تعيش) خلال السنوات الأخير على وقع تردي كبير ومتواصل لحقينة السدود ومقاييس التساقطات المطرية، إضافة إلى القطع التدريجي لمياه السقي، ثم جفاف مياه الآبار والأنهار.    أرقام مخيفة لسنوات عجاف هنا تقف “بيان اليوم” أمام المشهد الأكثر رعبا في زياراتها الميدانية لمعاينة الأوضاع على مستوى الجهة التي تم اختيارها مجالا للتحقيق لضمها أكبر سهل فلاحي بالمغرب، هو الجفاف الكلي للمجرى الرئيسي لنهر أم الربيع على مستوى منطقتي بني موسى* وبني عمير*.

التساقطات المطرية المسجلة بالمدار السقوي

النهر الذي يتربع من حيث الطول والمياه المصرفة، في الرتبة الثانية على المستوى الوطني، ينبع من سلسلة جبال الأطلس المتوسط ويتجه غربا ليصب في المحيط الأطلسي عند مدينة آزمور الماثلة على ضفته اليسرى، على طول 555 كم، والذي كان يصل معدل تصريفه للمياه إلى 117 متر مكعب في الثانية (م³/ث)، ولم يشهد التاريخ عن جفافه يوما، لم يتبقى منه اليوم إلا تشققات وتصدعات التربة الجانبية الناتجة عن الجفاف التام للمياه والصخور الملساء التي كانت تشكل عمق النهر؛ كآثار لتدفقات النهر الغزيرة يوما. في صورة أخرى ليست أقل رعبا من الأولى، عاينت بيان اليوم تراجعا كبيرا لتدفقات شلالات أوزود ومجاري الوديان المجاورة لها، بل إن بعضها جف بدوره؛ وفي منطقة بين الويدان أيضا تم الوقوف على تراجع مفزع لمنسوب مياه حوض سد بين الويدان، الذي يرتبط بنهر أحنصال ووادي العبيد.

تطور حقينة سد بين الويدان مع بداية كل موسم فلاحي (م م3)

في هذا السياق، أكد الشوقي المنصوري، عامل فلاحي بضيعة على مستوى منطقة أولاد زهرة، جماعة أولاد زمام، إقليم الفقيه بنصالح، أن بوادر الجفاف الأولى بالمنطقة بدأت قبل 5 سنوات مع الشروع في قطع المياه عن السواقي المخصصة للسقي الفلاحي. وشدد الشوقي، على أن ما زاد الطين بلة هو قرار تشديد مساطر تسليم رخص حفر الآبار التي تقابل غالبا بالرفض، إضافة إلى جفاف الآبار القديمة. على مستوى الضيعة التي يشتغل فيها الشوقي، والتي تعود لملكية مهاجر مغربي بإسبانيا، يوجد بئر قديم شبه جاف على عمق 88 مترا، يضخ الماء لنصف ساعة ثم يتوقف لثلاث ساعات ويعود للضخ من جديد، حيث يتم تجميع المياه بهذا الشكل لسقي الزيتون في محاولة لإنقاذه لأجل مواسم الإنتاج القادمة، كما أوضح العامل الفلاحي نفسه. بدوره أبرز الفلاح والكساب مرزوك الحسين، بمنطقة أولاد رحو، بالجماعة والإقليم نفسهما، أنهم فيما مضى كانوا يعتمدون على آبار لا يتعدى عمقها 15 مترا تضخ المياه بدون انقطاع، مشددا على أنه بشكل شخصي كان يسقي فيما مضى أرضه كل أسبوع لمدة ست ساعات “بالبيرنار” على بعد 5 أمتار فقط، إلى أن بدأ منسوب المياه يتراجع، بسبب تراجع التساقطات المطرية؛ ثم بعدها بدأ العمل ببئر “الصوندا” على غرار باقي سكان المنطقة، الذي وصل عمقه إلى 30 مترا، لكن بعدها جف من الماء، ثم حفر بئرا ثالثا بعمق 60 مترا جف بدوره من الماء. وأكد الحسين، بخيبة أمل بادية للعيان عن التقهقر التدريجي لأوضاع المياه نحو الحضيض بالمنطقة، أنه تم قطع مياه السقي على الفلاحين دون طرح أي بدائل في ظل جفاف الآبار والأنهار وشح التساقطات المطرية. وتشير الأرقام التي حصلت عليها بيان اليوم، من مصدر رسمي خاص، الواقع الظاهر للعيان، وروايات الفلاحين المعنيين، حيث تظهر تراجعا مهولا في حجم التساقطات المطرية وحقينة السدود على مستوى الجهة التي يبلغ عدد سكانها بالقرى 1282000 نسمة؛ فعلى مستوى المدار السقوي لتادلة، تراجعت التساقطات المطرية من 529 ملم سنة 2009 إلى 151 ملم سنة 2022 وهي نسبة لم تعرفها المنطقة طيلة العقود الستة الماضية حسب الإحصائية الرسمية الموضحة في المبيان المرفق.

واردات السدود على مدى العقد الأخير

بدورها تراجعت حقينة السدود بالجهة التي تتميز بتربية المواشي والأبقار حيث تكشف الإحصائيات الرسمية عن 378100 من الأبقار و2927220 من الأغنام ثم 890000 من الماعز؛ وتؤكد الأرقام التي حصلت عليها بيان اليوم عبر مصادر رسمية خاصة ما بسطناه آنفا بشأن أوضاع الأنهار والوديان والسدود بالمنطقة، حيث إن حقينة سد بين الويدان تراجعت من 993 مليون متر مكعب في موسم 2010-2011 إلى 115 مليون متر مكعب فقط في موسم 2022-2023، فيما تراجعت واردات السد نفسه من 677 مليون متر مكعب في موسم 2011-2012 إلى 135 مليون مكعب فقط في موسم 2021-2022.

تطور الحصص المائية المخصصة للمدار السقوي لتادلة

من جهتها، تراجعت حقينة سد أحمد الحنصالي من 993 مليون متر مكعب في موسم 2010-2011 إلى 55 مليون متر مكعب فقط في موسم 2022-2023، فيما تراجعت وارداته من 599 مليون متر مكعب في موسم 2011-2012 إلى 275 مليون مكعب موسم 2021-2022.

تطور حقينة سد أحمد المحنصالي مع بداية كل موسم فلاحي (م م3)

كما تؤكد الأرقام، الخاصة بحصص السقي، انقطاع مياه السواقي المخصصة للسقي على الفلاحين بشكل تدريجي خلال السنوات الأخيرة، وتراجع حصص السقي للمزارعين التي كانت تصل حتى 1100 مليون متر مكعب موسم 1979-1978 لبني موسى وبني عمير معا إلى 110 مليون متر مكعب فقط موسم 2021-2022. وفي هذا الصدد، طبعت بني عمير موسم 2017-2018 على 197 يوما من السقي استمرت في التراجع إلى 24 يوما فقط خلال موسم 2021-2022، ليتم تسجيل ارتفاع عدد أيام التوقف عن السقي من 168 يوما موسم 2017-2018 إلى 341 يوما موسم 2021-2022؛ وتم تسجيل آخر عملية سقي قد تمت بالنسبة لبني موسى في 01 ماي 2022 أي بمدة توقف تجاوزت 9 أشهر إلى حد يومنا هذا. بدورها سجلت بني موسى تراجعا في عدد أيام السقي من 195 يوما موسم 2017-2018 إلى 44 يوما فقط موسم 2021-2022، فيما سجلت ارتفاعا في عدد أيام التوقف عن السقي من 170 يوما موسم 2017-2018 إلى 321 يوما موسم 2021-2022؛ وتم تسجيل آخر عملية سقي قد تمت بالنسبة لبني عمير في 31 ماي 2022 أي بمدة توقف تجاوزت 8 أشهر إلى حد يومنا هذا.

شبح الندرة والتصحر في كتاب “المغرب.. العدالة المناخية، استعجالات مجتمعية”، وهو مؤلف جماعي صدر باللغة الفرنسية، رصد الكاتب هشام حذيفة عضو الشبكة المغربية لصحفيي الهجرات إلى جانب الفريق المشارك في المؤلف عدد من المناطق الأخرى التي تعاني من شح المياه، واشتغلوا كذلك على قضية الرحل، حيث كان واضحا جدا من خلال أبحاثهم تأثير التغير المناخي على مجالهم. وفي هذا الصدد، أشار حذيفة في حديثه لبيان اليوم إلى أنهم اشتغلوا في مؤلفهم أيضا على الواحات بمنطقة سكورة التي تبعد بحوالي 30 كيلومترا على ورزازات، حيث رصدوا تضخم مشكل التصحر وشح المياه، وانعكاساته عليها.

“قطرة قطرة”.. يجف الواد المعاناة لم تبدأ هذه السنة التي وصفت بكونها جافة، بل منذ سنوات والفلاحون الصغار يعانون جراء قطع مياه النهر ومجاري السقي دون أي توضيح لمآل استغلالها وأسباب هذه الخطوات القاتلة للفلاحين الصغار؛ وفي هذا الصدد تساءل الفلاح والكساب مرزوك الحسين مستنكرا عن مآل المياه التي لم يشهد شاهد على انقطاعها منذ زمن بعيد نهائيا، مستطردا: “لا أتحدث عن الآن حيث نقول بأنه الجفاف، لكن لا يمكن أن نرجع الوضع كله للجفاف، فمنذ أربع سنوات أو ثلاث أصبحوا يقطعون عنا الإمدادات بالماء طيلة أربعة أشهر ثم يعطوننا بعدها الحق في أن نسقي مرة واحدة “سْكْية” ساعتين فقط لكل هكتار؛ وهذا الوضع قد بدأ في وقت كانت فيه المياه جد متوفرة وكانت الأمطار مستمرة والسد كان ممتلئا!! ثم في السنتين الأخيرتين قاموا بقطعه بشكل تام، واستمر الماء منسابا عبر المجرى الرئيسي للواد، ثم بعدها قاموا بقطع الماء عن هذا النهر أيضا بشكل كامل (نهر أم الربيع)، أين ذهب هذا الماء؟ سيقولون إنه الجفاف!! نعم، نعلم أنه منذ سنتين تراجعت التساقطات الأمطار، لكن قبل هذا أين كان يذهب الماء؟ لماذا كنا نسقي لمدة ساعتين فقط؟ كنا نسقي طيلة ست أو سبع ساعات سابقا فإذا بنا أصبحنا نسقي ساعتين لكل هكتار فقط، أصبح لا يكفينا حتى في سقي الزيتون، توقفنا عن القيام بالزراعات الأخرى واعتمدنا على الآبار وتوقفنا عن اعتماد قناة السقي (القادوس) لأنه أصبح لا يكفينا حتى في سقي الزيتون، ثم قطعوا الماء بشكل كلي، قبل أن تجف الآبار بدورها”. من جهته، وبحسرة شديدة، أكد ربيع حديث والده الحسين، موضحا أنه في المنطقة كانوا يعتمدون على مياه نهر أم الربيع التي لم يشهد شاهد على جفافها رغم مواسم الجفاف الحادة التي عرفتها المنطقة سابقا، مردفا: “أصبح الوضع اليوم جد متأزم، نتمنى الأفضل”. وباستغراب شديد، قال أخ الحسين، مصطفى مرزوك، الذي التقينا معه في الجزء الثاني من زيارتنا الميدانية التي تمت على مستوى إسبانيا: “نهر أم الربيع لم يسبق أن انقطع، كنت أدرس في أولاد مراح سنة 1990 وأتوجه عبر دراجتي الهوائية من المنزل إلى الإعدادية، وكنت أمر فوق قنطرة الواد وأجده يتدفق بقوة، فكنت دائما أخاف من أن يفيض علينا.. لكن أن نراه قد جف فهنا نعلم أن القصة انتهت”.

خيارات زراعية مستنزفة للموارد بحدس الفلاح وسلامة فراسته يستدرك الحسين مرزوك في حديثه، متسائلا: “الجفاف الصعب كان هذه السنة والسنة الماضية لكن قبلهما ما سبب تراجع منسوب المياه؟”، قبل أن يعود مجيبا عن تساؤله ويعزو ذلك إلى استنزاف الفرشة المائية من طرف أصحاب الضيعات الكبرى، الذين يعتمدون زراعات تستهلك المياه، واستغلال المياه من طرف بعض الشركات الصناعية. وأضاف المتحدث نفسه أن أصحاب الضيعات الكبرى، كانوا يعتمدون الرشاشات في السقي، مبرزا أنه في الوقت الذي كان يمتلك الفلاحون الصغار آبارا بعمق 60 مترا كانت الضيعات الكبرى تحفر آبارا بعمق 400 متر، يزودونها بمحركات بسعة 60 لتر أو 70 لتر، بينما الفلاحون الصغار يريدون فقط السقي ب40 لتر. في هذا الصدد، للوقوف أكثر على هذه النقطة التي ترتبط بالمسؤولية والمسببات في علاقتها بالمناخ، عدنا إلى عضو الشبكة المغربية لصحفيي الهجرات، هشام حذيفة، الذي سجل في حديثه مع بيان اليوم أن الأسئلة المناخية لا تزال رهينة المعضلة الكلاسيكية بين الاقتصاد والايكولوجيا، وبين ضرورة عمل الناس وبين حفظ الطبيعة والصحة، معتبرا أن ذلك ينتج عنه بالبلاد “فلاحة مكثفة” وسياسة موجهة أساسا نحو التصدير؛ وهو ما يؤدي في حالات إلى “تنمية متمركزة على الإحصائيات، على حساب الطبيعة والإنسان”. وربط المتحدث نفسه، الذي اشتغل عبر مشاركته في المؤلف على منطقة سوس التي تعاني بشكل كبير من مشكل الماء، إشكالية ندرة المياه بالخيار الزراعي الذي يستنزف ماء البلد ويدفع إلى تراجع الماء الصالح للشرب للساكنة؛ مستطردا: “لأن الأولوية معطاة للفلاحة أكثر من الساكنة في الماء، نحن اشتغلنا على سوس ولاحظنا هذا المشكل بشدة”. وعلى خلفية توجيه أصابع الاتهام من قبل المزارعين والفاعلين بالقطاع في الوصول إلى هذا الوضع إلى “الخيارات الزراعية التي تشجعها الدولة”، لا بد من الإشارة أيضا إلى أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بدوره نبه بداية فبراير الماضي، إلى تأثير استمرار بعض الزراعات الاستوائية، مثل البطيخ الأحمر والأفوكادو، في بعض المناطق الجافة على الاستقرار الاجتماعي. وقال المجلس في تقرير له حول “الحق في الماء: مداخل لمواجهة الإجهاد المائي بالمغرب”، إن “التغيرات المناخية تؤثر بشكل واضح على بعض المنتجات الزراعية، وأن “استغلال المياه الجوفية من أجل السقي الزراعي في المناطق الجافة يساهم في استنزافها مع توالي سنوات الجفاف”. تقرير المجلس رصد كذلك وجود مشاكل على مستوى تدبير الثروة المائية، مؤكدا كثرة المتدخلين وغياب الرقابة على الاستغلال والتقييم المستمر للوقوف على نجاعة بعض الاختيارات، معتبرا أن الحكامة من بين الأمور التي أوصلت المغرب إلى وضع الإجهاد المائي الحالي.

**********

**لا بد من الإشارة إلى أن بني موسى وبني عمير هما مجالين فلاحيين جد شاسعين بسهل تادلة -أكبر سهل فلاحي بالمغرب-، حيث إن قبيلة بني عمير تابعة لاتحادية قبائل تادلا السفلية، التي تضم أيضا قبيلة بني موسى وقبيلة أيت الربع، وقاعدتها مدينة (الفقيه بن صالح)، وتحدها شرقا قبيلة أيت الربع حيث تقع قاعدة منطقة تادلا مدينة بني ملال، وشمالا قبيلة ورديغة، وغربا قبيلة بني مسكين، وجنوبا قبيلة بني موسى، وتمر في أراضيها الطريق الرئيسة الرابطة بين شمال ووسط المغرب أي ما بين الدارالبيضاء وبني ملال.

وبدورها بني موسى، قبيلة تادلاوية تابعة لاتحادية قبائل تادلا السهلية الوسطى، وقاعدتها مدينة (دار ولد زيدوح)، أما حدود مجالاتها فتحدها شرقا قبيلة أيت الربع حيث تقع قاعدة منطقة تادلا مدينة بني ملال، وشمالا قبيلة بني عمير، وغربا قبيلة السراغنة، وجنوبا قبيلة أيت بوزيد وقبيلة أيت عتاب وقبيلة انتيفة، ويشقها وادي أم الربيع من الشرق إلى الغرب، كما تمر في أراضيها الطريق الرئيسة الرابطة بين شرق وغرب المغرب أي ما بين مراكش والراشدية عبر بني ملال شمال جبال الأطلس الكبير.

**********

رياض محمد رئيس الغرفة الفلاحية لجهة بني ملال خنيفرة لـ : عندما يحرم الفلاحون من موردهم ويغيب البديل فانتظر الأسوء

أثناء الحوار مع محمد رياض رئيس غرفة الفلاحة لجهة بني ملال خنيفرة

قال محمد رياض رئيس الغرفة الفلاحية لجهة بني ملال خنيفرة، إن عددا كبيرا من سلاسل الإنتاج التي عمل عليها المخطط الأخضر اختفت واندثرت، موضحا: “على سبيل المثال أن جميع تعاونيات الحليب فشلت وتوقفت عن جني الأرباح، عندما نقول بأن التعاونية فاشلة سنعود إلى الفلاح صاحب الأبقار الذي ما عاد لديه أبقار، أي توقف الفلاح عن تربية البقر وتوقف عن ممارسة هذه المهنة؛ إذن كميات الحليب أصبحت قليلة جدا”. وأكد المهندس الفلاحي رياض، في حوار خاص مع جريدة بيان اليوم، أن رؤساء الغرف كانوا على علم مسبق بهذا الوضع الحالي، مشددا على أنهم دقوا ناقوس الخطر، منذ سنة، واستطرد: “ربما سأفاجئكم إن قلت لكم إن القادم أسوأ، كنا نعلم أن اللحوم ستصل إلى 100 درهم، نحن مسؤوليتنا كرؤساء غرف كممثلين للقطاع، وكجهات تحاور الوزارة مهمتنا أن نبلغ المعلومة الصحيحة في الوقت الصحيح، نحن قمنا بالإبلاغ”. واعتبر رياض أنه على المغاربة أن يعوا بأن هناك مشكلا كبيرا في الماء، وليس على القطاع الفلاحي بمفرده أن يتحمل تبعات هذا المشكل الذي لا دخل له فيه، معتبرا أن الجميع يحملهم المسؤولية وهذا خطأ، وأن القطاع الفلاحي هو قطاع مستخدم للماء ولا يخزنه. وأردف رياض: “ربما خجل الفلاحون الذين التقيتهم من أن يقولوا لك أنهم يفكرون في الانتحار…؛ أنا كرئيس للفلاحة أقول ليكن الله في عونهم، لحسن الحظ أنهم يؤمنون بالله والقضاء والقدر، على هؤلاء الناس أن يخرجوا للشارع، فقد حرموا من معيشتهم وقوتهم اليومي ولم يعطى لهم البديل”. وهذا نص الحوار:

< بداية، إلى أي حد يؤثر الجفاف وندرة المياه على الوضع الفلاحي بالمنطقة ؟ 

> جهة بني ملال خنيفرة، معروفة بأنها من الجهات الفلاحية بالمغرب، وتعيش وضعا متأزما في الجانب الفلاحي كباقي المناطق في المغرب، وهذا الوضع المتأزم كان نتيجة لسنوات من الجفاف، حيث يمكن اعتبار سنة 2023 السنة السادسة للجفاف، أي أنه استمر طيلة ست سنوات الماضية، خاصة في منطقتنا. إذن ما دام هناك جفاف فإن له تأثير سلبي على قطاع الفلاحة، وهذا ما أدى إلى تضرر سلاسل كبيرة من الإنتاج والتي تعد سلاسل كبرى ومنظمة، حيث وصلت حدها الأقصى للتحمل؛ فأي سلسلة بلغت الحد الأقصى للتحمل يمكن أن يحدث كسر فيها ونفقدها بصفة عامة.  بالفعل اليوم إذا أردنا أن نقيم سلاسل الإنتاج سأقول لكم بأن عددا كبيرا من سلاسل الإنتاج التي عمل عليها المخطط الأخضر اختفت واندثرت، فمثلا سلسلة الحليب نجد اليوم أن جميع التعاونيات فشلت وتوقفت عن جني الأرباح، وعندما نقول بأن التعاونية فاشلة سنعود إلى الفلاح صاحب الأبقار الذي ما عاد لديه أبقار، أي توقف الفلاح عن تربية البقر وتوقف عن ممارسة هذه المهنة؛ إذن كميات الحليب أصبحت قليلة جدا. اليوم إذا لاحظتم فوزارة الفلاحة أو السلطات المعنية فتحت الباب لاستيراد مسحوق الحليب وذلك للتقليل من الضغط الذي سيكون في شهر رمضان، على أساس أن هذا المسحوق سيعتمد في مشتقات الحليب. نحن كرؤساء الغرف كنا نعلم هذا، قمنا بدق ناقوس الخطر، منذ سنة ونحن نعلم ما سيحدث، وربما سأفاجئكم إن قلت لكم إن القادم أسوأ، كنا نعلم أن اللحوم ستصل إلى 100 درهم، مسؤوليتنا كرؤساء غرف وممثلين للقطاع، وكجهات تحاور الوزارة مهمتنا هي تبليغ المعلومة الصحيحة في الوقت الصحيح، ونحن قمنا بالإبلاغ مبكرا.

< إذن أين يكمن الإشكال، ألم يكن هناك تفاعل واهتمام أم أن المسألة تفوق قدرات الجهات الوصية على القطاع؟

> يقول المثل التمسوا العذر للناس؛ نحن نبلغ الخبر، لكن الواقع الحالي والأزمة العالمية والتغيرات المناخية “ففوق طاقتك لا تلام”، نرى أن الدولة حاليا رغم أننا أبلغناها بالمعلومة ليس لديها ما تقوم به لتحل المشكل من جذوره، لكن كان بإمكانها أن تنقص من التأثير السلبي لهذه الآفة والكارثة التي حلت بنا. لا يمكن أن أقول لك إنها لم تقم به، لكنها لم تقم ببعض الأمور اللازمة منها، أو قامت بأمور يجب أن لا تقوم بها؛ مثلا لدينا أزمة جفاف وماء، فجميع الساسة وأصحاب القرار يخشون من مشكل الماء الصالح للشرب، لدرجة أنهم يعدمون باقي القطاعات خوفا منه؛ تصور بأن الإقليم أو المدار السقوي لبني عمير وبني موسى لم يحض بأي سقي منذ مارس من السنة الماضية، فإذا قال الفلاحون إنهم قاموا بقطع الماء عليهم، هم محقون في ذلك، لقد قاموا بقطع الإمداد بالماء عليهم. تصور أن محيط دكالة للسنة الثالثة تواليا لم يحصل على الماء؛ المدارات السقوية كلفت الدولة المال الكثير، وقنوات الري تندثر بفعل عدم وجود الماء فيها وستضيع منا؛ ستقول لي الماء غير موجود، سأقول لك بأنه كان هناك حل؛ خلال السنة الماضية انطلاقا من شهر يونيو ويليوز عقدنا اجتماعات دورية مع من سيتخذ قرار التوزيع وهم وكالات الحوض المائي، وقدمنا سيناريو لكي نحل المشكل، أي أن يتم فتح السقي لمرتين كي نستطيع الحفاظ على الأقل على مكتسبات الأشجار وتستمر في الحياة؛ فالأشجار ليست منتوج سنة واحدة بل منتوج 5 أو 10 سنوات، ونحن نريد أن تظل على الأقل على قيد الحياة. قلنا لوزير الفلاحة نحن الفلاحون نعيش على الأمل، لا يمكن أن نقول بأن الجفاف آت إذن سنتوقف، مستحيل، هذه السنة حرثنا الأرض رغم غياب المطر، ونريد من المسؤولين أن يعيشوا معنا على هذا الأمل؛ مكنونا من السقي لمرة أو مرتين، علما أننا في البرنامج كنا قد اتفقنا على أن نقوم بالسقي لأربع مرات، قلنا لا بأس لنكتفي بالسقي لمرتين  لكن على الأقل اسمحوا للبرتقال وللزيتون بأن يستمر في الحياة. طلبنا وكافحنا كثيرا إلا أننا لم نحصل عليه، لا أحمل وزارة الفلاحة المسؤولية، فالوزاة في صفنا، المشكل في وزارة الداخلية، لأن الأمر أصبح مرتبطا بالأمن، لأنها تقول لك بأن مدينتي الدار البيضاء والجديدة إذا لم تتوصلا بالماء الصالح للشرب ستنشب الفوضى، فخوفا من الجانب الأمني قاموا بإعدام القطاع الفلاحي، وفي سبيل الماء الصالح للشرب وقع ما وقع. الماء الذي أطلقناه من السدين معا، أي 120 مليون متر مكعب كي يتم توجيهها للمسيرة لأجل السقي لم تصل منها سوى 60 مليون متر، بينما 60 مليون ضاعت، والتي كان بإمكاننا أن نحل بها إشكالية السقي.  المغاربة يجب أن يعوا بأن هناك مشكل كبير في الماء، وليس على القطاع الفلاحي بمفرده أن يتحمل تبعات هذا المشكل الذي لا دخل لنا فيه، فالجميع يحملنا المسؤولية وهذا خطأ، القطاع الفلاحي هو قطاع مستعمل للماء؛ أنا استعمله لسقي البطاطس حتى يستهلكها “الفقير” وليس كي أخزنه أو أحتكره بل يستفيد منها المغاربة جميعهم؛ فعندما تأتي الأزمة ليس علي تحملها بمفردي، فشخص ما في المعاريف (حي راق بالعاصمة الاقتصادية) مثلا سيأتي يوم ويفتح الصنبور ولن يجد ماء، عليه أن يعلم بهذا، أن يعي بأن لتر الماء الذي سيضيعه هو سيحرم منه حديقة في تادلة؛ مواطني الدار البيضاء لأنهم ربما محظوظون لم يشعروا أبدا بخطورة الوضع ولم يقطع عليهم الماء ولو لمرة واحدة، لكن نحن تضررنا، فإذا كانت الدولة اجتماعية فيجب عليها أن تبتعد عن اقتصادنا، لقد حرمتني من مورد أساسي، من حقي في الماء، لدى يجب أن تعوضني عنه، فذاك الذي يقطن بالبيضاء عليه أن يدفع مقابل هذا، إذا كان سيتناول فطيرة كاملة ليتناول نصفها ويدفع لي جزء من خسائري كي أستمر في العيش.

< باعتباركم قريبون من الفلاحين وهمومهم، كيف يعيشون حاليا في هذه الظروف خاصة في سياق الغلاء المعيشي؟ وما الحلول التي يلجؤون إليها؟

> ربما خجل الفلاحون الذين التقيتهم من أن يقولوا لك أنهم يفكرون في الانتحار؛ أنا كرئيس للفلاحة أقول ليكن الله في عونهم، لحسن الحظ أنهم يؤمنون بالله والقضاء والقدر، على هؤلاء الناس أن يخرجوا للشارع، فقد حرموا من معيشتهم وقوتهم اليومي ولم يعطى لهم البديل، فمن لم يسق لم يقدم له أي بديل، لم يتم تعويضهم، إذن ماذا تظن أنهم سيفعلون؟!، نحن كممثلين عنهم، نحن “الباطرونا”، نحن كابحو الصدمات، يستمرون في شتمنا، وأقول  للفلاح ربما معك حق اشتمني، فربما لم استطع الدفاع عنك والحفاظ على حقك، أما أنا فيجب أن أذهب للوزارة وأعتصم، أن أذهب للحكومة أو البرلمان وأقف سدا أمامه، قطاعي تم إعدامه في سبيل أمن البلاد ولم يتم تعويض الفلاحين الذين أمثلهم، هذا هو دوري.

< لاحظنا أن بعض الفلاحة يبحثون عن بدائل لماء السد فيقومون بحفر آبار، ولكن هناك من قام بالحفر حتى 200 متر دون أن يجد ماء، أين يكمن المشكل، أين ذهبت الفرشة المائية؟

> المشكل عادي، لأنه طيلة خمس سنوات لم تكن هناك تساقطات، الفرش المائية تعتبر سطحية، وهذه فرش لا تمتلئ إلا بتساقط المطر، نحن لمدة خمس سنوات نشتغل بالاحتياطي لذلك لم يظهر المشكل، هذا الاحتياطي من الماء يتجدد لكن مع عدم تساقط الأمطار لم يتجدد، مسألة بديهية وعادية، لم يتم استنزاف الفرشة المائية بل تم استعمالها. مدة خمس سنوات والمغاربة لا يعلمون عن الوضع شيئا، يتجهون للأسواق ب100 درهم ويشترون خضرهم، لأن الفلاحة رغم تراجع المياه وارتفاع تكلفتها، يأخذ الخضر ويوصلها  للأسواق  حيث يجدون كل شيء متوفرا. لكن لكل شيء حدوده، ونحن وصلنا للحدود النهائية لهذا النظام، فالأمطار لم تتساقط إلى حدود الساعة، ما يعني أن الوضعية ستتأزم، لا يوجد ماء إذن لا يوجد إنتاج؛ إذن ماذا سيأكل المغاربة؟! حينها ليكتفوا بالماء الصالح للشرب وليبحثوا عما يسد رمقهم؛ كيف سننتج البطاطس وهي تحتاج لأن تسقى؟ ذات الأمر بالنسبة للبصل…، إذن فلتجهز شيء آخر للغذاء، فلتبخر الماء أو لتجد حلا ما، فنحن ليس لدينا حل.

< المنطقة تعرف بأنها مصدرة للمهاجرين ومركزا لهم، إلا أن نسبة المهاجرين تزايدت في هذه السنوات، هل هذا الجفاف ساهم في ارتفاع عدد المهاجرين؟

> هناك نوعان من الهجرة بالمنطقة، هناك هجرة “النخوة” وهي التي كانت سابقا، حيث كان الماء متوفرا والسدود ممتلئة، أما الآن فتوجد هجرة الجوع. هجرة النخوة كان المهاجر إذا ما اتجه إلى البحر ووجده هائجا لا يغامر، أما الآن حتى إن كان البحر هائجا سيركبه، لأن ليس لديه شيء ليعود لأجله؛ هناك هجرة داخلية اليوم حيث ستفرغ جميع قرانا وذلك نحو المدن الكبرى، وإذا زرتم سترون بأن المنازل فارغة، ثم هناك الهجرة الخارجية.  الهجرة الداخلية أنتم تعلمون تبعاتها؛ سيغيب الأمن وتتزايد نسبة السرقة؛ وهنا تظهر أهمية القطاع الفلاحي، فلسنا نشتغل في معمل للسيارات، ولا نصمم الطائرات، لدينا الفلاحة فقط، وقاموا بإقفال صنبورها، هؤلاء الناس يجب أن يجدوا ما يأكلون، إذن لنترك لهم الماء الصالح للشرب وليعشوا في عمارات، لكن بمجرد أن يخرجوا من منازلهم سيكونون ضحية اعتداء ما، هذه هي السياسة غير المندمجة.

< وفق تعبيركم الدولة لم تتخذ الإجراءات الملائمة في الوقت المناسب، كما تنذرون بخطر أكبر في السنوات القادمة، ما الحلول التي ترون أنه يجب اتباعها كي ننقذ ما يمكن إنقاذه، وفي نفس الوقت نحافظ على الماء الصالح للشرب ونحافظ على الفلاحة والفلاحين وبالتالي التخفيف من الآثار السلبية خاصة الهجرة؟

> منذ سنة 2009 وأنا في المسؤولية، ومنذ ذلك الوقت وأنا أدعو إلى القيام بمشروعين، أولا تحويل الماء من الشمال إلى الجنوب وكذا تحلية مياه البحر بالدارالبيضاء؛ لو تم تنفيذ هذه البرامج وهي ليست بالبرامج الحديثة بل قديمة، لما عانينا من أي مشكل في جهتنا كما العديد من الجهات؛ ما وقع هو أن عددا كبيرا من الحكومات لم تستطع الغوص في صلب المشكل، الحكومة الحالية أحييها فهي حكومة التحدي، إذا لاحظتم فبرنامج الماء كان قد خصص له 115 مليار درهم قاموا برفعه إلى 150 مليار درهم لأجل تفعيل المشروعين، وهما صماما الأمان للمغرب مستقبلا. الآن 80 بالمئة من المغاربة يقطنون في المناطق الحضرية ويحتاجون للماء، لن نقول الصالح للشرب فكل فرد يمكن أن يكتفي بلترين من الماء يوميا للشرب، بل أتحدث عن الماء الصالح للاستخدام اليومي، لدى يجب تحلية مياه البحر وتخزينها؛ هذه المشاريع قديمة جدا لكن لم يتم تفعيلها لأن كل حكومة تأتي ترى بأن السدود ممتلئة فتعتبر أن الوضع غير مستعجل، وتكتفي بالترميم، وتقديم المال للموظفين؛ يظهر لها بأن الأمر ليس مستعجلا وليس أولى الأولويات، واليوم ظهر جليا بأن القطار تجاوزنا ب10 كلم، وإذا تأخرنا أكثر لن نلحقه أبدا، يمكن الآن أن نلحق به لكن سنعاني لأجل ذلك، سيكون هناك ضحايا، والضحايا هم الفلاحون، فأشجارهم لم تسقى وستموت، وبالتالي جهودهم لسنوات ستذهب سدى.

< قبل قليل تحدثت عن البدائل، ما هي البدائل المستعجلة التي تقترحون لإنقاذ الفلاح؟

> أولا يجب العودة لإلزامية الدعم، وتغيير أنظمة السقي؛ لا نطالب بأن يعطي الدعم والسكن للفلاح بمدينة الدار البيضاء بل نطالب بأن يعود لعمله، وأن تدعمه في شراء الأبقار؛ كانت الدولة تدعمه ب7000 درهم وتراجعت عنها؛ قبل أن تعيدها الآن لكن بعد أن رحل الفلاح؛ كانت الدولة تدعم الفلاح ب5 مليون و200 فرنك لكل هكتار للسقي بالتنقيط والآن أصبحت 3 مليون و200 ألف فرنك مع عراقيل عديدة؛ كانت الدولة تدعم شراء الآلات، وكانت تعفي الفلاح من TVA في السقي بالتنقيط، والآن تراجعت عن هذا؛ بقدر ما قامت وزارة المالية بتضييق الخناق على آليات الدعم إلى أن أصبح الفلاح يفضل العمل واقتناء أغراضه دون معونة من الدولة.

< إلى أي حد ترى أن التغيرات المناخية الحالية تهدد الأمن الغذائي والسلم الاجتماعي؟

> التغيرات المناخية بالفعل يمكن أن تهدد الأمن الغذائي للبلاد في حالة ما لم يتم التكيف معها في أسرع وقت، نحن لسنا لا نمتلك الآليات، بل لدينا القدرة لتطوير هذا، ولدينا طرقنا الفلاحية التي يمكن من خلالها الاستمرار في الحياة رغم التغيرات المناخية، لكن يجب على الدولة أن تثق في القطاع وتدعمه وتلزمنا باعتماد التقنيات الجديدة. تصوروا على سبيل المثال هكتار من الزيتون يمكن أن يستهلك 20000 لتر مكعب في السنة، الآن هناك طرق ابتكرها الفلاحة وليس الباحثين، يمكن أن تنجح ب3000 لتر مكعب للهكتار، لكن على الدولة أن تثق فينا وتعيد لنا الدافع كي نظل فلاحين وإلا فلن نستمر في الفلاحة والأرض سيعيش فيها “الحجل” وليأت سكان المدن لممارسة القنص، ولنستورد كل شيء وندعوا الله أن يمن علينا بالغاز والبترول لنحصل على العملة الصعبة.

< منذ سنوات وعدد من التقارير الدولية والوطنية ثم فاعلين سياسيين ومدنيين يدقون ناقوس الخطر، خاصة فيما يهم طبيعة الزراعات المعتمدة بالمغرب، معتبرين أنها مستنزفة للفرشة المائية، لكن دون أي ردود فعل تذكر، باستثناء القرارات الأخيرة بشأن رفع الدعم عن بعض الزراعات أو منعها على خلفية الوضع الحاد الذي وصلته البلاد بشأن ندرة المياه؟

 

>سأتحدث معك كمهني، كمهندس فلاحي، خريج معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، وكإنسان يقوم بهذه الفلاحة؛ من يستهلك الماء أكثر هل البطيخ أم النخل؟ هكتار من النخل  يستهلك 15 ألف إلى 20 ألف متر مكعب، بينما يستهلك هكتار من البطيخ 500 متر مكعب فقط؛ أقل فلاحات استهلاكا للماء هي الخروب يليه الزيتون يليه البطيخ متبوعا بالبرتقال ثم الأفوكادو ثم الفصة، وأكثر فلاحة تستهلك الماء هي النخل، ستقول لي كيف يستهلك أكبر نسبة بينما ينمو في الأراضي الصحراوية؟ الأراضي التي نقوم نحن بغرس النخل فيها عندما نقوم بالدراسة يجب أن نتأكد من توفر 15 ألف متر مكعب في السنة من الماء.

وضعية مجاري مياه السقي قبل سنوات

< إذا افترضنا حسب قولكم أن النخل أكثر استهلاكا للماء، هل هذا يبرر الاستمرار في الزراعات الأخرى المستهلكة للمياه؟ خاصة أنه عندما نتحدث عن النخل فنحن نتحدث عن مناطق معينة ومحددة بينما عندما نتحدث عن الأفوكادو والبطيخ وغيرها فيتم زراعاتها بالعديد من المناطق خاصة منها المعروفة بجودة التربة والتي يمكن استغلالها في زراعة الحبوب؟ > أولا المغرب يزرع الحبوب في المناطق التي يمكن أن يزرعها فيها؛ إذا قارنت المساحات التي يتم فيها زراعة البطيخ بمساحات القمح فستجد أنها لا شيء، لكن إذا قارنت عائدات البطيخ مقارنة  بالحبوب فستجد أنه لا مجال للمقارنة. السياسة الفلاحية المغربية يشاع عنها أنها سياسة تصدر الماء، فالمغرب يصدر إلى حدود الساعة من الفواكه مليون و200 ألف طن بالإضافة إلى 8000 طن من الحوامض، لنقل مليونين، هذه الكمية حتى وإن خصصنا لها 10 آلاف متر مكعب للهكتار، علما أنها لا تستهلك سوى 3000 متر مكعب في المتوسط، فسنصبح بصدد ملياري متر مكعب، نصدر إذن ملياري متر مكعب، كأقصى تقدير، لكننا نستورد 100 مليون قنطار من الحبوب، والتي تتطلب بمفردها 10 آلاف متر مكعب للهكتار، أي نبيع مليارين ونستورد 8 مليار متر مكعب من الماء، وبالتالي فالسياسة الفلاحية تستورد الماء لا تصدره.

وضعية مجاري مياه السقي حاليا

< إذن هل تعتبر القرارات العاملية التي تمنع زراعة البطيخ والأفوكادو وقرارات الوزارة برفع الدعم عن هذه الزراعات “خاطئة” ولا جدوى منها؟  > بالنسبة للأفوكادو والبطيخ لم يمنعا، تم منع الدعم عنهما فقط، وأنا عارضت الوزير في هذه الخطوة، فالأفوكادو لا يستهلك الماء، تحتاج 7000 متر مكعب للهكتار، ولكن القيمة التي ستعوض هذا الماء كبيرة جدا وهي بالعملة الصعبة، كيف سنستورد اللحوم، سنستوردها بالدولار أي بالعملة الصعبة، من أين سنجلب هذه العملة الصعبة؟.

< هل الأولوية للماء والأمن الغذائي أم للعملة الصعبة؟

> أكيد المأكل والمشرب هو الأول، فكما قلت أهم شيء عند المغربي هو الخبز والشاي، أي الحبوب، لكن الحبوب نحتاج للعملة الصعبة لأجل استيرادها، نحن نصدر بعض المواد لأن المناخ المغربي يجعلها بجودة معينة، إذن نصدرها بثمن عالي، وبهذا نستورد الحبوب التي نحتاجها؛ لن يستطيع المغرب أبدا أن ينتج كل حبوبه إلا إذا توقف عن إنتاج أي شيء آخر. لدينا 15 مليار متر مكعب نقسمها على مليون هكتار يسقى، وحينها سنحقق الاكتفاء الذاتي من الحبوب لكننا لن نمتلك لا السكر ولا الزيت، والمغاربة يجب أن يستهلكوا اللحوم وغيرها، فملزمون نحن بهذه الطريقة، وهي سياسة ذكية، فالمغرب لا يصدر بل يستورد.

**********

يبس الزرع وجف الضرع وأفرغت الإسطبلات

موت أزيد من 10 آلاف شجرة زيتون بضيعة على مساحة 100 هكتار معروضة للبيع

حكاية توالي سنوات الجفاف ليست جديدة على الفلاح المغربي، فقد عاش سنوات كثيرة لانحباس أو قلة المطر، لكن المشهد المرعب حقيقة، لا يمكن أن يكون سوى الآثار الوخيمة على الوضع الفلاحي والأنشطة المرتبطة به بشكل عام على مستوى هذه الجهة الفلاحية بامتياز، التي نتخذها مجالا للتحقيق، على غرار باقي جهات المملكة التي تعرف وضعا مماثلا، ثم على الفلاحين وسكان القرى بشكل مباشر منذ مواسم وعلى وثيرة مرعبة ومخيفة.   عندما يهدد الجفاف حياة البشر والشجر والدواب على مستوى الزراعات، عاينت “بيان اليوم” ضيعات تتجاوز مساحاتها مائة هكتار تحوي أزيد من 10 آلاف شجرة زيتون، لم تعد على أصحابها بأي إنتاج خلال هذا الموسم الفلاحي، حسب ما أكده عدد من سكان المنطقة في تصريحات متفرقة؛ بل إن البعض أصبح يعرض الأشجار للبيع ليتم قطعها واعتمادها في الصناعات وغير ذلك من الاستعمالات الممكنة، على غرار إحدى الضيعات التي تمت معاينتها ضواحي جماعة الخلفية. باقي الزراعات بدورها من قبيل الحوامض كان إنتاجها ضعيفا، فيما أضحى اللون الأصفر يطغى على المساحات المزروعة بالحبوب أو تلك التي ينمو فيها الكلأ، فيما تبقى الصورة العامة تحكمها مساحات جرداء كبيرة يخيم عليها شبح الموت وتعكس حقيقة ما وصلت إليه هذه المنطقة، التي طالما ارتدت وشاحها الأخضر القاتم وغنت بسنفونية خرير مياه النهر والسواقي، وجذبت أنظار العاشقين في الطبيعة وأسالت لعاب المستثمرين في القطاع الفلاحي من كل حذب وصوب.

الشرقاوي المنصوري

في هذا الصدد، وبقلب يعتصره الألم، وعيون تختزل كثيرا من المعاناة والألم والمصير المجهول، خاطبنا العامل الفلاحي، بمنطقة أولاد زهرة، جماعة أولاد زمام، الشوقي المنصوري: “لم نعد نجد ما نأكله أو فيما نشتغل، لولا الجالية لأكلنا بعضنا”. وشدد العامل الفلاحي على أن جميع الفلاحين بالمنطقة متضررون، ويعيشون بفضل ما ترسله لهم الجالية المقيمة بالخارج، مؤكدا أن أشجار الزيتون تضررت بشكل كبير لأنهم لم يجدوا الماء لسقيها. وأضاف المنصوري أنهم يحاولون إنقاذ الأشجار من التلف النهائي عبر سقيها بالمياه التي يتم تجميعها من البئر شبه الجاف، مبرزا أن الضيعة تضم أزيد من 500 شجرة زيتون على مساحة تزيد عن هكتار واحد -عاينتها بيان اليوم-، كانت قبل خمس سنوات تغدق على المالك بأزيد من 6 طن من الزيتون، قبل أن تبدأ الكمية في التراجع إلى الصفر في هذا الموسم الأخير، حيث أكد العامل الفلاحي عدم جني أي حبة زيتون خلال هذا الموسم، فيما تم تحصيل طن واحد فقط خلال الموسم الماضي.

الحسين مرزوك

من جهته حكى لنا الفلاح والكساب مرزوك الحسين، من منطقة أولاد رحو، كيف أصبح يشتري زيت الزيتون لأجل الاستهلاك وكذلك القمح والدقيق، بعدما كان هو ينتجهم ويسوقهم؛ وهو ما أكدته معاينة “بيان اليوم” لأملاكه الفلاحية، حيث تظهر العشرات من أشجار الزيتون ترتدي وشاحا أصفرا وتظهر عليها بشكل جلي آثار “الخرف”، ينمو بجنباتها على مساحات متفرقة نبات حولي (القمح) لم يكتمل نموه وتظهر عليه آثار الاحتراق فيما تبقى المساحات الأخرى جرداء قاحلة يتوسطها بئرين جافين عن آخرهما، وهي الصورة ذاتها التي تمت معاينتها على مستوى مئات الحقول بالجهة (آبار جافة ومساحات قاحلة وأشجار أصابها الخرف ونباتات حولية ذابلة ومصفرة).   وأردف الحسين: “ما يقومون به في المدينة نقوم به أيضا في البادية؛ أصبحنا نشتري الدقيق وزيت الزيتون ونحن الذين كنا نبيعه، كيف يعقل أننا نغرس أشجار الزيتون ثم نشتري اليوم الزيت ب80 درهم؟ ماذا بعد هذا؟”. ربيع مرزوك، ابن الحسن؛ الشاب الثلاثيني يقول في حديثه لبيان اليوم إنه عاش مع آبائه وأجداده الفلاحين، وكان يقوم بالفلاحة رفقتهم، وفي هذه الفترة بسبب الجفاف الذي ضرب منطقة بني ملال خسروا فلاحتهم وأغنامهم، وتأزمت الوضعية، مضيفا: “الوضع يتجه نحو الأسفل ولا نستطيع رؤية أي مستقبل أمامنا، مستقبل منطقتنا أصبح مجهولا”.   إسطبلات فارغة وتعاونيات موصدة الأمر أشبه ما يكون بلعبة الدومينو بحيث عندما يتحرك حجر يتداعي له باقي الأحجار بالسقوط تباعا؛ وهكذا يعيشه الفلاحون مع تربية الأبقار والمواشي، فالعديد من الكسابة تخلوا عن نشاطهم، ولم يتبقى إلا إسطبلات فارغة وأخرى يسكنها الدجاج كما تمت معاينته، بعدما كانت مخصصة لتسمين الأبقار وإعداد أكباش العيد، ثم إنتاج الحليب. في هذه الظروف اضطرت أيضا عشرات التعاونيات المختصة في تجميع الحليب إلى إغلاق أبوابها بشكل نهائي، بعد أن كانت تضمن فرص شغل مباشرة لأبناء المنطقة ومدخول شبه قار للفلاحين والكسابة بشكل غير مباشر من خلال شراء مئات الأطنان من الحليب منهم بشكل يومي، والتي كانت تساهم (أطنان الحليب المجمعة على مستوى الجهة) في تأمين الحليب ومشتقاته للمغاربة بكافة جهات البلاد؛ وضعية هذه التعاونيات اليوم ومكانتها على المستوى الوطني سابقا يؤكدها وضع سوق الحليب اليوم، حيث ارتفعت أسعاره بشكل خيالي، إضافة إلى ندرته بالسوق في كثير من الأحيان؛ والأمر سيان بالنسبة لسوق الزيتون والزيت المستخرج منه، الذي عرف هذا الموسم ارتفاعا وصل إلى 100 في المائة للتر الواحد بعد أن كان يتراوح بين 40 و50 درهما.    وفي هذا الصدد، الفلاح والكساب، الحسين مرزوك، الذي لا يعد إلا نموذجا ومثالا لسكان المنطقة، فهو لم يخسر زراعته فقط، بل قمنا بمعاينة الإسطبل الذي كان يخصصه لتسمين أكباش العيد والأبقار الحلوب فارغا عن آخره إلا من بقايا روث البهائم والأغنام المكدس في الزوايا.

إسطبل فارغ كان معدا لتربية الأبقار الحلوب

ويقول الحسين: “نحن كنا نقتني المواد الغذائية من عائدات الحليب فقط؛ كنا نقوم بزراعة الفصة؛ لم نكن نشعر بالجفاف إطلاقا، أما الآن أصبحت أنا أشتري القمح، فكيف سأشتري شيئا للأبقار؟! البقرة تحتاج 100 درهم يوميا”. وأكد الحسين أنه على غرار العديد من مربي الأبقار والماشية بالقرية، تخلى عن نشاطاته لعدم قدرته على مواكبة ارتفاع أسعار الأعلاف بسبب الجفاف، مبرزا أن جميع تعاونيات تجميع الحليب أغلقت أبوابها. وتابع الحسين: “تعاونيتنا التي قمتم بمعاينتها كانت تدفع 6 حتى 7 طن يوميا من الحليب للشركة، ثم أصبحت تدفع 1500 لتر فقط، ثم أصبحت تدفع 200 لتر، قبل أن تغلق أبوابها نهائيا كما عاينتم، وقد كان أخي من العاملين فيها، وقد هاجر مباشرة بعد إغلاقها رفقة زوجته وابنته نحو الخارج”. مصطفى مرزوك أخ الحسين، والذي كان يشتغل بالتعاونية منذ سنة 2005، قبل أن يهاجر إلى إسبانيا أواخر سنة 2022 رفقة زوجته وابنتهما الصغيرة تاركا وراءه ولدين آخرين مع جدتهما، يقول إن التعاونية التي كان يشتغل فيها بعقد شغل رسمي، أغلقت أبوابها بسبب تراجع كميات الحليب وتراكم الديون.  يؤكد مصطفى الذي استقبلنا بإسبانيا خلال الجزء الثاني من زيارتنا الميدانية في إطار التحقيق، أنه كان في المغرب يشتغل بشكل جيد في تعاونية لتربية المواشي، وأخرى لتجميع الحليب، وأن الوضع كان جيدا في ظل الأمطار، حيث كانت التعاونية تستقبل 6 إلى 7 طن من الحليب يوميا، وكان الفلاحون راضون جدا؛ يبيعون الحليب للتعاونية ويحصلون على ثمنه، والتعاونية بدورها تمكن الفلاح من العلف وتدعمه مقابل تسهيلات في الأداء. وأضاف المتحدث نفسه، أن عمله بالتعاونية كان بعقد رسمي دائم، يضمن له كافة حقوقه وحقوق أسرته الاجتماعية (الضمان الاجتماعي، التقاعد، التعويض عن الأبناء…)، مقابل 4000 درهم صافية شهريا، مستطردا: “في الآونة الأخيرة توقفت الأمطار وبدأت المشاكل تتراكم على الفلاح، ولم يعد يجد كيف يشتري “التبن”، فقد أصبحت كل وحدة “تبن/بالة” تساوي 40 أو 50 درهما، فيما بلغت وحدة/بالة الفصة 80 درهما؛ والفلاح المسكين عند هذه الأزمة اضطر لبيع أبقاره؛ هناك من حاول المقاومة لكن مع الوقت أصبح تحت الضغط، فمن جهة ضغط إعالة أسرته ومن جهة أخرى يحفر بئر بالصوندا حتى عمق 260 مترا دون أن يجد الماء، وكانت هذه هي الحلقة الأخيرة”. مصطفى المنحدر من أولاد رحو، جماعة أولاد زمام، ضواحي مدينة الفقيه بن صالح، والذي كان يشتغل بتعاونية الحليب الأطلس التي وقفت عليها بيان اليوم مغلقة أثناء زيارتها الميدانية على مستوى الجهة، يقول إنه كان يملك أيضا أرضا، وكان يغرسها بأشجار الزيتون، ويسقيها بماء مجاري السقي “القادوس”، وكان يربي بضعة أبقار، إلا أن كل شيء ذهب مع الجفاف، مشيرا إلى أن 140 شجرة زيتون في ملكه يبست، بعدما تم قطع مياه السقي عن الأرض” -عاينت بيان اليوم الأشجار اليابسة خلال الزيارة الميدانية بالمغرب-. وتابع المتحدث نفسه: “المشكل بدأ سنة 2020، عندما توقفت الأمطار، حيث بدأت تظهر أثار الجفاف، وكان الوضع مخيفا، فهناك من تخلص من الأبقار ببيعها، وهناك من اقتنى بقرة حلوب بـ50 ألف درهم ثم باعها ب6500 درهم؛ فلا أحد أصبح قادرا على تربية البقر لأن أثمان العلف ارتفعت؛ النخالة والخبز الجاف بدورهما أصبح ثمنهما مرتفعا، والفلاح لم يعد يستطيع مجاراة الوضع، كنا نقتني العلف وسيكاليم الحليب بثلاث دراهم فأصبح بستة دراهم؛ النخالة كنا نشتريها بدرهمين أصبحت بسبعة دراهم، أي ارتفعت جميع الأثمنة دفعة واحدة”. واستطرد مصطفى: “الفلاحون بدأوا يبيعون الأبقار، والتعاونية لم يعد لديها نفس المدخول، ولم أحصل على أجرتي منذ سنة 2021؛ فبدل استقبال 7 طن من الحليب يوميا بالتعاونية أصبحنا نستقبل 4 طن فقط، أي نقصت 3 طن دفعة واحدة، وفي 2020 أصبحنا نتوصل ب2000 لتر فقط، سنة 2021 أصبحنا نستقبل 1000 لتر، وفي سنة 2022 أصبحت 600 إلى 800 أو 900 لتر في اليوم، وفي شهر يوليوز أصبحنا نستقبل 200 لتر أو 220 لتر، حيث لم يعد سوى أربعة فلاحة منخرطين من أصل 266 فلاح…”. وأضاف مصطفى أن “بني عمير وبني موسى، بعدما تم قطع مياه نهر أم الربيع وسد أحنصال وسد بين الويدان عنهم، وأصبحوا يمكنونهم من حصة واحدة في الشهر لسقي الزيتون، حيث كل هكتار يحظى بساعتين من السقي، ثم فيما بعد أصبحت الحصة بعد 45 يوما أو 50 يوما، حاول الفلاحون الذين يزرعون “الفصة” وغيرها، حفر آبار وهناك من حفر بئرا ب160000 درهم أو أكثر دون أن يجد أي شيء”، موضحا أن التعاونية في ظل هذه الظروف اضطرت إلى إغلاق أبوابها في 25 يوليوز 2022. وشدد مصطفى على أن ما أثر عليهم هو غياب الماء، مردفا: “لم نعد نجد الماء، ثم منطقتنا كانت تزدهر بالفلاحة، البطيخ والجزر وجميع الخضر، الآن لم نعد نستطيع زراعتها، الفلاح الآن يخرج صباحا دون أن يكون له بديلا عن الفلاحة، فحتى مثلا إن اخترت ولوج السوق لن أجد نفسي في التجارة، فأنا كفلاح أعرف فقط كيف أربح من الفلاحة، ما يجب أن أزرعه وما لا يجب أن أزرعه، أربي 4 عجول أشتريهم بـ3000 درهم أو 3500 درهم، وأربيهم لأن أثمان العلف كانت منخفضة، وأبيعهم ب8000 أو 8500 درهم، أي تربح منهم ما استطعت، لكن عندما ارتفعت أثمان العلف ولم نعد نجد ماء لنسقي الأبقار، تأثرنا بهذا كثيرا وتركنا كل شيء”.

بؤس المزارعين الصغار ونهاية الرحل نعود مجددا لكتاب “المغرب.. العدالة المناخية، استعجالات مجتمعية”، حيث سجل هشام حذيفة، الذي شارك في تأليفه، أنه من خلال اشتغاله على وضعية النساء في المناطق المهمشة وفي المغرب العميق، يجد دائما أن المشكل البيئي أصبح من المشاكل المطروحة في المغرب العميق خاصة شح الماء الذي لا يؤثر فقط على عيش العائلات في العالم القروي لكن أيضا على تمدرس الأطفال والطفلات، والذي قد يتسبب في الهدر المدرسي وفي زواج القاصرات أو في عمل الأطفال، بحيث يشتغل الأطفال الصغار في الفلاحة أو في الصناعة التقليدية، والبنات يشتغلن في العمل المنزلي. من جهة أخرى، أبرز حذيفة في حديثه لبيان اليوم أن الرحل فقدوا خلال 15 سنة الأخيرة جزءا كبيرا من قطعانهم، بسبب الجفاف وندرة المياه، مستطردا: “كما نعلم فلا يمكن أن تكون رحالا دون قطيع، فهو كينونة الرحال، وكثير من عائلات الرحل خاصة في المغرب الشرقي فرض عليهم أن يستقروا في مدن صغيرة مثل بوعرفة وفيكيك، وهي تعاني بدورها من مشاكل أخرى متعددة منها أساسا انعدام فرص العمل، وهذا ما جعل المشكل يكبر في هذه المدن”. وأرود حذيفة في تصريحه، أن استقرار الرحل لم يكن مواكبا من قبل الدولة لتسهيل هذا الاستقرار، وهو ما يدفع بمشاكل متعددة إلى الواجهة مثل تمدرس الأطفال الذي يوجد أساسا لدى هذه الفئة، إلا أنه يتفاقم عندما يستقرون في هذه المناطق، وهو ما يسبب في تفقير أكبر لهذه المناطق، في ظل غياب فرص الشغل.   تصحر الواحات من جهتها تتعرض الواحات حسب الكاتب الصحفي هشام حذيفة للدمار، بسبب التضخم الكبير للتصحر، وتوقف التدبير القديم للماء من خلال “الخطارات” التي لم تعد صالحة للاستخدام، موضحا أن “هذه الطريقة التقليدية لتدبير الماء بين العائلات تغيرت، وخلقت نوعا من عدم التوازن في هذه المناطق، رغم أهمية الواحات بالمغرب باعتبراها “الباراج/السد” الذي نمتلكه لتوقيف التصحر”.   الهروب المحتوم تواصل كرة الثلج تدحرجها وكبرها، حيث أدخل تحالف الجفاف وندرة المياه، والسياسة المائية، وما باتت تشهده البلاد خلال الشهور الأخيرة من ارتفاع فاحش للأسعار، سكان القرى بهذه الجهة التي اتخذناها مجالا للتحقيق، والذين لا يختلف وضع قرى باقي الجهات عنهم، في نفق مظلم يجهلون سبيل خروجهم منه، مما اضطر معه الكثير منهم إلى خوض غمار الهجرة نحو المدينة أو خارج أرض الوطن؛ فيما يرهن كثير من الباقين قوتهم اليومي بمن تمكنوا من خوض هذه الغمار المحفوفة بالمخاطر، في وقت اضطر فيه الرحل للاستقرار بالمدينة كما أشرنا إليه آنفا. فإلى أين المفر من هذا الوضع؟ وأي سبيل للعبور نحو الفردوس المنتظر لمن قرروا الهجرة خارج أرض الوطن؟ وهل فعلا استطاعوا الوصول ووجدوا ما كانوا يحلمون به من استقرار موعود؟  أسئلة وأخرى سنخوض فيها عبر عشرات اللقاءات التي تمت بشكل مباشر مع مهاجرين غير نظاميين التقيناهم بالجارة الشمالية على غرار مصطفى مرزوك الذي بسطنا آنفا جزءا من التحول الذي طرأ على حياته من الاستقرار إلى الشتات والتغرب؛ لكن قبل ذلك سنعرج على مدير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لتادلة، والمدير الجهوي للفلاحة لجهة بني ملال خنيفرة سعيد أقريال، باعتباره المسؤول الإداري عن القطاع الفلاحي بالجهة، بعد حوارنا مع رئيس الغرفة الفلاحية لجهة بني ملال خنيفرة، محمد رياض، باعتباره ممثل الفلاحين والمسؤول المنتخب عن القطاع بالجهة، في محاولة لاستجلاء الحقائق وتوضيح الصورة القاتمة.

**********

سعيد أقريال مدير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لتادلة والمدير الجهوي للفلاحة لجهة بني ملال خنيفرة لـ” بيان اليوم”  :  هناك تغير مناخي يجب أن نتأقلم معه وهناك برامج لمصاحبة  الفلاحين لتجاوز فترات الإجهاد المائي

أثناء الحوار مع سعيد أقريال مدير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لتادلة والمدير الجهوي للفلاحة لجهة بني ملال خنيفرة

قال سعيد أقريال، مدير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لتادلة، والمدير الجهوي للفلاحة لجهة بني ملال خنيفرة، إن السدود التي تزود سهل تادلة بمساحة أزيد من 100 ألف هكتار، تعرف عجزا ملحوظا غير مسبوق؛ موضحا أن الحقينة الحالية لهذه السدود لا تسمح بإنجاز موسم فلاحي من المستوى المعهود. وأكد أقريال في حوار مع جريدة بيان اليوم، أن الحكومة وضعت برنامجا استثنائيا للتخفيف من آثار نقص التساقطات المطرية، والحد من تأثير ذلك على النشاط الفلاحي، من خلال تقديم المساعدة للفلاحين ومربي الماشية المعنيين، عبر برنامج يرتكز على 3 محاور رئيسية، يتعلق الأول بحماية الرصيد الحيواني والنباتي وتدبير ندرة المياه، ويستهدف المحور الثاني التأمين الفلاحي، في حين يهم المحور الثالث تخفيف الأعباء المالية على الفلاحين والمهنيين.  وبخصوص  قطع مياه النهر والسواقي أوضح المدير أن هناك أولوية لتوفير الماء الصالح للشرب حيث يتم القيام ببعض الطلقات من واد أم الربيع لأجل تغذية سد المسيرة الذي يزود الأقطاب الكبرى بالماء الصالح للشرب.  واعتبر أقريال أنه حان الوقت لتبني الفلاحين والمزارعين بالجهة النظم المقتصدة للماء في مجال الري لضمان ديمومة فلاحة مسقية لكون الظروف القادمة قد تكون أصعب مما هي عليه الآن. وهذا نص الحوار:

< بداية، كيف هو الوضع الفلاحي بالمنطقة في ظل الموسم الجاف الذي يطبع البلاد؟

> ما نود توضيحه لكم فيما يخص قطاع الفلاحة هو أن هذا الموسم هو موسم فلاحي يتميز بقلة التساقطات وضعف الواردات وانخفاض كميات المياه المعبأة بحقينات السدود التي تزود المنطقة السقوية بمياه الري؛ لم تتجاوز التساقطات معدل 138 ملم في هذه الجهة انطلاقا من شتنبر، أي انطلاقة الموسم الفلاحي، وهو معدل يرتفع ب 60% مقارنة بالموسم الفلاحي الماضي، لكنه يظل منخفضا ب13% أو 15% مقارنة بالسنوات العادية، وهذه التساقطات سجلت أدناها في الفقيه بن صالح بـ 107 ملمتر، وأعلى نسبة في إقليم خنيفرة بـ 250 ملمتر. بطبيعة الحال قلة التساقطات المطرية المسجلة أثرت سلبا على الواردات المائية لسدي بين الويدان والشهيد أحمد الحنصالي، حيث استقر مستوى الملأ في نسبة 12%. أمام هذه الوضعية ونظرا لضرورة توفير الماء الصالح للشرب تعذر تحديد حصص مائية للسقي خلال هذا الموسم الفلاحي

< حسب تصريحات الفلاحين، الوضع الفلاحي بالمنطقة ليس وليد أزمة الجفاف الراهنة، فإلى أين يتجه الوضع بالمنطقة؟

> بالفعل هناك توالي لسنوات من الجفاف وهو ما جعلنا نصل لهذه الظرفية، لكن رغم ذلك تظل التساقطات المطرية التي كانت هذا الموسم لها آثارا إيجابية، رغم قلتها، وقد مكنتنا من سقي الأشجار المثمرة، وهو ما نعتبره بمثابة إنقاذ لها من التلف، ونرجو أن تكون هناك تساقطات مستقبلا لأن لكل شجرة مستوى معين من التحمل، فالزيتون ليس كالحوامض مثلا، وأن تعود هذه السدود لحالتها كي نستطيع استئناف عملية السقي من جديد. وقد كان للتساقطات الأخيرة تأثير إيجابي على الغطاء النباتي في المجالات الرعوية، وهنا لدينا مجالات رعوية جد مهمة تنشط فيها تربية الماشية بجميع أقاليم الجهة، فمن المتوقع انطلاقا من شهر مارس 2023 أن ينتعش الغطاء النباتي بالمجال الرعوي والذي سيمكننا من التزود بالوحدات الكلئية  الكافية للماشية. وتجدر الإشارة إلى الوقع الإيجابي لهذه التساقطات على الحبوب الخريفية بالمنطقة البورية.

< يتسبب هذا الوضع بهجرة كثيفة نحو المدن وبلاد المهجر، كيف تتعاملون مع الوضع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ 

> بالفعل كانت هناك تدخلات لوزارة الفلاحة نظرا لهذه الظرفية، حيث تدخلت في مجال انقاد الماشية، خصصت لها 825 ألف قنطار من الشعير المدعم للكسابة بهذه الجهة، وتم توزيع إلى حدود اليوم 760 ألف قنطار. وسنعمل في الأيام المقبلة على توزيع حصة إضافية تقدر بـ100 ألف قنطار.  المنطقة معروفة أيضا بإنتاج الحليب وكما تعلمون فإنتاج الحليب بدروه تأثر كثيرا بهذه الظروف المناخية، وهو ما تسبب تراجع قطيع الماشية المنتجة للحليب وكذلك نظرا لارتفاع أسعار المواد العلفية بسبب الظرفية العالمية التي تعرفها المواد الأولية والأساسية التي تدخل في تركيبة الأعلاف، والدولة تدخلت أيضا في هذا الجانب لدعم هذا القطاع خاصة القطاع المهيكل في إطار تربية الأبقار الحلوب، وتم تخصيص 171 ألف قنطار من الأعلاف المركبة، حيث تم توزيع 150 ألف قنطار منها لفائدة 130 ألف مستفيد في القطاع، ومن المرتقب إطلاق كمية إضافية تقدر بـ40  ألف قنطار أخرى سيتم توزيعها عما قريب. بطبيعة الحال وبالرغم من الظرفية المناخية الحالية، وجب التنويه بفلاحي المنطقة، الذين لا يتأخرون في المساهمة والمشاركة في إنجاز البرامج لإنتاج بعض الزراعات الاستراتيجية المهمة خاصة كون المنطقة تنتج بذور القمح المصنفة، والبذور المختارة؛ فقد تمت برمجة 6000 هكتار وتم تجاوز هذا البرنامج.  وهناك أيضا الشمندر السكري؛ بالفعل الظرفية صعبة وكنا نطمح الوصول لمساحات أكبر ولكن نظرا لهذه الظرفية فقد تم تسطير برنامج ل8000 هكتار وتم بلوغ فقط 6000 هكتار بفعل الموارد المائية المتواضعة.  فيما يرتبط بإنتاج الخضروات واعتبارا لخصوصية المرحلة الراهنة فقد تم الاعتماد على المصادر الذاتية للموارد المائية لإنتاج الخضروات الأساسية كالبصل والبطاطس الجلبان، وقد تم إنجاز 2600 هكتار من الخضروات الخريفية فائقا بذلك البرنامج المسطر بـ2300 هكتار. أيضا يتم الاشتغال حاليا مع الفلاحين في التحسيس لإنجاز برنامج 1300 هكتار من الخضروات الشتوية، تم إنجاز 1000 هكتار إلى حدود اليوم. هذه البرامج ستساهم في تزويد السوق خلال شهر رمضان المبارك من الخضروات.

< يشتكي الفلاحون من قطع مجرى النهر ومجاري السقي المرتبطة به خلال السنوات الأخيرة، وقد عاينت بيان اليوم الجفاف الكلي للأنهار والسواقي، فضلا عن التشديد في مساطر تسليم رخص حفر الآبار، لماذا تم اتخاذ هذه القرارات رغم آثارها الوخيمة على الفلاحين؟ وهل من حلول بديلة؟

> كما أشرت إليه سابقا، هناك أولوية لتوفير الماء الصالح للشرب حيث يتم تحويل كميات من المياه انطلاقا من سد الشهيد الحنصالي وسد بين الويدان عبر وادي أم الربيع لأجل تغذية سد المسيرة الذي يزود الأقطاب الكبرى بالماء الصالح للشرب. وما أود توضيحه بشكل مباشر فيما يخص دائرة تادلة وخاصة محيطها الكبير فقد كان يعتمد أساسا على السقي الانسيابي انطلاقا من هذه السدود، والوزارة اليوم ووعيا منها بهذه التغيرات المناخية عملت على برنامج لتحويل السقي السطحي إلى الموضعي وهدفه الأساسي هو الاقتصاد في الماء والاستعمال الناجع لهذه المادة الحيوية. اليوم يتم الاشتغال على برنامجين، الأول هو برنامج التحويل الفردي أي أن كل فلاح يمتلك مورده المائي سيتمكن من اعتماد السقي بالتنقيط، وذلك في إطار الدعم الذي تقدمه الدولة في إطار صندوق التنمية الفلاحية، والذي كان في إطار مخطط المغرب الأخضر؛ نشتغل به بنسب تتراوح بين 80% لمن يمتلك أكثر من 5 هكتارات، و100% بالنسبة لمن يمتلك 5 هكتارات أو أقل، الآن هناك تغيير لكن دائما هناك تحفيز للفلاحة لأجل تحويل السقي من السطحي إلى السقي بالتنقيط.  وفيما يهم الآبار فعلا يجب أن تتبع مساطر معينة؛ الآن هناك وعي جماعي؛ لا يوجد استغلال مفرط للموارد المائية؛ وللاستفادة من الدعم يجب التوفر على التراخيص اللازمة من المصالح المختصة خاصة وكالة الحوض المائي، كما يتوجب التأكد من وفرة المياه الكافية لإنجاز المشاريع. فيما يرتبط بمشاريع التحويل الجماعي من نظام السقي الانسيابي إلى السقي بالتنقيط فقد تم إنجاز الأشطر التالية: • الشطر الأول الذي هم تجهيز 10300 هكتار في إطار مشروع عصرنة الري بواد أم الربيع (PROMER). • الشطر الثاني الذي هم تجهيز 12200 هكتار في إطار مشروع عصرنة السقي الكبير (PMGI). من خلال هذين الشطرين فقد عرفت نهاية أشغال التجهيزات الخارجية على مساحة 22400 هكتار ونسبة التجهيزات الداخلية بها فاقت 70% التي يتم إنجازها من طرف الفلاحين مدعمة في إطار صندوق التنمية الفلاحية. فبعد الانتهاء من دراسة الشطر الثالث والذي هم 13000 هكتار التي بينت أنه يمكن تحويل الري الانسيابي للسقي الموضعي على مساحة 9000 هكتار دون اللجوء إلى الطاقة. وقد تمت برمجة الجزء الأول منها في إطار مشروع مرونة واستدامة الري (REDI) الممول من طرف البنك الدولي والذي يهم 4735 هكتار التي ستنطلق بها الأشغال خلال سنة 2023، فهذه المشاريع للتحويل الجماعي همت دائرة بني موسى.  بالنسبة لبني عمير يتزودون من سد الحنصالي عبر قناة تمتد على طول 24 كلم من قصبة تادلة، قناة مفتوحة، وجد قديمة منذ الثلاثينات عرفت تلاشيا مهما سيؤثر مما لا شك فيه على استمرارية السقي ببني عمير. هذه القناة تابعة لوكالة الحوض المائي لأم الربيع، واليوم أمضينا اتفاقية مع الوكالة لأجل التدخل سواء لإصلاحها أو لتجديدها بشكل كامل، فالدراسة هي من ستحدد؛ سنحاول أن نقوم بما أمكن لتحويل السقي إلى سقي بالتنقيط. الهدف من كل هذا أولا أن ينخرط الفلاح في البرامج المتعلقة بالاقتصاد في مياه الري وثانيا لأن الظروف القادمة أصعب مما هي عليه الآن. وبطبيعة الحال في هذه الظرفية تلجأ الساكنة للآبار لأجل التزود بالماء والقيام بالسقي التكميلي لتحمي زراعتها أو على الأقل تحفظ أنشطتها، وفي السقي التكميلي يلجؤون للآبار وهي حسب المناطق تتراوح بين 60 متر أو 70 متر.

< ما هي الإجراءات التي اتخذتم للحفاظ على الفرشة المائية الحالية في ظل التغيرات المناخية التي يعيشها العالم وهذه المنطقة بشكل خاص؟

> من بين الإجراءات الأساسية التي تمت على الصعيد الوطني تم حذف الدعم بالنسبة للزراعات المستهلكة للمياه خاصة البطيخ بجميع أنواعه والأفوكادو والحوامض.  على صعيد الأقاليم وخاصة بني ملال والفقيه بن صالح تم اتخاذ قرارات عاملية حيث تم فيها منع بعض الزراعات كالبطيخ والحد من زراعة بعض الخضراوات التي تستهلك الماء من بينها الجزر، وهذا ما نشتغل عليه في إطار لجان إقليمية لأجل الحد من استنزاف الثروة المائية. أخيرا، تجدر الإشارة إلى أن هذا الموسم عرف نقصا في بعض المنتوجات الفلاحية، وهذا راجع لظرفية الموارد المائية، وكان هناك نقص في إنتاج الزيتون الذي تشتهر به المنطقة، وكذلك في الرمان وإنتاج الحوامض… 

***********

3 أسئلة لـ: الدكتور أحمد الدرداري رئيس المركز الدولي لرصد الأزمات واستشراف السياسات

السياسات العمومية المغربية محدودة وغير مواكبة للتحديات المناخية

شدد أحمد الدرداري، رئيس المركز الدولي لرصد الأزمات واستشراف السياسات، على أن عامل المناخ يبقى محددا أساسيا لاستقرار الإنسان عبر مختلف المناطق سواء على المستوى الوطني أو الدولي، مشيرا إلى أنه من المحتمل أن يهاجر حوالي مليار ونصف من سكان الأرض في أفق 2050، لتبقى بذلك التغيرات المناخية محركا وعاملا مهما متحكما في الهجرة. وأكد الدرداري، أستاذ القانون العام بجامعة عبد المالك السعدي، ومنسق ماستر السياسات العمومية بنفس الجامعة، في حوار مع جريدة بيان اليوم، أن الماء والتنمية متلازمين وهما محددين لميول الأفراد نحو التنقل والبحث عن البيئة الأنسب للتأقلم مع التحولات المحتملة التي تحددها دينامية الهجرة التي تعتبر بمثابة إستراتيجية للتكيف مع التغيرات المناخية والحد من الفقر والتنمية، والتمييز بين الهجرة القسرية بسبب التغيرات المناخية والهجرة الاختيارية بدوافع اقتصادية واجتماعية. واعتبر الدكتور الدرداري أنه للتقليل من ظاهرة الهجرة يجب العودة إلى الأسباب غير المباشرة والمباشرة والتي تبقى كلها ملقاة على عاتق الدول فرادى ومجتمعين، ذلك أن الحياة على الكوكب الأزرق تتطلب شروطا منها ما يوفره المناخ ومنها ما يوفره الإنسان عن طريق سياسات عمومية مقتسمة بين الدولة والمواطن، مؤكدا أن غياب التوازن البيئي هو ناتج عن اختلال التوازن بين هذه الأطراف جميعها. وهذا نص الحوار:

< كيف يؤثر المناخ على حركية الهجرة سواء داخل مجال التراب الوطني أو نحو الخارج؟

> للمناخ تأثير على حركية الهجرة من البوادي نحو المدن أو نحو الخارج سواء عند انحصار عوامله الإيجابية الضامنة للاستقرار فيؤدي ذلك إلى الجفاف وندرة المياه وارتفاع درجة الحرارة والحرائق أو عند المبالغة في تأثير عوامله السلبية فيؤدي ذلك إلى حدوث الزلازل والفيضانات والبراكين والأعاصير وارتفاع مستوى مياه البحر… فالمناخ يؤثر على سكان البوادي بالمغرب من خلال انحصار العوامل الايجابية للمناخ، حيث تتعرض البلاد بشكل دوري لموجات من الجفاف تضر بسكان البوادي الذين يضطرون إلى الهجرة تحت تهديد المناخ وعوامل اجتماعية واقتصادية تنتج بشكل تلقائي عن الجفاف، لاسيما قلة الأمطار وفقدان مياه الشرب وتضرر الغطاء النباتي وموت الأشجار وتأثير ذلك على الموارد الطبيعية والحيوانية، كما أن الحرائق التي تتعرض لها الغابات المجاورة للسكان تزيد في قطع سبل الراحة والبقاء فتكون أحيانا العامل الحاسم للهجرة والتنقل بحثا عن ملاذ آمن يعوض الحياة البرية المؤقتة. كما يحدد المناخ أيضا نوع الهجرة ومداها فيدفع السكان إلى الهجرة نحو الخارج لاسيما من الجنوب نحو الشمال، وإن وجدت بعض المناطق في الجنوب التي يمكن التأقلم معها واستمرار الحياة فيها لكنها تبقى غير كافية مقارنة مع التهديدات المناخية أو مع ما يتطلع إليه الأفراد من رخاء وعيش كريم، وهذا النوع من الهجرة يرتبط بفلسفة الهجرة ومنظومة حقوق الإنسان الدولية والاتفاقيات الدولية لحقوق المهاجر والعمالة الأجنبية. ولا بد من الإشارة، إلى أن الهجرة المناخية تعني إما الهجرة التدريجية المرتبطة بالتغيرات المناخية وتفاقم آثار الجفاف واضطرار السكان إلى النزوح بحثا عن مناطق تتوفر فيها شروط الاستقرار وتأمين سبل العيش وإما هجرة مفاجئة بسبب الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات والبراكين والحرائق التي لها علاقة غير مباشرة بالتغيرات المناخية. ويبقى عامل المناخ محددا أساسيا لاستقرار الإنسان عبر مختلف المناطق، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، حيث من المحتمل أن يهاجر حوالي مليار ونصف من سكان الأرض في أفق 2050، لتبقى بذلك التغيرات المناخية محركا وعاملا مهما متحكما في الهجرة. فالماء والتنمية متلازمان، وهما من يحدد ميول الأفراد نحو التنقل والبحث عن البيئة الأنسب للتأقلم مع التحولات المحتملة التي تحددها دينامية الهجرة التي تعتبر بمثابة استراتيجية للتكيف مع التغيرات المناخية والحد من الفقر والتنمية، والتمييز بين الهجرة القسرية بسبب التغيرات المناخية والهجرة الاختيارية بدوافع اقتصادية واجتماعية.

< ما هو تقييمكم للسياسات العمومية الوطنية للتخفيف من آثار المناخ على السكان ومن خلالها الحد من ظاهرة الهجرة المرتبطة بالمناخ؟ وكذلك تعاطي المنظومة الدولية مع ظاهرة “اللجوء المناخي”؟

> بالنسبة للسياسات العمومية المغربية سواء منها القطاعية أو الترابية تبقى محدودة وغير مواكبة للتحديات المناخية، ذلك أن استقرار السكان في المناطق القروية لا يمكنه الاعتماد على السياسات العمومية المعمول بها، وستبقى فاشلة في مواجهة الأزمات المرتبطة بالمناخ، بل سيظل السكان مهددين بالهجرة وإخلاء البوادي بالخصوص كلما هاجمهم المناخ بشكل مباغت وفي أي وقت تحت طائلة النفاذ المعجل. فبالرغم من مجهودات الدولة المتعلقة ببناء السدود التي تنم عن وجود استراتيجية مواجهة الجفاف وتوفير الماء الصالح للشرب، إلا أن البوادي تعتمد الزراعة البعلية وتربية المواشي التي تعتمد على المراعي مما يطرح تغيير نمط الحياة إذا تم توفير الماء والكهرباء فقط دون توسيع للسياسات العمومية القروية لتوفير كل مستلزمات الاستقرار حتى في ظل الأخطار البيئية.  أما على المستوى الدولي، فالهجرة المناخية تضغط على الدول المتقدمة وتربك التقدير لديها لكون القانون الدولي لا يمكن تطبيقه في ظل تنامي الهجرة الجماعية وكذلك فهو لم يعد قادرا على التنصل من تقنين تشريعات مواكبة للتطور البشري؛ فقد أصبح اللجوء المناخي أو اللجوء البيئي يفرض نفسه كموضوع دولي يحتاج إلى الاعتراف الدولي والتقنين التشريعي وإصدار نصوص لإقراره مادامت الغاية من القانون هي خدمة الإنسان وحماية حقوقه.

< هل من سبل لكبح تأثير المناخ على ظاهرة الهجرة ؟

> للتقليل من ظاهرة الهجرة يجب العودة إلى الأسباب غير المباشرة والمباشرة والتي تبقى كلها ملقاة على عاتق الدول فرادى ومجتمعين، ذلك أن الحياة على الكوكب الأزرق تتطلب شروطا منها ما يوفره المناخ ومنها ما يوفره الإنسان عن طريق سياسات عمومية مقتسمة بين الدولة والمواطن، وغياب التوازن البيئي هو ناتج عن اختلال التوازن بين هذه الأطراف جميعها. كما تبقى أنسنة التعامل مع البيئة عامل له أولوية على الهجرة لإنقاذ المهددين بالهجرة القسرية، ونهج سياسة تدبير المخاطر البيئية بشكل استباقي من خلال خفض الإنتاج الضار بالبيئة وتقنين السياسة البيئية على أساس تدبير المخاطر المحتملة.

*********

الــرحيــل الـقـسـري نــحــو الــفــردوس المـوعـــــودة

منزل بمنطقة كايوصا ضواحي أليكانطي الإسبانية تقيم فيه المغربيات اللواتي زارتهم بيان اليوم

يوصد الفلاح أبواب داره، ويترك أرضه مغادرا وطنه للبحث عن ظروف اجتماعية واقتصادية أفضل، لأن السماء لعدة سنوات كانت شحيحة لم تنبت بذور القمح  في حقله؛ حاله حال معمري تلك الأرض الخصبة تاريخيا، الذين يعانون جراء تحالف الطبيعة والمسؤولين ضدهم؛ ففي لقاء لنا مع عشرات الأسر بالجهة، تأكد لنا أن فردا واحدا منها على الأقل عمل على الهجرة خارج أرض الوطن، أو توجه نحو المدينة للاشتغال هناك ومساعدة العائلة، في انتظار فرصة سانحة لمغادرة الوطن والبحث عن ظروف اجتماعية واقتصادية أفضل تكون طريقه لإنقاذ أسرته من جحيم الجفاف، فيما تمت معاينة عشرات المنازل التي هاجر أصحابها جميعهم، لتبقى مغلقة شاهدة على تواجدهم يوما، على أمل أن تحسن الهجرة أوضاعهم ويعودون إلى موطنهم الأصل، لعل الحياة تعود معهم إلى الأرض والمسكن. وفي هذا السياق قال الفلاح والكساب الحسين مرزوك والحسرة تملأ محياه: “لقد سلمنا أمرنا، والجميع يريد الفرار إلى خارج المغرب؛ أنا أيضا أتمنى الفرار إلى خارج الوطن؛ إخوتي وأبناء إخوتي هاجروا جميعا؛ أصحاب “الدوار” أيضا؛ البعض يموت في البحر، يقول لك أن أموت في البحر أفضل لي؛ الكثيرون هاجروا وحسنوا أوضاعهم بالمهجر ثم أصبحوا يشترون الأراضي هنا ب400 أو 500 مليون سنتيم؛ نحن فلحنا حتى شبنا ولم نشتري حتى هكتارا واحدا من الأرض”. وأشار مرزوك أنه وجه أبناءه أخيرا للحرف والصناعة بالمدينة، حيث إنه لم يعد هناك مستقبل بالقرية، مؤكدا أن تواجدهم بالمدينة مؤقت وأن طموحهم هو الهجرة إلى الخارج، مستطردا: “لم يعد ما نفعله هنا؟ لا نملك بديلا آخر، نحن لم نتعلم التجارة، ولا نجيد سوى الفلاحة..”. وأضاف مرزوك: “لقد كسروا شوكتنا قبل أن يكسرنا الجفاف بشكل كلي، الوضع باختصار أننا نريد الفرار من هنا والهجرة، أفضل أن أبيع أكياس البلاستيك والتبغ على أن أظل هنا”.

تكتم شديد وشح في المعطيات قبل سبر غمار رحلتنا نحو الجارة الشمالية، في الجزء الثاني من زيارتنا الميدانية في إطار التحقيق، عملنا على البحث عن المعطيات والأرقام الرسمية التي تهم مدى تأثير الوضع القائم (ما بسطناه سابقا حول الجفاف ووقعه على الزراعة وظروف عيش السكان)، على هجرة السكان من القرى نحو المدينة أو خارج أرض الوطن، من خلال التواصل مع عدد من المؤسسات الرسمية المعنية (وزارة التجهيز والماء، وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، المندوبية السامية للتخطيط…).

أشجار الزيتون التي تركها مصطفى مرزوك خلفه

إحصائيات صادمة من مؤسسات رسمية أرقام مخيفة تلك التي كشفت عنها المندوبية السامية للتخطيط نهاية يناير 2023، حيث إن 152 ألف مغربي ينتقلون سنويا من القرى إلى المدن، مشيرة إلى أنه بين سنتي 2009 و2014 بلغ عددهم 760 ألف شخص، أي بمتوسط تدفق 152 ألف مهاجر سنويا. وتضيف المندوبية، في وثيقة  ضمن سلسلة “مختصرات التخطيط”، أن هذا النزوح من القرى يمثل تقريبا 20.7 في المائة من إجمالي السكان المهاجرين الداخليين و1.1 في المائة من سكان القرى المغربية. وأبرزت أن عدد الأسر القروية المهاجرة إلى المدينة آخذ في الازدياد ليبلغ 37 ألفا و100 أسرة تغادر سنويا، وتتميز هذه الأسر بصغر حجمها وتتكون في الغالب من 3.8 أشخاص لكل أسرة.

أرض على ضفة نهر أم الربيع محروثة ومزروعة بنبات حولي اصفر واحترق

وكشفت المندوبية أنه لوحظ، منذ تسعينيات القرن الماضي، أن جنس المهاجرين القرويين يخضع لتغييرات كبيرة ويتجه إلى زيادة التأنيث، حيث مثلت النساء نسبة 55 في المائة، موردة أن المرأة القروية تشارك في الهجرة بطرق عديدة؛ من خلال مبادرتها الخاصة في إطار الهجرة المستقلة، أو بحثا عن ظروف معيشية أفضل كرفيقة للرجل أو الزوج أو أحد أفراد الأسرة، أو كمسؤولة عن أسرة. المهاجرون من القرى إلى المدن، يفيد ذات المصدر، هم في الغالب من الشباب، إذ 41.3 في المائة تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاما؛ بينما يشكلون 26.8 في المائة من سكان القرى، فيما 10.2 في المائة من المهاجرين القرويين تزيد أعمارهم عن 50 عاما ويمثلون 17.7 في المائة من سكان القرى. أما بشأن الوضع العائلي فإن 67 في المائة منهم متزوجون، و27.3 في المائة عازبون. وبالتالي تبقى هذه هي الأرقام المتاحة حتى الساعة، في ظل غياب أي تفاصيل رسمية عن حجم الهجرة من القرى نحو المدينة أو خارج أرض الوطن بسبب التغيرات المناخية؛ رغم أن الواقع الملاحظ والذي وقفنا عليه خلال زيارتنا الميدانية سواء على مستوى جهة الفقيه بنصالح أو الجارة الشمالية إسبانيا، يؤكد أن ما من أسرة بالمنطقة إلا ولديها فرد واحد على الأقل مهاجر يوجد بأوروبا أو بالمدينة ينتظر الفرصة لقطع البحر نحو القارة العجوز، كما أنه يفسر بشكل غير مباشر أسباب هذه الأرقام المهولة التي تحدثت عنها المندوبية السامية للتخطيط.   طلبات قياسية للجوء من جهة أخرى، قالت وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء إن عدد طلبات اللجوء التي تقدم بها مغاربة عرفت ارتفاعا ملحوظا ووصلت رقما قياسيا سنة 2022 بلغ 22 ألف طلب، وهو الرقم الأعلى على الإطلاق منذ حوالي عشر سنوات. وحسب المعطيات التي أعلنت عنها الوكالة، في الأسابيع الماضية، فقد انتقلت طلبات اللجوء من قبل المغاربة من 4904 طلبا عام 2014 إلى 12482 طلبا عام 2016، وفقط 7662 طلبا عام 2020، ليصل الرقم إلى 21895 العام الماضي. وبحسب المعطيات نفسها، فمن بين مجموع الطلبات المقدمة السنة الماضية، 21166 طلبا جديدا و729 طلبا متكررا، فيما تم منح 500 مغربي صفة لاجئ، و52 صفة حماية فرعية، وكان الجواب على 10108 طلبا سلبيا. ولم تكشف هذه المعطيات بدورها عن طبيعة هذه الطلبات، إن كانت تتعلق باللجوء الإنساني الذي يسلك مسطرته العديد من المهاجرين غير النظاميين بسبب الجفاف ونتائج التغير المناخي في ظل عدم الاعتراف باللجوء المناخي؛ وقد التقت بيان اليوم بمجموعة من المهاجرين الذين يسلكون هذه المسطرة (اللجوء الإنساني) بالجارة الشمالية؛ وهي التفاصيل التي سنعود لها في هذا التحقيق خلال المحاور الموالية. لكن، لا بد من الإشارة إلى أن أن ارتفاع هذه النسبة ووصولها إلى مستويات قياسية جاء موازاة مع الموسم الجاف وغلاء الأسعار، مما قد يؤكد أن نسبة كبيرة من هذه الطلبات ترتبط باللجوء الإنساني، أي هجرة بدوافع الفقر والظروف القاسية التي في الغالب ما تسبب فيها الجفاف وندرة المياه حيث يتم سلك هذه المسطرة فقط لغاية تسوية الوضعية القانونية، وهو ما تؤكده أيضا نسبة الطلبات المرفوضة.   عندما يكون الهروب حتميا ربيع مرزوك، ابن الحسين؛ الشاب الثلاثيني قرر فك رباطه مع القرية ونشاطها، على غرار إخوته، وشد الرحال نحو العاصمة الاقتصادية، للبحث عن مورد رزق يعول به نفسه وأسرته بالبادية بعد انقضاء كل السبل بمسقط رأسه، في انتظار فرصة سانحة للهجرة خارج الوطن. من جهته، ومن خارج أرض الوطن، بالجنوب الإسباني، وبقلب يعتصره الألم، ودموع لا يمنع نزولها إلا مروءة وعزة أهل القرية، يحكي لنا مصطفى مرزوك، أخ الحسين، كيف أجبره الجفاف على أخذ غمار التغرب عن الوطن والانتقال من حياة مستقرة يسودها الرخاء والدفئ الأسري، إلى وضع تهتز له الأنفس (بعيدا بآلاف الأميال عن إثنين من أبنائه الذين لا زالا مع الأسرة في المغرب وعن زوجته وإحدى بناته بعشرات الكيلومترات في إسبانيا)، حيث إنه هاجر إلى الجارة الشمالية رفقة زوجته وابنتهما الصغيرة تاركين ولدا وإبنة وراءهما بالمغرب، كما أشرنا إليه سابقا. في إحدى زوايا المنزل الذي يقيم فيه مصطفى رفقة عدد من المهاجرين بمنطقة “فرتونا” ضواحي مدينة “مورسيا” الإسبانية، والذي استقبلنا فيه بقلب رحب، يؤكد أن الوضع الذي وصلت إليه المنطقة كان الحلقة الأخيرة التي دفعت الناس إلى الهجرة للمدينة أو التوجه إلى إسبانيا عبر طرق مختلفة. مصطفى المنحدر من جماعة أولاد زمام، ضواحي مدينة الفقيه بن صالح، يؤكد أنه بعد أن أغلقت التعاونية أبوابها في 25 يوليوز 2022؛ ويبست أشجار الزيتون خاصته وقطعت مياه السقي عن الأرض، اتخذ القرار النهائي للهجرة على غرار العديد من أبناء المنطقة. لا تختلف دوافع عبد المجيد، عن أخيه مصطفى الذي يقيم معه في نفس المنزل إلى جانب مهاجرين مغاربة آخرين ينحدرون من نفس الجهة بالمغرب، فقد كان فلاحا يشتغل بأرض العائلة، قبل أن تنقطع المياه ويحل الجفاف، ليبدأ مغامراته مع الهجرة، وفق ما أكده لبيان اليوم، مردفا: “كل ما كنت أرغب فيه هو أن أحسن وضعيتي، وصلنا بسبب الجفاف لوضعية مزرية، لم نعد نجد لا ماء ولا عمل؛ لا يوجد مال، ولا أجيد شيئا سوى الفلاحة ومع الجفاف قررنا الهجرة لإسبانيا؛ تركت أبنائي خلفي”. من “فرتونا” ضواحي مدينة “مورسيا”، رافقنا مصطفى لأزيد من 50 كلم إلى حيث تقطن زوجته وإبنته بمنطقة “كايوصا” ضواحي مدينة “أليكانتي”، التي استقبلتنا رفقة رفيقاتها اللواتي تشترك معهن السكن كما يشتركن مشقة الغربة ومعاناة الاندماج.  تقول فاطمة ذات 28 سنة: “كنا نعيش بخير بالمغرب، كان زوجي يشتغل بتعاونية للحليب، وكان كل شيء بخير، لكن بعد “كورونا” بدأت الأمور تتأزم، لم يعد هناك حليب، فتراجع مدخولنا عن السابق، لدينا ابنين يدرسان بالإضافة لابنتي الصغرى، الوضعية تدهورت للأسوأ، فقال لي زوجي أنه سيبحث عن طريقة لاستخراج التأشيرة والذهاب لإسبانيا”. لمياء وصيري، رفيقة فاطمة زوجة مصطفى بالسكن، المنحدرة من منطقة سيدي خلخال، ضواحي مدينة الفقيه بنصالح تقول: “فكرت في أن أهاجر (نحرك) إلى هنا لأنني من أسرة بإسبانيا لكنه لم يكن يساعدنا؛ عندما رأيت ذلك الوضع لم أتحمل؛ كانت والدتي تشتغل في الفلاحة، لكن تراجع العمل كثيرا بفعل الجفاف، كنت أنا أيضا في العطل أشتغل في الفلاحة “المنيورة والشمندر”، لأنني كنت أدرس؛ درست في المغرب إلى حدود الأولى باكالوريا، لكن الوضع كان بدأ يتأزم وبدأت أفكر في الهجرة”. رفيقة فاطمة ولمياء في السكن، بهيجة.م، من ضواحي البراديع، إقليم الفقيه بنصالح، اضطرت للهجرة إلى هنا وهي حامل، تاركة وراءها زوجها وإبنها؛ أوضحت في حديثها لبيان اليوم: “كنت أعمل في المغرب، أحيانا مع أبي وأحيانا من أعمامي في الفلاحة سواء “المنيورة أو الشمندر”، لكن العمل تراجع بسبب الجفاف، فأهلي أيضا لم يجدوا كيف يفلحون الأرض، عملوا على حفر بئرين دون جدوى، يبلغ عمقهما 300 متر أو أكثر؛ تطلب كل بئر منهما 40 ألف درهم، إلا أنهم لم يجدوا فيهما ماء، ثم سحبوا الماء من النهر قبل أن يجف كذلك مؤخرا”.   مسارات “آمنة”.. بالنسبة لمصطفى، هاجر رفقة زوجته وابنتهما الصغيرة عن طريق تأشيرة سياحية، حصل عليها بناء على عمله وممتلكاته، ليقرر المجيء إلى إسبانيا دون عودة، في قرار مصيري صعب جدا، حسب تعبير مصطفى الذي قال: “منذ سنة 2005 وأنا أشتغل بالتعاونية، وحين فكرت في مغادرة منزلي والقدوم إلى هنا كان الأمر صعبا قليلا، خاصة أنني تركت أبنائي هناك، وحز في نفسي كثيرا، كنت أفكر في الرجوع لكن بعد أن وجدت عملا هنا أمضي فيه بشكل جيد، يصعب التفكير الآن في العودة، يجب أن أضمن مستقبل أسرتي”. وتؤكد فاطمة زوجة مصطفى أنه في البداية استخرج الزوج لنفسه تأشيرة سياحية وجاء لإسبانيا سياحة وعاد، ثم بعدها استخرجها لها ولأحد أبنائهما، وأخبرها بأنهم سيذهبون دون أن عودة؛ ووافقت. وتضيف زوجة مصطفى: “قام بدفع ملف التأشيرة واستخرجناها في شهر دجنبر 2020، إلا أنه بسبب كورونا وإغلاق الحدود لم نستطع القدوم، استمرينا على نفس الوضع إلى حدود سنة 2022 ثم قام بدفع الملف مجددا وحصلنا على التأشيرة، بعدها أتينا”. بطريقة أخرى مستحدثة للهجرة، يطبعها نوع من الأمان، ولا تختلف كثيرا عن مصطفى الذي اعتمد تأشيرة سياحية لبلوغ هدفه؛ الشاب العشريني يوسف فاروق من جماعة أولاد زمام، إقليم الفقيه بنصالح، هاجر إلى أوروبا عبر “فيزا مالطا”، قبل أن ينتقل إلى إسبانيا حيث يوجد الآن بالمنزل ذاته، رفقة مصطفى وآخرين، الذين اختلفت مساراتهم وتوحدت غايتهم ودوافعهم للهجرة (الجفاف وندرة المياه). يقول فاروق الذي يبلغ من العمر 25 سنة: “هاجرت نحو أوروبا بسبب الجفاف وندرة الماء؛ لم تتبق أي فلاحة؛ دخلت لأوربا بتأشيرة مالطا؛ تسجلنا مع أحد الأشخاص على أساس الدراسة ثم أتينا إلى هنا، دفعت 60 ألف درهم لأجل الهجرة، درسنا لمدة شهر ثم انتقلنا إلى إسبانيا، حصلنا على تأشيرة للدراسة لمدة 6 أشهر، لكننا لم نعد بعد نهاية صلاحية التأشيرة”. ويشار إلى أن هذا النوع من الهجرة انتشر قبل أشهر بجهة الفقيه بنصالح، وهو ما عرف بـ”فيزا مالطة”، وتمكن قرابة 300 شاب وشابة من الوصول إلى القارة العجوز بهذه الطريقة. أما بهيجة.م، رفيقة فاطمة ولمياء في السكن، تسرد لنا كيفية وصولها إلى هنا وهي تضع إبنتها الصغيرة على ركبتيها: “سجلت نفسي مع العاملات في الفراولة وأتيت إلى هنا كي أشتغل، ولم أجد سببا للعودة للبلاد؛ فعملت على الفرار والبقاء هنا”.

 مراهنة على البقاء في صورة أخرى تعكس قمة الرعب الذي يمكن أن يشهده الإنسان بكينونته المحدودة، يسرد عبد المجيد كيف اقترب قاب قوسين أو أدنى من الموت بعد أن دفع 10 آلاف درهم لأجل الوصول إلى إسبانيا. يقول عبد المجيد، الذي ترك خلفه زوجته وأطفالهما، أن مسار وظروف هجرته كانا قاسيين جدا، موضحا في حديثه مع بيان اليوم: “هاجرت إلى جانب آخرين عبر زورق فانطوم؛ قمنا بحمله نحن خمسون شخصا طيلة أربع كلم من وسط جبال الريف، إلى أن وصلنا للماء؛ بلغنا للماء في 10 ليلا، ومحرك “الزودياك” حمله 6 أشخاص على أكتافهم؛ ثم قاموا بتركيب المحرك مع الزودياك، ثم ركبنا شخصا تلو الآخر؛ كان بيننا 10 نساء، إحداهن رفقة إبنتها الصغرى التي لا يتجاوز عمرها السنة؛ عشنا معارك في البحر، وفي لحظة ما توقف المحرك عن العمل؛ لم نصل إلا بمشقة الأنفس؛ استمرينا لأربع ساعات في البحر بين طنجة وطريفة؛ وصلنا لشاطئ قرب غابة بطريفة؛ خرج الحراس وضبطوا 10 أشخاص كانوا معنا، ثم هرب الباقون، وبعدها لم نلتق أبدا”.

المهاجر غير النظامي عبد المجيد بمنزل عائلته بمورسيا الإسبانية

وتابع عبد المجيد: “في تلك الليلة رأينا انقلاب قوارب مطاطية أمامنا وأشخاصا يموتون لكننا لم نخف؛ فهناك من يستطيع العبور وينجو وهناك من يموت وهو يحاول؛ إن ما يجعل الشخص يفكر في الهجرة هو أنه يفضلها عن البقاء في المعاناة بالمغرب، الموت أفضل، فإن استطاع العبور لإسبانيا فهو كذلك وإن لم يستطع فالموت أهون”. وأردف المتحدث نفسه: “بقينا في الغابة لثلاثة أيام جوعا وعطشا؛ ننام نهارا ونمشي ليلا، ونتصل ب”الخطافة المغاربة” (أشخاص ينقلون المهاجرين غير النظاميين) الذين يساعدوننا على الدخول لإسبانيا مقابل المال”. بدورها، لمياء وصيري، ذات 19 سنة، والمنحدرة من منطقة سيدي خلخال، ضواحي مدينة الفقيه بنصالح، دبرت أسرتها بصعوبة ومشقة لم تكن أقصى من ظروف عيشها بإحدى قرى إقليم الفقيه بنصالح، مبلغ 45 ألف درهم، لتركب قوارب الموت نحو “الفردوس المفقود”. أوضحت وصيري أنها بقيت في طنجة طيلة شهر، قبل أن تتمكن من العبور لإسبانيا، مضيفة بنبرة طفولية حزينة تبدو عليها آثار مشقات الحياة: “هاجرت إلى هنا سنة 2018؛ انطلقنا من شواطئ أصيلة، تزامنا مع عيد الأضحى ونجحنا في العبور؛ انطلقنا في الرابعة صباحا وبلغنا إسبانيا في المساء، دخلنا الخزيرات، وهناك أمسكت بنا البحرية الإسبانية”. تحكي وصيري، وهي تشابك أصابعها، والخوف باد على أعينها، كأنها تعيش التجربة مرة أخرى معنا: “تمكنا من الوصول؛ كنا 45 شخصا؛ كنت أنا الفتاة الوحيدة بالإضافة إلى طفلة ذات أربع سنوات رفقة أبيها؛ كان البحر هائجا؛ كنا خائفين؛ استمرينا في الإبحار طيلة 8 ساعات، هناك من تقيأ ومن نام، لكن في الأخير وصلنا؛ أمسكوا بنا، واصطحبونا إلى مكان آخر حيث استحمينا وأكلنا وارتحنا، ثم بعدها وضعوا شيئا ما على أيدينا ليحددوا أعمارنا، أخذوا بصماتنا، ثم بعد اختبار السن علموا أنني في 15 من عمري، ونقلوني إلى مركز الترحيب”. وعن مدى خوفها من شبح الموت الذي يخيم على أغلب المهاجرين عبر البحر قالت وصيري: “لم أكن أدرك الأمر جيدا، كنت لا أزال صغيرة السن، كنت أقول إن مت سأموت لأجل أسرتي، الأهم أن أصل لشيء ما…”.

 

مغامرات مستمرة تنشد الحياة هنالك ربيع لم تكن وجهته الأولى المدينة، بل كانت الأخيرة بعد أن فشلت كل محاولاته لقطع البحر نحو ما يصفها “بالفردوس”، موضحا: “جربت الهجرة ولكن أمسكوا بنا، هناك تشديد على مستوى الحدود، غامرت بحياتي، وذهبت لتركيا وتم اعتقالي لستة أشهر هناك، وعانينا كثيرا، وتعذبنا في حدود اليونان وحدود بلغاريا، لا يوجد حق للمواطن هنا…، بعد معاناة طويلة استسلمت للأمر الواقع واخترت البقاء هنا، نبحث عن رزقنا هنا قرب آباءنا ونعيش كل يوم بيومه”.

تعاونية الحليب التي كان يشتغل بها مصطفى مغلقة بشكل نهائي

أما عبد المجيد، الذي تمكن من الهجرة إلى إسبانيا خلال الجائحة بحرا، لم تكن هذه هي محاولته الأولى، بل قبلها بسنتين كان قد خاض تجربة مماثلة (عبر مركب غير شرعي)، نقله إلى جانب آخرين من الصحراء المغربية إلى جزر الكناري، ومنها إلى إسبانيا مقابل 10 آلاف درهم، إلا أنه تمت إعادته إلى المغرب، لينتظر سنتين ويعيد التجربة التي كان مصيرها النجاح، حيث انتقل إلى طنجة وبحث عن وسطاء في الهجرة غير النظامية ساعدوه في مبتغاه.  بدورها لمياء وصيري، قبل أن تنجح رحلتها إلى جانب من كانوا معها، فقد كانت هناك تجارب فاشلة، حيث قالت: “كنا نخرج كل يوم لكن لا ننجح، وفي المرة الثالثة استطعنا العبور لإسبانيا، السائق في المرة الأولى كان “سكرانا” ولم يتذكر الطريق فعدنا، والمرة الثانية أمسك بنا الدرك الملكي، وفي المرة الثالثة تزامنت مع عيد الأضحى ونجحنا في العبور”.

 الاستقرار الموعود قال مصطفى مرزوك، في حديثه لبيان اليوم: “بدأت العمل هنا، وأنا أستمر في العمل إلى حدود الساعة، بدأت ب55 يورو لليوم، وهو ما استمر طيلة شهر أكتوبر، وفي شهر نونبر اشتغلت ب60 يورو لليوم، وفي شهر دجنبر الحالي أشتغل في بعض الأيام بـ90 يورو، لأننا بدأنا نشتغل “كاخا – أي عطش”، ما يعني أنني يمكن أن أحصل على 80 يورو أو 70 يورو أو أكثر على حسب العمل، وإبنتي تدرس الآن”. وفي حديث زوجته فاطمة معنا قالت: “كنا ننوي استئجار منزل واحد ونجتمع معا، ثم نشتغل كلانا وندرس ابنتي، تركت إبني وإبنتي الآخرين بالمغرب مع والدتي، هي من تسهر على تربيتهم”. وبصوت تغلبه الحسرة والحزن تستطرد فاطمة: “ما كنا ننويه لم يكن هنا؛ ها هو يعيش في مدينة وأنا في أخرى؛ هو يعمل في ضيعة هناك، وأنا جئت إلى هنا كي أبحث عن عمل لكن وجدت أن الأمور أصبحت صعبة، أضحت المراقبة مشددة ولا يسمحون “للحراكة” -المهاجرين غير النظاميين- بالعمل، والآن أحيانا أعمل وأحيانا لا أجد شغلا؛ ينادونني أحيانا للعمل لساعات معينة، أحيانا أصطحب الأطفال للمدرسة وأشتغل؛ هكذا هو الوضع إلى أن نستطيع الاجتماع والسكن بمنزل واحد”.

رفقة مصطفى مرزوك وزوجته فاطمة بمنطقة كايوصا الإسبانية

تؤكد فاطمة أن الوضع صعب جدا بعيدا عن أطفالها وعن زوجها أيضا، مشددة على أن: “من جهة الظروف هنا أصعب من المغرب، لكن على الأقل هناك عمل رغم صعوبة إيجاده وتتلقى أجرا عنه، أما في المغرب لم أجد العمل إطلاقا وإن اشتغلت لا أجد مقابلا يكفي لإعالة أسرتي؛ أما هنا فالأجر مناسب أصرف منه وأدفع مقابل كرائي وأرسل لأبنائي بالمغرب أيضا”. أما عن استقرار لمياء وصيري، توضح: “بحكم أنني وصلت هنا قاصرا، فبناء على سلوكك سيتحدد مصيرك، ويرسلونك للمركز المناسب”، مبرزة أنها بعد أن قضت ستة أشهر نقلوها لمركز في “سيفيا” حيث استقرت لثلاث سنوات، إلى أن أكملت 18 سنة؛ وحصلت بعدها على وثائقها ثم استقرت هنا.

لمياء وصيري بمنزلها المشترك مع رفيقاتها بكايوصا

وأردفت وصيري: “كان التعامل جيدا، وأتممت دراستي، تعلمت أشياء كثيرة ما كنت لأتعلمها في المغرب؛ يقدمون لنا الملابس ويعطوننا كل أسبوع 20 يورو؛ كان التعامل جيد جدا؛ والآن أشتغل في ضيعات ‘الكزبرة”؛ أرسل لأهلي المال وأعيش بخير أفضل من المغرب؛ لو بقيت في المغرب ما كنت لأبني حياتي، الدراسة هنا مغايرة عن المغرب، الدراسة هنا جيدة”. رغم ضيق المنزل ورداءته، وآثار مشقة الحياة البادية بشكل جلي على لمياء وصيري، تقول إن وضعها أفضل، مما قد يصعب معه تصور حياتها السابقة بالمغرب. أما بهيجة، التي فضلت عدم الكشف عن هويتها كاملة فتقول: “استقريت هنا منذ قدومي الأول كعاملة للفراولة؛ في المغرب لم يكن هناك عمل أما هنا يكفي أن أعمل يوما واحدا لأغطي مصاريف الأسبوع بأكمله؛ تقدمت بطلب للحصول على وثائق الإقامة السنة الماضية دون جدوى، وأنا الآن تقدمت بها من جديد؛ أتيت هنا وأنا حبلى في الشهر الثالث، هذه هي السنة الخامسة التي لم أر فيها إبني الآخر وزوجي الموجودين بالمغرب؛ من جهة أشتاق إليهم كثيرا لكن عندما أفكر في مستقبلهم أفضل البقاء هنا”.

يوسف فاروق بالمنزل المشترك مع الآخرين بفرتونا الإسبانية

من جهته فاروق الذي جاء إلى إسبانيا عن طريق “تأشيرة مالطا”، فقد أكد أن وضعه الآن أفضل، مستطردا: “الآن أشتغل في الفلاحة هنا بإسبانيا، الآن رغم الوضع الذي تراه نعيش بشكل مقبول، نحاول تدبير أمورنا إلى أن يصبح وضعنا قانوني، أؤكد لك أنه مهما كان الوضع يظل أفضل؛ ندعو الله أن تتحسن الأوضاع ببلدنا”.

ربيع مرزوك في ورشته بالدار البيضاء بعدما غادر القرية

عودة إلى الوطن، يشتغل ربيع اليوم، في نجارة الخشب؛ بعد أن خاض غمار الهجرة نحو المدينة وتعلم الصنعة مبتعدا عن آبائه، مشددا على أن هجرته نحو المدينة ليست خيارا، وأنهم أجبروا على الهجرة بسبب الأزمة التي ضربت المنطقة، قائلا: “أغلبية الناس لا يجدون ما يأكلونه، لا إله إلا الله فقط، لحسن الحظ نحن اشتغلنا وبصنعتنا، هناك أسر لم تعد تجد عشاء ليلتها”.

اللجوء المناخي بدا الاستغراب جليا على كل المهاجرين غير النظاميين الذين التقتهم بيان اليوم عند سماعهم لوصف “اللاجئ المناخي”، مؤكدين أنهم لم يسبق لهم أن سمعوا هذا المصطلح. في وقت لا يعلم فيه مهاجرون غير نظاميين إلا الطرق التقليدية القديمة للاستقرار وتسوية وضعيتهم القانونية، أصبح آخرون يلجأون إلى مسطرة اللجوء الإنساني رغم أن هذه المسطرة غالبا ما تقابل بالرفض بالنسبة لطالبيها من المغاربة لعدم توفر شروطها فيهم، وهم يعلمون بذلك، إلا أنها بالنسبة لهم طريق لضمان وقت كاف للبحث عن الشغل وتسوية إقامتهم بطرق أخرى. كما يشار إلى أنه يتم اللجوء إلى هذه المسطرة أو الطرق الأخرى المعروفة، في سياق عدم الاعتراف الدولي بما يسمى بـ”اللجوء المناخي”، وهو ما سنعود إليه في تحقيقنا هذا عبر خبراء مختصين في القانون الدولي والمناخ والبيئة.  

المهاجر.. خيط أمل العائلة على غرار العامل الفلاحي الشوقي المنصوري، الذي التقينا معه بالمغرب، واختزل لنا الوضع في عبارة مؤثرة “لولا الجالية لأكلنا بعضنا” في إشارة إلى المساعدة التي يرسلها المغاربة المقيمون بالخارج لأسرهم في ظل هذه الظروف القاسية؛ فإن كل المهاجرين غير النظاميين الذين التقتهم بيان اليوم بالجنوب الإسباني وشمالها الشرقي، يؤكدون أن من أهدافهم الأساسية إعالة أسرهم وأفراد عائلاتهم المتبقين بالوطن، كما هو الحال لدى ربيع مرزوك الذي هاجر للمدينة لأجل الغاية نفسها. وفي هذا الصدد، يقول مصطفى مرزوك أن أحد أبنائه الذين تركهم بالمغرب تحت رعاية الجدة، يطمح لأن يصبح صيدليا، مردفا: “يقول لي إبني أنه يريد أن يذهب لروسيا ويحصل على دكتوراه في الصيدلة، مثل أبناء العائلة فجميعهم أطباء وصيادلة؛ أنا لا أفكر في أن أجلبه إلى هنا، الآن يدرس ب900 درهم شهريا، والحمد لله يدرس بشكل جيد، يأتي من بين الثلاثة الأوائل، وكل ذلك بفضل ما أرسله لهم من هنا؛ يريد أن يستمر في المغرب إلى أن يحصل على الباكالوريا، وفي العطل كنت أرسله إلى المسجد ليدرس القرآن، والآن يحفظ أربع أو خمس أحزاب؛ تعتني به جدته أم والدته هناك، لأنها هي من ظلت في المنزل”. بدورها تشدد زوجة مصطفى على أنهم جاؤوا إلى هنا لأجل أبنائهم كي يدرسوا، وإعالتهم وتمكينهم من مستقبل أفضل. من جهته عبد المجيد، قال إنه بالمغرب لم يعد يجد ما يأكله رفقة أبنائه، وبالتالي فقد هاجر لأجل إطعامهم، مستطردا: “ولله الحمد أتينا إلى هنا واستخرجنا أرزاقنا، ونرسل لهم ما يضمن لهم العيش الكريم على أمل أن يلتحقوا بي هنا، وهو ما أكده فاروق أيضا في علاقته بأسرته، حيث يرسل لهم مبالغ من المال بشكل دوري لإنقاذهم من الوضعية الصعبة التي أصبحوا يعيشونها بعد تراجع منسوب المياه وظهور شبح الجفاف. أما بهيجة.م فتقول في حديثها لبيان اليوم: “في المغرب؛ كنت أشتغل بأجر رديء جدا لا يكفيني لشيء، هل سأشتري به اللحم أم أحضر قنينة غاز؟ لدي ثلاثة أبناء لدى استقريت هنا؛ الآن أرسل لهم المال، إبني في 18 من عمره هناك، علي أن أرسل له ليرتدي لباسا يليق بسنه مثله مثل أقرانه، فأنت تعلم شباب هذا العصر، لو لم آت إلى هنا كنت سأعاني كثيرا، فزوجي يشتغل أحيانا وأحيانا أخرى يظل دون عمل؛ ينتظر حتى يستدعيه معمل ما؛ الآن أرسل لهم كل شهر مبلغا من المال، أحيانا 1500 درهم وأحيانا 2000 درهم أو أكثر، بناء على ما استطعت تحصيله”.

**********

فــي تــجربة اســـتثــنـــائـيــة.. الجــفاف يجبر عشرينيا على شق البحر سباحة نحو المجهول

أمام قصر الجعفرية – أثناء محاورة محمد الذي التقته بيان اليوم بنزل بسرقسطة

بعيدا عن هذه الحالات التي لا تمثل إلا نموذجا لعشرات أخرى التقتها بيان اليوم مباشرة على مستوى مدينتي مورسيا وأليكانتي، ومئات أو ربما آلاف أخرى توجد هنا، التي رغم اختلاف طرق وأساليب هجرتها إلى إسبانيا توحدها دوافع خوض غمار المخاطرة غير المتوقعة النتائج (الجفاف، ندرة المياه، والدخول إلى عتبة الفقر..) كما يوحدها مجال الإنتماء الجغرافي الذي اخترناه لتحقيقنا بالمغرب (جهة بني ملال الفقيه بنصالح)، وعلى بعد قرابة 600 كلم من هذه المناطق الواقعة بالجنوب الإسباني الذي يعد الوجهة الرئيسية للمهاجرين بسبب الجفاف وندرة المياه وانقطاعها، حيث يجدون فرص شغل تتناسب مع مؤهلاتهم بالقطاع الفلاحي؛ توجهنا إلى شمال شرق إسبانيا للقاء باحثين ومختصين في الهجرة والمناخ، وفاعلين مدنيين في اللجوء، وبالضبط مدينة “سرقسطة” عاصمة منطقة الأراغون. في هذه المدينة، قررنا الإقامة بنزل “HOSTAL” مشهور بإقامة طالبي اللجوء، والمهاجرين غير النظاميين الذين ترعاهم بعض المنظمات المدنية، حيث يلجؤون إلى هذا النزل الواقع بقلب المدينة لضمان الإقامة لهم لفترة محدودة إلى حين تدبير منزل لهم أو مكان بالإقامات الرسمية المخصصة لهؤلاء (المهاجرين غير النظاميين أو طالبي اللجوء أو القاصرين غير المصحوبين). في اليوم الثالث من إقامتنا، تم استقدام 3 شباب مغاربة إلى الفضاء الذي نقيم فيه بالنزل، والذي يتسع لـ10 أشخاص -اخترنا الفضاء المخصص لعشرة أسرة حتى نرفع نسبة احتمال لقاءنا بأحد المهاجرين المغاربة-؛ وبعد يومين من التعارف والمحادثات الثنائية مع كل من أيوب (19 سنة من البيضاء) وأيمن (25 سنة من البيضاء) ومحمد (22 سنة من ضواحي إفران)، والاطلاع على قصصهم “المفزعة” والهازة للنفوس، خاصة كيفية وصولهم إلى إسبانيا… تتوحد غاية الشباب الثلاثة الذين تم استقدامهم من مدينة برشلونة بعد قضائهم هناك أزيد من أربعة أشهر بمركز إيواء هناك، كما يشتركون في طريقة العبور إلى إسبانيا، فيما تختلف دوافعهم. وإذا كان الفقر والبطالة دافعا أيوب وأيمن الذين وجدا فيه أنفسهما منذ خروجهما من الرحم البيولوجي إلى الرحم الاجتماعي بالعاصمة الاقتصادية ببمغرب، فإن محمد كان يعيش ظروفا جيدة من خلال اشتغاله بضيعة والده الخاصة بالتفاح والخوخ بإقليم إفران… يقول محمد لبيان اليوم: “كنت أشتغل مع والدي في الفلاحة خاصة التفاح والخوخ، لكن مع أزمة المياه ضاعت لنا الفلاحة ولم أجد ما أقوم به في المغرب فقررت الهجرة إلى إسبانيا”. وأوضح محمد أن أزمة المياه بدأت سنة 2019 بسبب تراجع التساقطات المطرية، وهو ما أدى إلى انخفاض منسوب المياه، مضيفا: “حيث نتواجد نحن يمنع حفر الآبار في السنوات الأخيرة  كي لا تجف العيون والبركات من الماء؛ وكان هناك بئران قديمان لكن مع تراجع الأمطار جفا بدورهما السنة الماضية، أحدهما يبلغ عمقه 84 متر والثاني 67”. وأردف محمد: “كان الإنتاج في السابق جيدا، لكن مع الجفاف ودخول الأمراض تراجعت الفلاحة؛ كنا سابقا نحقق مداخيل من المحصول بقيمة تتجاوز أحيانا 100 ألف درهم، لكن مع أزمة المياه أصبحت الأرباح لا تتجاوز 40 ألف درهم ننفقها على الأدوية والمبيدات وقنينات الغاز؛ حينها بدأت أفكر في الهجرة خاصة أنني لم أدرس”. وعن الكيفية التي هاجر بها محمد والتي يشترك فيها معه أيوب وأيمن، ومئات الآخرين كما أكده لنا، يقول: “انتقلت للرباط حيث اشتغلت وادخرت بعض المال، ثم توجهت صوب الناظور، استقريت هناك واكتريت مكانا للعيش أنا وشخص آخر، ثم بدأنا نجرب حظنا للهجرة؛ جربنا في البداية الاختباء في الشاحنات لكن كان يتم الإمساك بنا دائما؛ إذ من الصعب الهجرة من هناك، ثم قررنا الدخول سباحة”. “في البداية دخلنا البحر من شاطئ بوقانة بالناظور لكن أمسكت بنا البحرية وسلمونا للشرطة، وقاموا بنقلنا بعدها لكرسيف؛ جربنا للمرة الثانية لكن تم الامساك بنا مجددا وأرسلنا إلى الدار البيضاء؛ افترقنا أنا وذلك الشخص حيث عاد إلى أهله بينما أنا مكثت عند ابن عمي في الرباط؛ استقريت هناك مؤقتا واشتغلت كي أدخر المال ثم انطلقت مجددا صوب الناظور؛ والتقيت نفس الشخص هناك؛ وفي أحد الأيام دخلنا البحر في الثانية صباحا؛ انطلقنا صوب ميناء بني انصار ثم عبرنا إلى مليلية” يضيف محمد. أكد محمد أنه قطع 7 كلم سباحة من الشاطئ إلى مليلية السليبة، مبرزا أنه بقي في الماء حوالي ست أو ست ساعات ونصف سباحة، “كنت خائفا إلا أنه لم يظل هناك احتمال آخر يا إما نموت أو نعيش، أرى نفسي ضائعا لا عمل لي وليس هناك ما أفعله في بلدي، أرى نفسي عبئا على أهلي، إذن لا حل لي سوى الهجرة”. واستطرد محمد: “بعد أن دخلنا مليلية بقيت هناك شهرا ثم بعدها هاجرت صوب ألميريا ثم منها إلى برشلونة، حيث استقريت شهرا وانتقلت بعدها إلى هنا إلى سرقسطة، الآن أعيش بشكل جيد، وجدت المأكل والسكن، أدرس اللغة وأسعى إلى الحصول على “ديبلوم” بمساعدة المنظمات الاسبانية؛ صراحة فراق الأهل صعب جدا لكن من الضروري أن أصبر إلى أن أجتاز ثلاث سنوات أو أربع سنوات كي أعدل أوراقي وبعدها يمكن أن أزور الأهل في المغرب”. وتابع محمد: “لم يكن في المغرب أي حلول، إذا بقيت هناك ما الذي سأفعله، هل سأشتغل ب70 درهم من السابعة صباحا حتى الخامسة مساء، وفي الأخير لن تمكنني حتى من كيس طحين؟!”. بعد صمت، يعود محمد للقول: “أنا لا أحمل الدولة المسؤولية لأنني لم أدرس وغادرت مقاعد الدراسة في السنة الثالثة اعدادي، أردت الهجرة وفقط، أنا من يتحمل المسؤولية؛ هناك أصدقاء درسوا إلى الباكالوريا ولم يجدوا عملا، في المغرب يجب أن يكون لديك المال و”باك صاحبي”، فحتى الدراسة لن تفيدك في شيء”. وأكد محمد على أن العديد من المغاربة جاءوا إلى إسبانيا بنفس الطريقة، مؤكدا: “عندما كنت في مليلية كان يهاجر بشكل يومي شخص أو شخصان صوبها سباحة، حاليا أصبحت الهجرة بهذه الطريقة أصعب وبالتالي تراجع قدوم المهاجرين؛ أظن أن هناك 10 أشخاص دخلوا اسبانيا هذا الأسبوع بنفس الطريقة حسب ما وصلنا من صديقة بالمنظمة هناك”.  وأنهى محمد حديثه بالقول: “توفي العديدون أثناء محاولتهم الهجرة، ففي مليلية مثلا هناك 147 جثة لم تأتي أسرها بعد لاستخراجها. تعلمت السباحة في عمر 13 سنة بفضل الوديان والبركات بالمنطقة التي أنحدر منها، لكن أثناء السباحة أصبت بتشنج عضلي لمرتين، كنت سأموت لولا مساعدة أحد الأشخاص الذي أمسك بي إلى أن أوصلني إلى الصخور؛ أحيانا حتى الآن أكون نائما تراودني أحلام أنني أغرق فأستيقظ مفزوعا”. على غرار مئات الشباب المغاربة الذين يصلون إلى إسبانيا بحثا عن وضع أفضل، واضعين البحر أمامهم والمعاناة ورائهم، بمجرد أن وضع محمد قدميه لدى السلطات الإسبانية، تسجل ضمن طالبي “اللجوء الإنساني”، ويؤكد محمد أنه على غرار كل المسجلين فنهم غير آبهين للتفاصيل كما أنهم لا يعون الكثير عن طبيعة هذا الصنف من اللجوء، باستثناء أنه يتم رفضه غالبا في الأخير، وما هو بالنسبة لهم إلا سبيل لكسب مزيد من الوقت للتواجد على الأراضي الإسبانية حتى يجدون مخرجا لتسوية وضعيتهم.

**********

الدكتور سيرجيو ساليناس ألسيكا لـ: ” بيان اليوم”  : سياسة المجتمع الدولي حول “اللجوء المناخي” تتسم بالنفاق والمراوغة

بمكتب عميد كلية الحقوق بسرقسطة على خلفية اللقاء الصحفي مع الدكتور المغربي عبد العالي المرابطي والدكتور ألسيكا

قال الدكتور سيرجيو ساليناس ألسيكا، أستاذ شعبة القانون العام والعلاقات الدولية، بجامعة سرقسطة، إسبانيا، إن الفئة المهاجرة بسبب عوامل المناخ لا تدخل في خانة اللاجئين الذين تشملهم الحماية الدولية لأنه لا تتوفر فيهم إحدى الأسباب التي ذكرتها المادة الأولى من اتفاقية جنيف لحماية اللاجئين، معتبرا أن الحل جد سهل إذا كانت هناك إرادة دولية فعلا. ودعا الأستاذ الجامعي، في حوار خاص مع جريدة بيان اليوم، كل الفاعلين إلى إعادة النظر في بنود الاتفاقية أو إضافة فقرة أو فقرتين تشمل هاته الفئة بالحماية الدولية، وكذلك دعوة جميع الدول للتوقيع على الاتفاقية والالتزام بتطبيقها. وحمل الجامعي ساليناس ألسيكا، الباحث في قانون الماء والبيئة والهجرة، مسؤولية ظاهرة الهجرة بسبب المناخ للحكومات، أي سياسيو الدول، مشددا على أن حكومة البلد هي المسؤولة، باعتبار أن بإمكانهم اتخاذ القرارات لمواجهة هذه الظاهرة وطرح الحلول الممكنة.  وشدد الدكتور نفسه أنه على الحكومات العمل على تنظيم النشاط الزراعي والحد من استخدام المبيدات، واعتماد برامج تهدف لحماية الأراضي الفلاحية والفرشة المائية وتقديم الدعم الضروري للفلاحين الصغار من أجل تشجيعهم على الاستقرار والاستثمار في أراضيهم، داعيا إلى تشجيع استعمال الطاقات البديلة والتي تستعمل بنسبة ضعيفة جدا، مردفا: “في هذا الصدد المغرب مثلا يملك خبرة وإمكانيات كبيرة في هذا المجال مثله مثل إسبانيا، وأصبح رائدا في هذا المجال من خلال مشاريع الطاقات الخضراء البديلة”. وهذا نص الحوار:

< يجبر الجفاف إلى جانب غلاء أسعار البذور والسماد، العديد من الفلاحين إلى التخلي عن أنشطتهم والهجرة نحو المدن أو خارج أرض الوطن، للبحث عن مورد رزق جديد. بداية، أين يمكن تصنيف هذا النوع من الهجرة، ولماذا؟

> للحديث عن هذه الظاهرة لابد أولا من التمييز  بين مفهوم الهجرة أو النزوح من منطقة لأخرى داخل نفس البلد، يعني هجرة سكان المناطق الريفية نحو المدن وبين مفهوم الهجرة خارج حدود الوطن أي أن الوجهة تكون نحو بلد آخر. بالنسبة للنوع الأول نحن أمام ظاهرة تعنى بالنزوح أو هجرة داخلية تتحكم فيها قوانين وطنية تخص ذلك البلد حيث إن قانون الهجرة بالمفهوم الدولي لا يعني هذه الشريحة من المهاجرين؛ هم مواطنون يهاجرون قراهم بدافع الجفاف أو من أجل البحث عن مستقبل أحسن حيث تكون الوجهة دائما صوب المدن الكبيرة. إذا أخذنا المغرب مثلا فالوجهة دائما نحو الدارالبيضاء وطنجة والرباط…، تبقى مجرد هجرة داخلية لا يمكن تصنيفها في الإطار الدولي لمفهوم الهجرة؛ نعم هي ظاهرة تسبب عدة مشاكل اجتماعية وقانونية لكن تبقى معالجتها من اختصاص مؤسسات البلد المعني. لكن إذا كان الأمر يتعلق بهجرة خارجية نحو بلد آخر فالأمر يختلف بحسب التصنيف الذي يعطى لذلك المهاجر طالب الحماية ببلد الاستقبال، حيث من الضروري استحضار وتطبيق بنود اتفاقية جنيف الخاصة باللجوء وبالتالي تقييم وضعيته، أي هل يمكن إدراجه ضمن لائحة الأشخاص الذين يشملهم قانون الحماية، وفي هذه الحالة يكون الشخص المعني محمي باتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين.  لكن المشكل هنا هو أن طالب اللجوء بدافع تغير المناخ لا يدخل ضمن الحالات التي تتحدث عنها اتفاقية جنيف لحماية اللاجئين، يعني أن الشخص الذي غادر وطنه بسبب التغيرات المناخية أو بدافع الجفاف أو الكوارث الطبيعية لا يمكن أن يكون لاجئ حسب القانون الدولي. لكن في حالات أخرى زيادة إلى عامل المناخ والجفاف هناك أشخاص اضطروا لهجر بلدانهم جراء الحروب والنزاعات والإرهاب مثل الصومال، إثيوبيا سوريا.. هؤلاء يكونوا أمام معاناة مزدوجة حيث يطرح مشكل الحماية القانونية من جهة ومشكل تصنيف هذه الفئة من حيث التسمية القانونية من جهة أخرى، إلا أن دولة الاستقبال في هذه الحالة تأخذ بعين الاعتبار عامل الخوف والاضطهاد الذي دفع هؤلاء الأشخاص للهروب من أوطانهم ومن تم تقديم الحماية الدولية لهم كلاجئين مضطهدين وليس كلاجئين بدافع المناخ، لأن القانون لا يعترف بشيء يسمى لاجئ المناخ كما ذكرنا سابقا. 

< كيف تقيمون أو ترون تعاطي المجتمع الدولي مع ظاهرة “اللجوء المناخي” سواء من الناحية القانونية أو الإنسانية ؟ 

> للأسف أراها سيئة للغاية، إن سياسة المجتمع الدولي حول هذا الموضوع تتسم بالنفاق والمراوغة. بالنسبة لي كأستاذ جامعي وكأي مختص في الموضوع قد نساهم باقتراحات وحلول لهذه الظاهرة، لكن أكيد هذا يبقى حبيس مكتبي ولن يصل للمعنيين بالأمر. الواقع الآن يقول إن هذه الفئة من المهاجرين لا تدخل في خانة اللاجئين الذين تشملهم الحماية الدولية لأنه لا تتوفر فيهم إحدى الأسباب التي ذكرتها المادة الأولى من اتفاقية جنيف لحماية اللاجئين وأنا أقول إن الحل جد سهل إذا كانت هناك إرادة دولية فعلا، ندعو كل الفاعلين إلى إعادة النظر في بنود الاتفاقية أو إضافة فقرة أو فقرتين تشمل هاته الفئة بالحماية الدولية، وكذلك دعوة جميع الدول للتوقيع على الاتفاقية والالتزام بتطبيقها. نحن نعلم أن الأمر ليس بالسهل لأن كثير من الدول لا تريد تحمل المزيد من الالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان لأن ذلك مكلف جدا، الأمر الذي سيزيد الظاهرة تعقيدا وأكيد سيدفع بمئات الآلاف من الأشخاص لهجرة بلدانهم بسبب المناخ، وتعتبر منطقة البحر الأبيض المتوسط هي المنطقة المعرضة للخطر ونسميها “بالمنطقة صفر” لظاهرة التغير المناخي، لا أقول ذلك من أجل التخويف لكن هذا واقع نعيشه اليوم. في المقابل تبقى هناك مبادرات فردية تقوم بها بعض الدول أو منظمات دولية تعنى بحماية المهاجرين واللاجئين رغم أن الوضع يسير من السيء للأسوأ فيما يخص مشكل تغير المناخ، حيث ذكر تقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة أن درجة حرارة الأرض تعرف زيادة وصلت إلى 2.7 درجة وهذا ينذر بكارثة بيئية تهدد الجميع.

< هل تعتبر الهجرة من القرى نتيجة حتمية للجفاف والتغيرات المناخية، أم ترتبط بتوجهات وأولويات السياسات العمومية للبلدان؟

لا يوجد سبب واحد لهذه الظاهرة الخطيرة، مثلا نحن هنا نطلق على بعض المناطق “بإسبانيا الفارغة أو الخالية” من السكان، لأنه للأسف التوزيع الجغرافي بإسبانيا يرتكز أساسا بالمدن الأساسية أو المدن الساحلية لهذا يتوجب على الحكومة وضع سياسات جديدة لمحاولة تحقيق التوازن في موضوع التوزيع الجغرافي و إيجاد حلول آنية.    تعيش اليوم كثير من بقاع العالم حالة جفاف مستمر، وهي ظاهرة تدفع بالكثير للنزوح نحو الشمال بكل الطرق سواء داخل الوطن أو عبور حدود الوطن والبحث عن مكان أحسن، يعني نعيش في حالة طوارئ تؤكد لنا أن الوضع سيزداد صعوبة مستقبلا.

< من يتحمل مسؤولية استفحال ظاهرة الجفاف وعبرها الهجرة من الموطن الأصل نحو المدن أو خارج الوطن؟

> يكمن المشكل على المستوى الدولي في غياب إجماع أو اتفاق على معالجة الظاهرة. في كثير من الحالات موارد المياه الدولية تتقاسمها عدة دول وهو الأمر الذي يجبر الأطراف المعنية على إبرام اتفاقيات تضمن لكل دولة الموارد المائية اللازمة مع الحرص على حماية الفرشة المائية. المسؤولية هنا واضحة، هنا يمكن أن نتحدث عن مسؤولية الحكومات، أي سياسيو الدول، حكومة البلد هي المسؤولة، هم الذين لديهم إمكانية اتخاذ القرارات لمواجهة هذه الظاهرة وطرح الحلول الممكنة. لكن الأمر يكون أكثر تعقيدا عند الحديث عن المسؤولية الأخلاقية، والتي اعتبرها جماعية، لأننا مواطنون وتبقى لنا الحرية في الاختيار الأنسب لتمثيلنا بمؤسساتنا التشريعية الوطنية وبالمؤسسات الدولية من أجل الدفاع على مصالح المواطن.

< ماذا يمكن للحكومات والمسؤولين أن يفعلوه لوضع حد لهذه الظاهرة ؟

> جوابا على سؤالك يمكن القول إن الأسباب هي واضحة لكن دائما ما تكون الحلول معقدة بعض الشيء. على الحكومات العمل على تنظيم النشاط الزراعي و الحد من استخدام المبيدات، واعتماد برامج تهدف لحماية الأراضي الفلاحية والفرشة المائية وتقديم الدعم الضروري للفلاحين الصغار من أجل تشجيعهم على الاستقرار والاستثمار في أراضيهم.  أما على الصعيد الدولي يتوجب منع استخدام المحروقات أو التقليل من استهلاكها، لأن الخبراء يقولون إن الاستعمال المفرط للمحروقات هو السبب الرئيس فيما يحدث من تغيير مناخي بالعالم. هذا الأمر أكيد سيجعلك في مواجهة مباشرة مع لوبي شركات المحروقات في العالم لكن هناك مبادرات شجاعة حيث صادقت اللجنة الأوروبية في هذا المجال على منع استعمال سيارات الوقود والبنزين بعد  2035 وهو تاريخ ليس بالبعيد، 12 سنة فقط. لكن تبقى هذه المبادرة شجاعة من دول الإتحاد الأوروبي للحد من التلوث البيئي والاحتباس الحراري أما دول مثل الصين، الهند لا يحركون ساكنا في هذا الموضوع رغم حجم الضرر الناتج عن الاستهلاك المفرط للمحروقات. كما يجب تشجيع استعمال الطاقات البديلة والتي تستعمل بنسبة ضعيفة جدا، وفي هذا الصدد فالمغرب مثلا يملك خبرة وإمكانيات كبيرة في هذا المجال مثله مثل إسبانيا، وأصبح رائدا في هذا المجال من خلال مشاريع الطاقات الخضراء البديلة (الطاقة الريحية، الطاقة الشمسية…)، فقط يجب استغلال هذه الثروة الطاقية لأجل المواطن والبيئة الوطنية.    

**********

الدكتور عبد العالي المرابطي لـ : ” بيان اليوم” :  المهاجر المغربي يعيش بين هاجس لقمة العيش والإقامة غير الشرعية

قال الأكاديمي والمحامي المغربي بسرقسطة، إسبانيا، الدكتور عبد العالي المرابطي، إن السكان يهاجرون هجرة داخلية وخارجية بسبب تغيرات المناخ وأثره على سبل العيش وفقدان موارد رزقهم، إما نتيجة ضرر تدريجي مثل الجفاف أو بكوارث طبيعية مباغتة مثل الزلازل والفياضانات. وأضاف الدكتور في القانون الدولي والمتخصص في الهجرة واللجوء، في تصريح لجريدة بيان اليوم، أنه على مدى سنوات كان تأثير تغير المناخ يجبر العديد من الناس على الفرار والهجرة في محاولة لإيجاد فرصة أحسن للاستقرار في بيئات جديدة ذات موارد مالية واجتماعية تكفيهم وعائلاتهم لمتطلبات العيش الكريم.

المهاجرون البيئيون وتابع الدكتور المغربي، رئيس جمعية بيت المغاربة بآراغون المهتمة بشؤون المهاجرين المغربية، أنه رغم الأهمية الكبرى التي تعطيها المنظمات العالمية التي تعنى بموضوع الهجرة لهذا النوع من المهاجرين إلا أنه لحد الآن لا يوجد تعريف قانوني مقبول دوليا للأشخاص المهاجرين بسبب التغيرات المناخية، موضحا أن اسم “المهاجرين البيئيين” يبقى التعريف الذي تطلقه المنظمة الدولية للهجرة على هذا النوع من المهاجرين، كما عرفتهم المنظمة  بأنهم “أفراد أو مجموعات تختار أو تضطر لمغادرة بيئتها المعتادة إلى أخرى داخلية أو خارجية، لأسباب تتعلق بالتغير المفاجئ أو التدريجي في المناخ، إما بشكل دائم أو مؤقت”. وأشار الدكتور المرابطي إلى أن منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة أكدت في تقريرها السنوي أن أعداد مهاجري المناخ ستتجاوز حاجز المليار والنصف بحلول عام 2050، خاصة بعد تزايد خطر الاحتباس الحراري الذي يهدد العالم.  

رحلة المجهول وعن حيثيات هذه الظاهرة بالمغرب والأسباب التي دفعت كثير من شباب هذا الوطن للهجرة مع محاولة للتطرق للوضعية الاجتماعية والقانونية التي يعيشونها ببلاد المهجر، قال الدكتور المرابطي الذي يشتغل في قضايا اللاجئين والمهاجرين المغاربة بإسبانيا، إن السنوات الأخيرة شهدت تزايدا كبيرا في عدد المهاجرين نحو أوروبا بدافع التغيرات المناخية خاصة بالنسبة لأبناء القرى حيث اختاروا المغامرة والمخاطرة بحياتهم بشتى الطرق بحثا عن مورد رزق.  وأكد المرابطي أن عشرات الآلاف من شبابنا خاصة بعد تواثر سنوات الجفاف وعدم انتظام المناخ وجدوا أنفسهم بدون مكسب عيش محاصرين في قرى منسية ومهمشة كانت بالأمس تنعم بثروة فلاحية مهمة تشكل المورد الأساسي لرزقهم ولذويهم، مشددا على أن “الظروف دفعتهم لركوب قوارب الموت والتوجه في رحلة المجهول نحو غد أفضل كما يتمنون، لكن ليس كل وجهة توصل لبر الأمان”. وأضاف الدكتور المرابطي أن “هناك من وصل إلى مبتغاه وحقق جزءا من أحلامه إلا أن هناك من نجح في الوصول لكن اصطدم بواقع آخر بعثر كل أوراقه، فيما يلقى الكثير حتفهم في أول مغامرة”. 

فقدان الحماية وأشار الدكتور المرابطي، الذي حصل على الدكتوراه في القانون العام بجامعة سرقسطة سنة 2017، حول موضوع “آفة الهجرة ببلدان المغرب العربي، دراسة سوسيوقانونية-المغرب نموذجا”، إلى أن شباب القرى المغربية يفضلون الهجرة لإسبانيا بحكم معرفتهم المسبقة لطبيعة اليد العاملة المطلوبة هناك حيث تكون الوجهة نحو المناطق التي يتواجد بها أبناء بلداتهم أولا لضمان مرحلة الاستضافة والإيواء عند وصولهم، وثانيا لمساعدتهم على إيجاد عمل وتسهيل عملية الاندماج. وتابع المرابطي أن “فئة من هؤلاء يضطرون لبيع أراضيهم أو ما تبقى من ماشيتهم لضمان تسديد مبلغ الحصول على عقد عمل عبر وسطاء لهذا الغرض، لكن تبقى النسبة الكبرى تفضل “الحريك” عبر قوارب الموت حيث التكلفة المالية تبقى منخفضة مقارنة بالمحاولة الأولى”. وأردف المتحدث نفسه: “بعد الوصول إلى الضفة الأخرى يجد المهاجرون أو النازحون بدافع التغيرات المناخية أنفسهم أمام وضع قانوني متشابك، بالرغم أن مهاجري المناخ يحصلون على وضع النازحين في بلدانهم، إلا أنهم بمجرد عبور الحدود الدولية يفقدون الحماية التي تتوفر للمهاجرين هربا من العنف أو الاضطهاد، لأن المنظمة الدولية للهجرة دأبت على استخدام مصطلح “المهاجرين البيئيين”، و ليس “لاجئ بيئي” وذلك لأن اتفاقية جنيف 1951 التي حددت شروط قبول اللجوء لم تذكر المناخ كسبب من الأسباب، وإنما حصرت منح اللاجئ حق اللجوء في حال تعرضه للاضطهاد السياسي بسبب العرق، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء لطائفة اجتماعية معينة، أو إلى رأي سياسي”.  وأضاف الدكتور المرابطي: “في هذه الحالة يكون المهاجرون المغاربة خارج نطاق الحماية الدولية كطالبي لجوء بدافع المناخ، وهو ما يلبسهم صفة المهاجر غير النظامي في حالة تواجدهم بالأراضي الإسبانية بطريقة غير شرعية وما يترتب عن ذلك من صعوبات في تدبير الحياة اليومية لهذا النوع من المهاجرين، فقط إذا استثنينا فئة القاصرين غير المصحوبين الذين يتمتعون بوضع قانوني مختلف يشملهم بحماية خاصة حتى بلوغهم سن الرشد طبعا إذا توفرت فيهم الشروط المنصوص عليها قانونا، حيث تتكفل بهم جمعيات ومراكز إيواء محلية تستفيد من دعم الدولة”.

اللجوء الإنساني واستطرد المرابطي: “سواعد اليد العاملة المغربية لها دور كبير في خدمة وتطوير الفلاحة الإسبانية لهذا فإن حكومة هذا البلد تحاول تنظيم هذا القطاع وتقنينه من خلال تسوية الوضعية القانونية لعدد كبير منهم أو بواسطة جلب العمالة الموسمية لسداد النقص الحاصل في هذا القطاع، حيث تخصص النسبة الكبيرة للعمال الموسمين المغاربة بعدما يلتزمون بالعمل لمدة معينة ومن تم العودة للبلد عند نهاية عقودهم، لكن الكثير يفضلون البقاء بإسبانيا والإقامة بصفة غير شرعية لينضافوا لعشرت الآلاف من المهاجرين غير النظاميين من أصول مغربية، كما أن أغلبهم ينحدرون من مناطق قروية حيث تعتبر الفلاحة المصدر الوحيد لعيشهم، تركوا قراهم مجبرين نتيجة تواثر سنوات الجفاف وعدم انتظام المناخ مما أثر سلبا على مردودية الأراضي الفلاحية هناك وبذلك صعوبة تأمين لقمة العيش هناك”. وأبرز المتحدث عينه، أنه أمام هذا الوضع يلجأ الكثير من هؤلاء المهاجرين لتقديم ملفهم ضمن مسطرة “اللجوء الإنساني”، مشيرا إلى أنه في أغلب الحالات يتم رفض طلبهم مباشرة بعد التأكد من جنسيتهم المغربية إلا في حالات قليلة جدا، حيث يتم قبول الطلب إذا تبين أن واضعه تتوفر فيه شروط اللجوء السياسي مثلا وهو الاحتمال الذي يبقى من الصعب قبوله في حالة المواطن المغربي، إلا أنه رغم ذلك يتقدم كثيرون بملف اللجوء. واختتم الدكتور المرابطي الذي التقته جريدة بيان اليوم، داخل جامعة سرقسطة، قائلا: “يجد المهاجر المغربي بدافع التغيرات المناخية نفسه في وضعية جد معقدة كمقيم غير شرعي مع صعوبة تأمين لقمة العيش، حيث يضطر للعمل في السوق السوداء دائما متواريا عن الأنظار وما يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة نفسيا واجتماعيا وقانونيا”، مستطردا:” رغم أن هناك من نجح في اجتياز هذه المرحلة بنجاح واستطاع تسوية وضعيته القانونية والحصول على وثائق إقامة تضمن له فرصة العيش والعمل بشكل قانوني، بل البعض استفاد من سنوات العمل وقرر الرجوع لبلده والاستثمار في أراضيه الفلاحية من جديد بعقلية مغايرة واستغلال خبرته التي اكتسبها من عمله ببلاد المهجر، حيث هناك أمثلة كثيرة بصمت على نجاح مبهر في هذا القطاع مع توفير فرص العمل لكثير من أبناء المنطقة بل منهم من وصلت منتوجاتهم الفلاحية حتى السوق الأوروبية”. *اكاديمي ومحامي متخصص في الهجرة واللجوء بسرقسطة

**********

 بالوما لافوينتي أراندا المنسقة الإقليمية لمنظمة “أكسيم” بسرقسطة لـ :” بيان اليوم” 

بالوما لافوينتي بمقر المنظمة بسرقسطة

الدول المستقبلة لازالت تفتقر للتربية البيئية.. ونحن نرافع لأجل اللجوء

قالت بالوما لافوينتي أراندا، المنسقة الإقليمية لمنظمة “أكسيم” التي تشتغل على حماية اللاجئين بسرقسطة (شمال شرق إسبانيا)، إنهم يستقبلون أشخاصا من عدة دول، موضحة أنه رغم تسجيل هجرتهم ومغادرتهم بلدانهم لأسباب اقتصادية ومادية إلا أنه عند مقابلتهم والتباحث معهم عند طلبهم اللجوء أو الحماية الدولية، يعلمون منهم بطريقة غير مباشرة أنهم يغادرون بلدانهم ويطالبون باللجوء للهروب من نتائج التغير المناخي. وأضافت منسقة المنظمة غير الحكومية التي تعمل على تحسين الظروف المعيشية للأشخاص المعرضين للخطر، في لقاء خاص مع جريدة بيان اليوم بمقر المنظمة بسرقسطة، إن هؤلاء عانوا من الزلازل، الفيضانات أو الجفاف…، مبرزة أن هذه الظروف الصعبة كانت تجعل مواصلة العيش في بلدانهم الأصلية صعبة، فإما أن يذهبوا إلى مناطق داخل بلدهم أو يخرجوا من البلد لأن العيش في بلدهم أو منطقتهم أصبح صعبا في ظل ما يحدث على مستوى التغير المناخي.

التغير المناخي وأشارت المتحدثة نفسها إلى أنه على المستوى الدولي لا تعتبر نتائج التغير المناخي سببا مباشرا لمغادرة البلد وطلب اللجوء أو الحماية الدولية، ويعتبرونهم مهاجرين يطالبون بالحماية الدولية بسبب الظروف الاقتصادية، رغم أن السبب غير ذلك، مستطردة: “لذلك أكسيم ومنظمة أكنور يطالبان بتغيير السياسات العامة والعمل انطلاقا من المناطق الأصلية أي البلدان التي يأتي منها المهاجرون، لتجنب مثل هذه الكوارث، أو التفكير في كيفية إعادة الأمور أو العمران كما هي قبل هذه الكوارث الطبيعية من زلازل وغير ذلك، حتى لا يجد الشخص نفسه مجبرا على مغادرة بلده وبيته، هذا من جهة، وهذا يتم باستثمار أموال كثيرة ومساعدة هذه الدول، لأن هناك دول أكثر هشاشة مقارنة بأخرى، وهذا طبعا يجعل الأمر صعبا لقلة الموارد الاقتصادية والماء والغذاء، إلى غير ذلك”. ومن جهة أخرى، حسب بالوما لافوينتي، يجب اعتبار التغير المناخي سببا من الأسباب التي يمكن إدراجها لطلب اللجوء أو الحماية الدولية والاعتراف به، مؤكدة أن عدم الاعتراف به يجبر المهاجرين على التقدم بطلبات تحت وطأة الجانب الاقتصادي والمادي، لأنهم لو تقدموا بطلب بسبب التغير المناخي لن يحصلوا على اللجوء. وشددت بالوما لافوينتي، على ضرورة الاستثمار في الدول لكي يتم تجنب في المدى المتوسط أو البعيد وجود أشخاص في مثل هذه الظروف يهاجرون من بلدانهم الأصلية. وعن ما إذا كانت المنظمة تستقبل مهاجرين مغاربة بسبب التغير المناخي، قالت بالوما لافوينتي: “لم أقابل أحدا من المغرب غادر بسبب التغير المناخي ولكن لأكون صريحة ليس لدينا سجل لأسباب الهجرة أو لرصد التغير المناخي كسبب للهجرة، لكن فعلا قابلت أشخاصا من المغرب يطالبون بالعمل في مجال الفلاحة، وكذلك الصيد، وقمت بمقابلة أشخاص يطلبون العمل في الصيد والفلاحة يأتون غالبا من البادية، ويكون واضحا رغم أنهم لم يصرحوا بذلك أن سبب هجرتهم هو التغير المناخي”.

الجوع وقلة الموارد وعزت الفاعلة المدنية نفسها عدم التصريح بالتغير المناخي كسبب للهجرة وطلب اللجوء لعدم معرفتهم بهذا الصنف من اللجوء أولا ثم لعدم الاعتراف القانوني به، موضحة: “نوضح لهم، لكن لا يفهمون ذلك، هم فقط يعرفون أنهم غادروا بلدانهم لأنهم يمرون بالجوع وقلة الموارد، لذلك يقولون أنهم خرجوا لأسباب مادية، وأذكر مقابلتي مع عائلتين سينيغاليتين، يحاولان شرح أن الجفاف هلك كل شيء، وأنا أقول لهم طبعا أنه التغير المناخي، ولكن هم لا يهمهم السبب، ما يريدونه هو الأكل والعيش الكريم ولا يريدون سماع غير ذلك”. وأردفت بالوما لافوينتي: “ما يصرحون به ويقولونه للشرطة أيضا هو أنهم لم يجدوا ما يقتاتون عليه ويئسوا من الوضع، وأن هناك من غادر من عائلاتهم نحو دول جنوب الصحراء، والمناطق الساحلية حيث يقومون بالصيد والفلاحة، لكن بما أن التغير المناخي لا يعتبر سببا من الأسباب المباشرة للمطالبة باللجوء فهم يعتبرون أن التغير المناخي مشكل من مشاكل الدول المتقدمة، هم لا يقولون ذلك لكن هذا ما يفهم من كلامهم”.

التربية البيئية تعتقد المتحدثة عينها أن الدول المستقبلة لا يزال ينقصها التربية البيئية، مؤكدة: “طالبنا بإدراج التغير المناخي ضمن أسباب اللجوء لأنه من أكبر الأزمات التي نعانيها في هذا القرن على المستوى العالمي ولها نتائج وخيمة تقع الآن وستكون أكثر حدة في المستقبل؛ نحن نعيش أزمة التغير المناخي ولكن الدول الأكثر هشاشة هي التي ستعاني أكثر، الناس يغادرون وقد نجد أنفسنا أمام هجرة كبيرة من الجنوب إلى الشمال، وقد يصل أيضا إلى إسبانيا، فمجموعة من الأشخاص يطالبون باللجوء لمثل هذه الأسباب”. وأضافت: “الأزمات الطبيعية تقع بشكل سريع لذلك عدد الضحايا والمهاجرون الذين يغادرون هذه المناطق يبلغون أكثر من 20 مليون شخص، تخيل معي أن يقع مثل الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في ثلاث دول إفريقية أو أمريكا الجنوبية، وعلى الساكنة المغادرة بسرعة، سيكون الأمر صعبا جدا، وهذا هو الخطر الذي يمكن أن نتجنب حدوثه، ويجب معالجته بسرعة، وفعلا لا أدري كيف سنتعامل مع الوضع إذا تمت بالفعل هذه الهجرات من الجنوب صوب الشمال، فالأمر خطير جدا، أعتقد أنه من الجيد أن تقوم المؤسسات والوزارة وكل من يعمل في هذا الأمر بوضع سجل لمعلومات الأشخاص المهاجرين بسبب التغير المناخي، لكي يعرفوا أن سبب المغادرة هو التغير المناخي؛ فإن لم نرى الأرقام ونتائجها على المدى المتوسط والبعيد لن يكون هناك عمل لحل هذا الإشكال الذي تحدثنا منذ عشرات السنين عن نتائجه من خلال دراسات دقيقة، لكن رغم ذلك هناك أشخاص لا يعترفون بالتغير المناخي حتى الوقت القريب، وهم مثقفون وذوو مستوى مادي جيد، لكنهم لا يعترفون به للأسف”.  واختتمت بالوما لافوينتي: “يجب الضغط لحل هذا المشكل وإن كنت لا أعرف كيف نقوم بذلك بالضبط! هل بتنظيم وقفات في الشارع؟ أظن أنه يجب التنبيه إلى المشكل من طرف كل من مكانه، ليعلم الجميع أن التغير المناخي سبب من أسباب الهجرة، وكذلك لتكون هناك حملات تحسيسية من طرف الاتحاد الأوروبي، فليس هناك خيار آخر، يجب أن يعمل كل من مكانه وكل بقدر استطاعته، حتى تكون هناك خطوات عاجلة وبشكل جماعي (المؤسسات التشريعية، ممثلي المجتمع المدني..)، لست ممن يقول أن عليهم أن يفعلوا هذا أو ذاك، ولكن كل منا يجب أن يفعل ما في استطاعته، فالمجتمع المدني بدوره عليه أن يفعل ما بوسعه”.

**********

الدكتور محمد الخشاني* في حوار مع “بيان اليوم” : الدول الغنية تتحاشى الاعتراف بـ”اللجوء المناخي” لتبعاته

قال الدكتور محمد الخشاني، خبير في الهجرة، إن التغير المناخي أصبح واقعا، وأصبح عدد ضحاياه كبيرا، معتبرا أن المشكل الكبير هو أن القانون لا يحميهم. وأوضح أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس بالرباط، في حوار مع جريدة بيان اليوم، أن اليوم لدينا نوعان من اللاجئين، لاجئ سياسي ولاجئ مناخي، مؤكدا أننا الآن نتكلم حقيقة عن اللاجئ المناخي، لأن هذا هو الواقع الذي ينطبق على هؤلاء، باعتبارهم يغادرون أماكنهم تحت ضغط التغير المناخي. وأشار الخبير لدى عدة منظمات دولية، والكاتب العام للجمعية المغربية للدراسات والأبحاث حول الهجرة، إلى أن المسألة تهم العالم بأسره، لأنه لحد الآن هناك إشكال أساسي يتعلق بتعريف اللاجئ المناخي، مشددا على أن المسألة هي مسألة دولية ولا ترتبط بدولة معينة، “لأنه من بين الإشكاليات المطروحة أنه لا يوجد تعريف متفق عليه لما سيطلق عليه اللاجئ المناخي، هناك إحصائيات طبعا في سنة 2017 تقول بأن هناك أكثر من 25 مليون لاجئ في العالم، ويقولون بأنه فيما يخص الهجرات المستقبلية المتعلقة بالمناخ سنصل سنة 2050 لما لا يقل عن 250 مليون شخص في العالم سيغادرون أراضيهم تحت وطأة التغير المناخي”. وهذا نص الحوار:

< اضطر العديد من الفلاحين للتخلي عن أنشطتهم والهجرة نحو المدن أو خارج أرض الوطن، للبحث عن مورد رزق جديد. أين يمكن تصنيف هذا النوع من الهجرة، ولماذا؟

>إننا الآن نتكلم حقيقة عن اللاجئ المناخي، لأن هذا هو الواقع الذي ينطبق على هؤلاء، فهم يغادرون أماكنهم تحت ضغط التغير المناخي، وهذا التغير المناخي أصبح واقعا، وأضحى عدد ضحاياه كبيرا، والمشكل الأكبر هو أن القانون لا يحميهم؛ أي لدينا الآن نوعان من اللاجئين، لاجئ سياسي ولاجئ مناخي.  فيما يخص اللاجئ السياسي توجد اتفاقية جنيف 51 والتي لا توجد فيها أي إشارة لهذه الهجرة التي تكون تحت وقع المناخ؛ المشكل المطروح أن هذه الظاهرة أصبحت مستفحلة في جميع الدول، وعدد من الدول يمكن ألا نتوقعها هي أيضا مهددة بهذا الخطر المناخي، وهي لائحة طويلة تضم بلدانا من آسيا ومن إفريقيا وكذلك من أوروبا؛ إذن هذه المسألة أصبحت تطرح بحدة إشكالية معالجة المهاجر بسبب تغير المناخ أو اللاجئ المناخي.

<إلى أي حد ترون أن التغيرات المناخية وظاهرة الجفاف ساهمت في ارتفاع نسبة الهجرة غير النظامية أو اللجوء المناخي على المستوى الوطني والدولي؟

> بداية لا توجد إحصائيات فيما يخص عدد اللاجئين، فمثلا قمت شخصيا بزيارة لبعض القرى في الأطلس الصغير، وكانوا يتوفرون على تقنية قديمة هي المطمورة، حيث كانوا يجمعون فيها الماء وعندما يبلغ الصيف يستخدمونه في الشرب وسقي البهائم، إلا أن كل هذه المطمورات جفت، لدى فإمكانية العيش في تلك القرى انعدمت؛ توجد قرى فعلا هاجر منها الناس، لأنه “وجعلنا من الماء كل شيء حي”، إذا ما لم يكن هناك ماء فلا وجود لأي شيء.  في الجنوب المغربي انطلاقا من الداخلة إلى حدود الضفة الجنوبية لجبال الأطلس حقيقة هناك موجة جفاف كبيرة دفعت عددا من الساكنة إلى الهجرة، وأصبحت قراهم عبارة عن أطلال، وهؤلاء إما يهاجرون داخل المغرب في المرحلة الأولى، ثم فيما بعد يهاجرون إلى الخارج، وهو ما نسميه نحن الهجرة المضاعفة، حيث يهاجر إلى المدن الكبرى كالدار البيضاء ومراكش ثم يهاجر إلى خارج البلد؛ هذا فيما يخص  المغرب، لكن هذه الظاهرة توجد في العالم ككل.  إن لجوء اللاجئ المناخي ليس مرتبطا بالجفاف فقط، لأنه عندما نرى دولة مثل (هولندا) 47% من الناس مهددين بالتغير المناخي، المملكة المتحدة 4%، فرنسا أيضا 4%، وهناك دول حيث يوجد التهديد بشكل كبير مثل (هولندا) والفيتنام والتايوان 49%، أي أن التغير المناخي سيكون له تأثير كبير في حركية السكان، بدون أن يكون لهم هذا الوضع المتعلق باللاجئ المناخي؛ فهذه الصفة غير موجودة أساسا، إذ تتحاشى الدول الغنية سواء في كوب 22 أو كوب 23 التكلم عن اللاجئ المناخي لأنه بالنسبة لها سيحملها مسؤولية من وراء هذا، وعندما نطرح هذا السؤال يجب أن نقف عند الدول التي تتسبب في التغير المناخي، وهنا تتمثل مسؤولية الدول الغنية الصناعية، ومن هذا الباب لا يريدون التطرق لهذا المشكل، خوفا من أن يحاسبوا ويطالبوا بتعويضات لصالح الدول الأخرى، مثل إفريقيا، حيث إنتاج الكاربون والإشعاعات الكربونية جد ضعيفة وهي قارة تعاني الأمرين من هذا، فالساحل مثلا اختفت الأماكن التي كانت خاصة بالفلاحة وأصبحت عبارة عن أرض جرداء.

< هل هي ظاهرة جديدة أم أنها موسمية أو هي ظاهرة قديمة بدأت نسبتها ترتفع خلال السنوات الأخيرة؟

> يعد تكاثر السكان من العوامل التي أبرزت هذه الظاهرة، لأن هناك دورة مناخية، ففي سنة 1945 كنا نعيش الجفاف، وكان عام البون، وكان الجفاف قاسي لكن في ذاك الوقت لم يطرح المشكل بنفس الطريقة التي طرح بها الآن، لأنه أولا عدد السكان كان ضئيلا وحركية السكان كانت ممكنة، الآن الأمور تغيرت، ففي الخمسينات كان سكان المغرب حوالي 8 ملايين أو 9 ملايين، الآن نحن تقريبا فيما يزيد عن 40 مليون، وبالتالي فهذه المسألة لا تطرح بذات الحدة، فدولة سكانها قليلون ليست كدولة سكانها بكل هذا الحجم. فمن يهاجر هم السكان وليس الطبيعة، يهاجرون تحت وطأة التغير المناخي.

< كيف ترون أو تقيمون تعاطي المجتمع الدولي مع التغير المناخي سواء من الناحية القانونية أو الإنسانية؟ وكذلك على الصعيد الوطني ؟

> المسألة تهم العالم بأسره، لأنه لحد الآن وكما قلت قبل قليل، بأن هناك إشكال أساسي يتعلق بتعريف اللاجئ المناخي. فهذه المسألة هي مسألة دولية ولا ترتبط بدولة معينة، لأنه من بين الإشكاليات المطروحة أنه لا يوجد تعريف متفق عليه لما سيطلق عليه اللاجئ المناخي، هناك إحصائيات طبعا في سنة 2017 تقول بأن هناك أكثر من 25 مليون لاجئ في العالم، ويقولون بأنه فيما يخص الهجرات المستقبلية المتعلقة بالمناخ سنصل سنة 2050 لما لا يقل عن 250 مليون شخص في العالم سيغادرون أراضيهم تحت وطأة التغير المناخي؛ مثلا توجد منظمة اسمها climate central تقول بأنه ما بين 147 و216 مليون شخص يعيش الآن في بعض البلدان سيكونون تحت مستوى البحر إذا ما بقيت دار لقمان على حالها، حيث سيرتفع مستوى البحر… لدى قلت سابقا بأن (هولندا) من الدول المهددة بارتفاع نسبة المياه، الآن يضعون حواجز قبالة البحر لكن ذلك لن يكفي إذا استمرت الأمور على حالها، لكن هناك دول أخرى مهددة مثل الفيتنام وتايلاند وبنغلاديش، فبنغلاديش مثلا يقولون بأن أزيد من 20% من مساحتها ستغمرها المياه لأن التغير المناخي من آثاره المباشرة ذوبان الجليد في القطب المتجمد الشمالي، وعندما يذوب يرفع نسبة المياه في المحيطات، فمثلا (هولندا) رغم تلك الحواجز لن يستطيعوا إيقاف المياه الهائلة التي تأتي من القطب المتجمد الشمالي، اليابان نفسها تعاني من نفس المشكل ف10% من السكان مهددين. مع الأسف لا توجد إحصائيات مضبوطة فيما يخص إفريقيا، فالساحل أصبح أرضا جرداء وذلك يؤدي إلى تحرك السكان من الساحل نحو شمال إفريقيا، وهذا ما يفسر أن عددا لا بأس به من هؤلاء المهاجرين المنحدرين من جنوب الصحراء أن ما حتهم للمجيء إلى المغرب هو التغير المناخي والذي لديه انعكاسات على الواقع الاقتصادي، لأن الإنسان الذي يزرع قطعة أرضية ويعيش منها عندما لا يجد الماء لسقيها يفقد وسيلته للعيش وهو ما يدفعه للهجرة. في الحقيقة في مراكش خلال كوب 22 تقدت بمداخلة تحت عنوان “le réfugié climatique: des nouvelles protections à construire” أي “اللاجئ المناخي: حماية يجب بلورتها وانشاؤها”،  أكدت أنه على المستوى الدولي غير موجودة، لأن الموجود هو اللاجئ السياسي فقط، والدول الغنية ترفض هذا النقاش. يجب أن تعدل اتفاقية جنيف لإدخال هذا النوع من اللجوء المناخي أو أن تكون هناك اتفاقية جديدة حول اللاجئ المناخي؛ هي ترفض للأسباب التي سبق أن ذكرتها، لأن ذلك سيجعلها مسؤولة أمام العالم، وهي بالفعل كذلك مسؤولة عن الإشعاعات التي تؤدي للتغير المناخي، فصناعاتها واقتصادها هي السبب، لذلك تتحاشى أن تكون هناك اتفاقية جديدة ستكون وسيلة لمحاسبتها، لأنه عند المصادقة على اتفاقية دولية يجب أن تقدم تقارير حول تطبيقها، والدول الغنية ترفض أن يكون هناك اتفاقية جديدة.

< إذن ما هي سبل حماية اللاجئ في هذه الظروف وهذا السياق الدولي؟

> لا توجد حماية، هنالك جزيرة قرب نيوزيلاندا رئيسها قام بمجلس وزاري في قاع البحر، لكي يبين للعالم أن هذه الجزيرة مهددة وستختفي، لكن لا حياة لمن تنادي. فأحد سكان تلك الجزيرة تقدم بطلب لمحكمة نيوزيلاندا يطالب اللجوء المناخي، لكن تم رفضه لأنه لا يوجد أي نص قانوني يمكن أن يعتمد عليه للأخذ بعين الاعتبار طلبه. وبالتالي الحل الوحيد لحماية هذه الفئة هو الاعتراف بهذا النوع من اللجوء، ويجب على المجتمع المدني أن يتحرك ويفرض أن تكون هناك اتفاقية جديدة أو تعديل اتفاقية جنيف.

*أستاذ بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس وخبير في الهجرة

**********

الدكتور إبراهيم المرابط باحث في قضايا الهجرة والتنمية لـ ” بيان اليوم” : الجفاف يعيد إنتاج ظاهرة كانت عاشتها بوادي تادلا أواخر القرن الماضي

قال الدكتور إبراهيم المرابط، باحث في قضايا الهجرة والتنمية، وعضو مختبر الأبحاث “الجغرافيا، التهيئة، الديموغرافيا، التنمية” التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير، إن الهجرة عموما والدولية منها خصوصا، تعتبر واحدة من الظواهر البشرية المميزة للأرياف المغربية منذ القدم. وأبرز المرابط في تصريح لجريدة بيان اليوم، أنه في بعض المجالات لا تكاد تخلو أسرة من مهاجر للخارج، يقوم دوريا بإرسال مبالغ مالية ومواد عينية خلال فترات مختلفة من السنة لأسرته، مشيرا إلى أن هذه الموارد كانت خلال فترات الجفاف والأزمات الاقتصادية المورد الأول لعيش الأسر بالبوادي والأرياف بكل من سوس والريف وتادلا.

قرار عائلي وأضاف المتحدث نفسه، الذي حصل على الدكتوراه في التمدين والتهيئة الحضرية شعبة الجغرافيا سنة 2018 حول آثار الهجرة الدولية على تنوع وتعدد الأنشطة الحضرية بمدن الدوائر السقوية والذي اتخذ من سهل تادلا وسهل سوس مجالا لبحثه، (أضاف) أنه منذ ثمانينات القرن الماضي لم تعد الهجرة للخارج فعلا فرديا وتخطيطا معزولا يقوم به المهاجر لوحده، بل أصبحت قرارا عائليا تتبناه العائلة، تخطيطا وتمويلا، ضمانا لاستمرار أنشطتها الريفية ومكانتها المادية والاجتماعية، وهو الأمر الذي وقف عنده في دراسته لأرياف تادلا. وأكد الدكتور المرابط على أن العائلة الريفية أصبحت فاعلا أساسيا في تدبير مجالها وصناعة مستقبل أبنائها بعد غياب صناع القرار عنها وعن انشغالاتها، مستطردا: “الأغرب من هذا أن هذه الهجرة، نحو الخارج، ظهرت في مجالات موفرة للاغتناء مثل سهل تادلا وسهل سوس، فهي مجالات عرفت استثمارات عمومية جد هامة في قطاع الفلاحة السقوية منذ فترة الاستعمار الفرنسي لها، وبالتالي فقد كان من المفروض على هذه المجالات أن توفر فرص الشغل لأبنائها وأن تستجيب لتطلعاتها، إلا أن العكس هو الذي حصل، بل سجلت بها هجرة عنيفة جدا نحو الخارج منذ التسعينيات وبداية الألفين فيما عرف إعلاميا بقوارب الموت والحريك، فما سبب ذلك؟”.

ضعف وتراجع المحاصيل وأوضح المتحدث عينه، أنه: “بعد توالي سنوات الجفاف الفلاحي بالمغرب، الذي تسبب في ضعف وتراجع المحاصيل الزراعية والحيوانية، وهو الجفاف الذي سجل في سنوات السبعينات والثمانينات والتسعينات في ما بين سنتي 1974/1975، وسنتي 1981/1984، وسنتي 1986/1987، وسنتي 1991/1993، ثم سنتي 1994/1995، وبعد عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية والاجتماعية أمام المواطنين تبنت سياسة التقويم الهيكلي بإيعاز من البنك الدولي، ما أدى لتغيير أدوارها وهيكل الاقتصاد فيها بتبنيها لسياسات جديدة وخوصصة بعض مؤسساتها لحمايتها من الانهيار، سياسات أحدثت نتائج لم يكن جميعها إيجابيا، فقد أدت إلى تراجع تدخل الدولة في تحديد أسعار مخرجات ومدخلات الإنتاج الفلاحي، وتراجعت عن دعم أسعار وسائل الإنتاج من أسمدة ومياه السقي وغيرها، مع الحد من القيود المفروضة على القطاع الخاص في استيراد وتصدير المنتجات الفلاحية وغيرها”. وأضاف د.المرابط، بناء على بحثه للدكتوراه أنه كانت: “أوضاع متأزمة طبيعيا وسياسيا واقتصاديا لم تجد معها الأسر الفلاحية بسهل تادلا غير البحث عن موارد جديدة تحمي بها نفسها من التقلبات والإكراهات المتزايدة، الوضع هذا تزامن مع انضمام ايطاليا واسبانيا للاتحاد الأوربي، وهو ما يعني حاجتهما ليد عاملة غير مؤهلة في قطاعات البناء والتجهيز والحرف والفلاحة، وهذا بالضبط ما سهل خروج آلاف الشبان نحو هاذين البلدين بعقود عمل مؤقتة عادة ما يتم خرقها والبقاء هناك لغاية الحصول على أوراق الإقامة، كما أن هؤلاء الشبان من أبناء تادلا غالبا ما يتركون أعمال البناء والفلاحة مباشرة بعد الوصول لأوروبا والتوجه نحو أنشطة أخرى خدماتية وتجارية لها مردود أحسن وأفضل، هذه العقود التي كانت في البداية مجانية، تدخل فيها الوسطاء وأصبحت تشترى بالملايين من قبل الأسر الفلاحية لأبنائها، ما جعلها في غير متناول الأسر الفقيرة والضعيفة، الأمر الذي أحدث نوعا جديدا من الهجرة، والتي بدورها لم تخل من وسطاء ولوبيات تحصلوا منها على الملايين، وهي الهجرة السرية وقوارب الموت، وكأنها رحلة سمك السلمون ضد التيار”.

الفردوس المفقودة وتابع المرابط: “اتجه شباب تادلا بالآلاف صوب البحر وقوارب الهجرة السرية للعبور للفردوس المفقودة، فخلال التسعينيات لم تكن أيام تادلا تخلوا من خيام العزاء هنا وهناك ترحما على الشباب الغارقين بالأطلسي والمتوسط، نشرات الأخبار الرسمية تعلن يوميا ولشهور طويلة عن غرق شباب تادلا وهم مكدسون بقوارب خشبية ومطاطية ألقى بهم البحر جثثا وهم يحاولون العبور للضفة الشمالية، ومن لم يسلك منهم هذا الاتجاه اتجاه للتسلل في شاحنات نقل البضائع وفي بواخر عبور مضيق جبل طارق، وأغلبهم من الأطفال والمراهقين، كل هذا حدث تحت متابعة ومباركة الأسر التي لم تعد تثق في التقلبات المناخية التي لا تستقر على حال. وأكد المرابط أنه بعد اكتشاف عائدات الهجرة الدولية وبلدان أوربا الغربية، وبعد توالي الجفاف والتغيرات المناخية بالمغرب، وغياب الدولة التي تراقب الوضع في صمت خوفا من أي حراك اجتماعي، تيقنت الأسر الريفية ألا منقذ لها غير الهجرة، وما يحدث الآن على مستوى القرى ما هو إلا إعادة للتاريخ نفسه.

المنقذ الاجتماعي واستطرد المتحدث نفسه: “لقد كانت الهجرة الدولية المنقذ الاجتماعي لبوادي وسهول ومراكز تادلا خلال الثمانينات والتسعينات والألفين؛ دواوير باكملها هاجر أبناؤها الذكور صوب إيطاليا وإسبانيا، فتغير نمط العيش للساكنة في الملبس والمأكل وطريقة العيش، خلال الصيف تكون سيارات الترقيم الأجنبي طاغية في شوارع مدن السهل والجبل، في ظرف وجيز ظهرت أنشطة تجارية وخدماتية جديدة، فقد سجلنا على سبيل المثال بمدينة أولاد النمة، التي لم تكن غير مركز صغير قبل انطلاق الهجرة، وجود مقاهي جد مجهزة بكراسي وطاولات أنيقة وشاشات عرض ضخمة وشبكة الانترنت وكلها أمور لا نجدها إلا في مراكز كبريات المدن، وغيرها من الأنشطة الخدماتية كمراكز تحويل الأموال وصرف العملات ووكالات جميع الأبناك ومحطات البنزين المجهزة وغيرها”. وتابع المرابط: “بعد الأزمة المالية لسنة 2008 التي عرفتها أوروبا، تراجع مد الهجرة نحو أوروبا، ودخلت تادلا في مرحلة هجرة العودة، حيث سجلت أرقام قياسية في أعداد المهاجرين العائدين لمناطقهم الأصلية سواء بصفة نهائية أو بشكل مؤقت إلى أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية، وكانت فرصة لهم لخلق مجموعة من الاستثمارات بالمنطقة بعد خوفهم من استمرار الأزمة هناك.

التاريخ يعيد نفسه وأردف الدكتور المرابط: “وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، فبفعل شح التساقطات المطرية وعودة الجفاف للمغرب ولسهول تادلا أصبحت الفلاحة ومعها الفلاح/عائلة المهاجر في أزمة خانقة، كما أن تداعيات فيروس كورونا وارتفاع الأسعار العالمية والحرب الروسية الاوكرانية وغيرها من الأحداث شدت الخناق مجددا على المواطن المغربي الذي تأثر اقتصاده بشكل مباشر بها، ليعود الشباب مجددا ومعه الأسر لإعادة إنتاج تيارات جديدة للهجرة الدولية صوب أوربا وأمريكا الشمالية ودول الخليج، وهو الأمر الذي لامسناه جليا بسهل تادلا، حيث بدأ الشباب مجددا يلقي بنفسه في قوارب الهجرة السرية في إعادة إنتاج ظاهرة كانت عاشتها بوادي تادلا أواخر القرن الماضي”.

**********

الرؤية المستقبلية وتحدي التدابير المستدامة

صورة تظهر حجم تراجع حقينة سد بين الويدان

كرة الثلج تبدأ في التدحرج والتطور، في كل سنة تكبر وتتخذ شكلا أكبر، هكذا بدأت كرة ثلج المعاناة المرتبطة بالجفاف وشح التساقطات تتكون منذ عقود طويلة، وفي غفلة ولا مبالاة المتدخلين والمسؤولين عن القطاعين المائي والفلاحي عنهما بشكل خاص، ومهندسي السياسات العمومية بالبلاد بشكل عام، وفي ظل السياسات الآنية غير الاستشرافية للمستقبل التي يتم نهجها، تراكمت وتفاقمت حتى أضحى الوضع كما هو في الصورة السوداء القاتمة التي كشفنا عنها خلال مسار هذا التحقيق. إن هذا الوضع الذي تهتز له الأنفس، وتتبلد أمامه المشاعر، لا بد أنه نتيجة مباشرة للجفاف بسبب التغيرات المناخية، إلا أنه يبقى مجرد الحلقة الأخيرة التي أنهت مسلسل محاولات الفلاح الصغير للنهوض من الضربات المتعاقبة، الناتجة عن التدخل الجائر للإنسان في الطبيعة وهلعه في استغلال ثرواتها ثم السياسات الاقتصادية الرأسمالية القائمة على حساب البيئة واستنزاف الثروات الطبيعية؛ حيث إن هذه الظروف المناخية في الأخير، هي أساسا نتاج للسياسات الاقتصادية الرأسمالية الجشعة، التي أصبح يشهدها العالم أجمع، وليس على المستوى الوطني فقط؛ خاصة أن التاريخ يشهد على مواسم جفاف متعددة إلا أنها لم تكن بهذه الحدة التي لا شك أنها نتيجة التلوث والاستغلال الجائر للثروات الطبيعية.    في ثبوت تقصير المسؤولية السياسية إن المسؤولية السياسة للقائمين على السياسات العمومية بشكل عام وعلى القطاعين الفلاحي والمائي بشكل خاص، خاصة خلال العقدين الآخرين، عن ما آل إليه الوضع وما زال يتجه إليه، باتت ثابتة ومؤكدة من خلال ما وصلنا إليه من خلال تحقيقنا هذا؛ وما يزيد الطينة بلة ويضع القائمين على القطاع الفلاحي بالذات في دائرة المسؤولية الضيقة هو التحذيرات والتنبيهات التي تعاقبت على مدى سنوات طويلة، منذرة بشكل استشرافي الوضع الذي وصلت له البلاد اليوم؛ بل الأكثر من ذلك فهناك إنذارات بالأسوأ في حال استمرار السياسات الصماء غير المبالية بالتقارير الوطنية والدولية.  وحيث إن كل من يرتبط بالقطاع الفلاحي كان يتوقع منذ سنوات ما آلت إليه الأوضاع مما يزيد من مسؤولية القائمين على القطاع الفلاحي، فإن السوسيولوجي الفرنسي، غريغوري لازاريف، نبه قبل عقد من الزمن، إلى أن المجتمع المغربي القروي أمام سيناريوهين مستقبلا، الأول أنه سيختفي في حال استمرار الفقر وازدياد العجز في التنمية الزراعية القروية والهجرة من القرية أو التخلي الجماعي عن القرى وكذا تصحر الأراضي الزراعية واستمرار تركز أفضل الأراضي في أيادي الملاك الكبار، مؤكدا أنه بذلك سيختفي الطابع القروي إلا من المزارع والمحميات البيولوجية حيث ستصبح موجهة للسياحة فقط. أما السيناريو الثاني بالنسبة للكاتب الفرنسي الذي مكث في المغرب لما يزيد عن 50 سنة، مهتما بدراسة العالم القروي والسياسات الزراعية، هو تحقيق التنمية الزراعية، معتبرا في الباب السابع من كتابه السياسات الزراعية في المغرب (les politiques agraires au maroc 1956_2006)، الصادر سنة 2012، أن السيناريو الأول هو الأرجح، حيث إن الثاني لن ينجح إلا في حالة تم وضع سياسات زراعية تعتمد على الفلاح وليس على سياسات فوقية. ليس الفاعلون في القطاع فقط، بل حتى الوكالة الوطنية للمياه والغابات -المندوبية السامية للمياه والغابات سابقا- نبهت عام 2013 إلى تقلص حصة الفرد المغربي من الماء بشكل ملحوظ من 2500 متر مكعب في العام خلال سنوات الثمانينيات إلى 1010 متر مكعب في عام 2000 ثم تدهورت في عام 2013 لتصل حصة الفرد إلى 720 فقط متر مكعب، مبرزة أن 70 في المئة من الموارد المائية الحالية تتوزع على 27 في المئة من مجموع البلاد مما يعني أن أكثر من 13 مليون مواطن سيعانون من ندرة الماء في أفق 2020. بدوره، لاحظ المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، المؤسسة الدستورية المستقلة التي تم تنصيبها في فبراير 2011، في تقرير له سنة 2014 حول الحكامة عن طريق التدبير المندمج للموارد المائية في المغرب، أن المغرب يشهد تفاقما في الضغط على الموارد المائية بسبب عوامل عديدة منها عادات غير عقلانية في استهلاك الموارد المائية، بل وغير معقولة أحيانا، مسجلا أن الأنماط المتبعة اليوم في استغلال الموارد المالية، والتي صارت أحيانا تكتسي طابعا عدوانيا وضارا بسبب الخطوات التكنولوجية المتحققة، من شأنها أن تؤثر بطريقة لا رجعة فيها، بل وحتى أن تقضي بالفناء على منظومات بيئية كاملة، إضافة إلى ازدیاد غير متحكم فيه في تعداد ساكنة المدن والهوامش، مما يزيد من تعقيد مسلسلات تجميع وإفراغ النفايات المنزلية والشبيهة بها والتخلص من تلك النفايات. فكثيرا ما يتم إفراغ النفايات في مطارح عشوائية وفي مجاري المياه؛ ثم الأشكال الأخرى من التلوث الناجم عن الأنشطة البشرية، وخصوصا في القطاعات الإنتاجية. وفي نفس السنة، ذكر تقرير للبنك الدولي بعنوان “من أجل عالم خال من الفقر” أن المغرب يعاني من احتياطي محدود للموارد المائية وأن حجم المياه التي يمكن استغلالها لا تتجاوز 80 في المئة من الموارد المائية المتوفرة حاليا أما على مستوى الجودة فهي متوسطة و4 في المئة تعتبر جيدة. كما شدد التقرير الصادر سنة 2014 على أن إشكالية الماء بالمغرب مرتبطة بتدبير الموارد المائية مبينا أن نسبة إهدار الماء في المغرب تبلغ 35 في المئة من المياه المتوفرة. وأوصى البنك الدولي في مستهل التقرير بضرورة مراجعة القوانين المتعلقة بتدبير هذا القطاع العمومي الحيوي وملائمة أنظمة التزود بالماء في الحواضر الكبرى مع التغيرات المناخية، منبها إلى تزايد العجز المائي في المغرب في أفق 2025 إلى أكثر من ملياري متر مكعب بموازاة ارتفاع الطلب على الماء إلى أكثر من 19 مليار متر مكعب. من جهته دق مركز المكتب الشريف للفوسفات للدراسات سنة 2017، ناقوس الخطر بشأن التراجع اللافت لمخزون المياه في المغرب حيث أشار في دراسة له إلى أن التحدي الذي يواجه المغرب خلال السنوات الخمس المقبلة تراجع حصة الفرد من الماء إذ قدر المركز أن يصل هذا التراجع إلى 1500 لتر للفرد، منبها إلى أنه ينبغي على المغرب تحديد استراتيجية دائمة لتدبير المياه من أجل طمأنة الاستثمارين الوطني والدولي. وفي السنة الموالية، تناول تقرير عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة يحمل عنوان “إدارة المياه في النظم الهشة”، تناول إشكالية ندرة المياه في شمال إفريقيا وارتباطها بإمكانية زعزعة الاستقرار المجتمعي في السنوات المقبلة إن لم يتم تدارك استفحال هذه الظاهرة. وأشار خبراء منظمة الفاو التابعة لهيئة الأمم المتحدة إلى أن ضعف إدارة المياه في المغرب بشكل عقلاني يمكن أن يتحول إلى محرك أساسي في تفاقم التوترات الاجتماعية خاصة مع تنامي الطلب والمتغيرات المناخية. كما دعا التقرير الصادر سنة 2018 إلى ضرورة الإسراع في إيجاد حلول سريعة وعقلانية في تدبير الموارد المائية لأن أي تجاهل مستقبلي سيكلف المغرب خسائر اقتصادية تقدر ب6 إلى 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050. هذا فضلا، عن التقرير الآخير بحر فبراير الماضي، الذي تطرقنا له سابقا فيما يهم إشكالية الخيارات الزراعية، والذي نبه فيه المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى تأثير استمرار بعض الزراعات الاستوائية، مثل البطيخ الأحمر والأفوكادو، في بعض المناطق الجافة على الاستقرار الاجتماعي، مشيرا إلى أن بعض الزراعات تحتاج إلى التقييم في ظل ما تفرزه التحولات المناخية من آثار على استدامة الموارد المائية. وأشار تقرير المؤسسة الدستورية إلى أن التأخر في إيجاد حلول مستدامة قائمة على التوازن الضروري بين أولوية توفير الماء الشروب من جهة، وتشجيع الأنشطة الزراعية من جهة ثانية، “يمكن أن يؤدي على المديين القصير والمتوسط إلى موجات هجرة قروية كبيرة”. تقرير المجلس رصد كذلك وجود مشاكل على مستوى تدبير الثروة المائية، مؤكدا كثرة المتدخلين وغياب الرقابة على الاستغلال والتقييم المستمر للوقوف على نجاعة بعض الاختيارات، معتبرا أن ضعف الحكامة من بين الأمور التي أوصلت المغرب إلى وضع الإجهاد المائي الحالي. وأوردت الوثيقة ذاتها أن من تجليات ضعف حكامة قطاع الماء، “عدم استقرار القطاع الحكومي المشرف على تدبيره، وضعف الالتقائية بين المتدخلين، مما يجعل الرؤى تتعدد بتعدد الفاعلين وتتغير بتغير الأشخاص”، و”هذا الأمر يفرز غياب رؤية واضحة وبعيدة المدى لتدبير هذا القطاع بالرغم من وجود مخطط وطني مائي”. وتابع المصدر ذاته بأن تعاقب سنوات الجفاف قد يحرم المواطنين من حق الوصول إلى الماء الشروب، حاثا على التعامل مع الجفاف باعتباره معطى بنيويا وليس فقط ظرفيا (ارتفاع درجات الحرارة صيفا وغياب الأمطار في فصل الشتاء).

تفشي الإجرام والمهن غير المنظمة قبل أن نعرج على سبل الخروج من هذا الوضع الحرج، أو على الأقل التخفيف من آثاره، لا بد من الإشارة إلى أن الهجرة من القرى الناتجة عن كل ما بسطناه آنفا، لها آثار وخيمة على المجتمع ككل بشكل عام وعلى المعنيين بها بشكل خاص. إن انتقال سكان القرى نحو المدينة غالبا ما يصطدم مع واقع البطالة والفقر والهشاشة، مما يعني أولا المعاناة النفسية القاصية نتيجة صعوبة الإندماج مع عالم المدينة خاصة أن هذا الاستقرار كثيرا ما يكون بدور الصفيح والبناء العشوائي، وبالتالي نكون أمام صب الزيت على النار، حيث من جهة انتشار هذا النوع من السكن غير اللائق المسيء لصورة التنمية الحضرية كالفطر، ومن جهة ثانية ما ينتج عن هذا التحول الاجتماعي من ارتفاع في نسبة الجريمة وتفشيها بشكل كبير خاصة السرقة وتعاطي المخدرات وما ينتج عنهما. ومن جهة أخرى يلجأ عدد من المهاجرين من القرى نحو المدينة إلى المهن المرتبطة بالقطاع غير المهيكل، خاصة أن أغلبهم غير حاصلين على أي تكوين يؤهلهم إلى الحصول على فرص للشغل على قلتها، وضعف مستواهم العلمي والمعرفي (ارتفاع نسبة الأمية)، وهو ما يضرب كل الجهود المبذولة للقضاء على هذا القطاع أو حتى تنظيمه. وكل هذه الصورة يختزلها الوضع القائم بالمدن المغربية الكبرى التي تعد قبلة للمهاجرين من القرى من قبيل (الدارالبيضاء، طنجة، الرباط…).   عندما يصبح الهروب الجماعي حلا أما فيما يهم الهجرة الخارجية، أي من يضطرون إلى الهجرة خارج الوطن، فإن آثارها على المعنيين بها يصعب اختزالها في بضع صفحات، وقد تم وضع الأصبع على بعضها من خلال ما نقلناه من مأساة خلال هذا التحقيق يعيشها هؤلاء المهاجرون اضطراريا من شعور بالغربة عن الوطن وظروف الاستقرار وما إلى ذلك؛ إلا أن هذه الهجرة تكون لها صورة سلبية على الوطن يستغلها أعداءه، خاصة فيما يخص طلبات اللجوء الإنساني التي تستغلها بعض المنظمات للإساءة للوطن، في وقت لا يمكن تحميل فيه أي مسؤولية عن هذه الآثار للمغاربة الذين يلجأون لهذه المساطر، خاصة في ظل عدم الاعتراف بـ”اللجوء المناخي” من جهة، وعدم درايتهم بخلفية هذه المسطرة من جهة أخرى، ثم وجود النية الحسنة في سلوك هذه المسطرة التي لا يبتغون من ورائها إلا ضمان حيز من الوقت بغرض الاستقرار، خاصة أنهم يعون مآل هذه المسطرة الذي يكون غالبا هو “الرفض”.   في الحاجة إلى سياسات مائية مواطنة يجمع الفاعلون المباشرين بالقطاع الفلاحي على أن السبيل الوحيد لإنقاذهم من براتين الدمار والهجرة غير المتوقع نتائجها هو تمكينهم من الماء ولو بكميات محدودة لسقي أشجارهم وزراعاتهم درءا لموتها ونهايتها بشكل نهائي، فيما يجمع الأكاديميون والحقوقيون والباحثون في مجالي الهجرة والمناخ على ضرورة مراجعة السياسات الزراعية خاصة ما يتعلق بالزراعات المستنزفة للثروة المائية، واستغلالها الجائر في المجالين الصناعي والسياحي، مؤكدين على ضرورة الاعتراف باللجوء المناخي وتحمل الدول مسؤولياتها في هذا الصدد، إضافة إلى العمل على وضع حد للتلوث البيئي. ويقول غريغوري لازاريف في كتابه “السياسات الزراعية في المغرب”، إن مستوى تنمية البلد يؤثر في لحظة ما على الاتجاه الذي يمكن أن يتخذه في التنمية الزراعية والقروية، موضحا أن الإصلاحات يجب أن تنفذ بطريقة عملية مع التركيز على ما يمكن القيام به فعليا بدل التركيز على ما يجب القيام به بشكل مثالي، معتبرا أن الإصلاحات ليست جدرية دائما بل تتحدد وفق عوامل اجتماعية وسياسية. ويرى لازاريف أن تغيير المجتمع القروي يجب أن يكون نتيجة سيرورة ينخرط فيها الفاعلون باعتبارهم مواطنين ومشتغلين قادرين على صياغة المشاريع وتنفيذها، معتبرا أن التنمية القروية هي سيرورة ممتدة زمنيا لدى تستلزم أن تكون السياسات المرافقة لها تحظى بنفس الاستمرارية، وفي هذا الباب يشير إلى أنه سابقا كانت الإدارة هي الفاعل الرئيس للسياسات التنموية، وهو ما يبرر فشلها، لأن الكوادر المشرفة على الاستراتيجيات التنموية كانت محتفظة بدهنيات لا تتماشى مع التغييرات التنموية المخطط لها؛ وهنا أول ما يدعو إليه لازاريف لتحقيق التنمية القروية بالمغرب، هو تغيير عقليات الكوادر الإدارية وتطوير مهاراتهم لأجل فهم الحاجة ومسارات التغيير، فيما يتعلق التغير الثاني بالاعتراف بالدور الحاسم للفلاح/للإنسان في تنفيذ سياسات التنمية القروية واعتباره جهة فاعلة في هذه العملية. وشدد السوسيولوجي الفرنسي، الذي مكث في المغرب لما يزيد عن 50 سنة، واهتم بدراسة العالم القروي والسياسات الزراعية، على أن التقدم الزراعي في المغرب وتحول الفلاحين ليس خطيا ولا سريعا ويستند إلى رسملة الخبرات، والابتكار، وبشكل أساسي إلى إشراك الفاعلين في التفكير المستمر في حالتها والخيارات المتاحة لمستقبلها، مؤكدا أن مسار إعادة بناء الوسط القروي يرتبط بإعادة بناء الهوية القروية، ويرتكز على وضع الإنسان في قلب استراتيجية التنمية القروية، والأخذ بعين الاعتبار تنوع الأقاليم والثقافات وضمان تعزيز سياسات متباينة تتكيف مع تعدد المشاريع الزراعية وإعطاء أولوية قصوى للإدارة المستدامة للموارد الطبيعية والتكيف مع آثار التغير المناخي. من جهته، شدد هشام حذيفة، الكاتب الصحفي وعضو الشبكة المغربية لصحفيي الهجرات، على أنه إذا ما أردنا وقف زحف الرمال، يجب حماية الواحات والعمل على استمرارها، والنظام الموجود فيها، مبرزا أنه نظام لتنوع الثقافات وتواجد النحل الأصفر خاصة بالأجنة الذي يكون في هذه الواحات ويساهم في استمرارها بصحة جيدة ويخلق التوازن الإيكولوجي. وأضاف حذيفة في تصريحه لجريدة بيان اليوم، على ضوء مشاركته في تأليف الكتاب الجماعي باللغة الفرنسية بعنوان “المغرب.. العدالة المناخية، استعجالات مجتمعية”، أن هناك عمل يجب أن يقام به على المستوى الدولي لأجل دعم الأشخاص الذين يتأثرون بالتغيرات المناخية، معتبرا أنه على دول الشمال والغرب أن يتحملوا مسؤوليتهم. وأردف حذيفة: “لأننا نتحدث عن مشاكل مرتبطة بالمغرب، لكن كما تعلمون فالبصمة الإيكولوجية للمغرب أو دول الجنوب بصفة عامة تعتبر باهتة أمام الضرر الكبير الذي يلحق المناخ من قبل دول الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ويجب أن ندفع هذه الدول لأن تعترف بمسؤوليتها، وتساعد الدول مثل المغرب لتحمل المشكل الحاصل”. وتابع المتحدث نفسه أنه بالنسبة للمغرب من المهم أن من يشتغل على هذه المواضيع أن يتساءل كيف يمكن أن نضع وضعية “لاجئ مناخي”، مردفا: “كما قلت قبل قليل إذا ما أخذنا مشكل الرحل، هم أشخاص لم يكن لديهم اختيار واضطروا للاستقرار رغما عنهم، لأن التغير المناخي حرمهم من مصدر عيشهم الوحيد وهي القطعان، التي يعتنون به ويبيعونها، فهم بحاجة لتعويضات لأنهم لم يمتلكوا الخيار لأجل أن يستقروا، لكن استقروا في ظروف لا انسانية أبدا، لا يمتلكون منازل، ورأيتهم خلال سنة 2007 و2008 كانوا يضعون خيامهم ويحفرون أسفل الأرض غارا مكونا من غرف صغيرة، وهو أمر غير مقبول، ووضع اللاجئ المناخي يجب أن ينظر إليه، ومن الجيد جدا الحديث عنه لأنه غير مطروح نهائيا للنقاش رغم أنه يؤثر في حياة مئات الآلاف من المغاربة”. ودعا حذيفة المجتمع المدني المحلي الذي يعي بهذه القضية والفاعل السياسي أيضا إلى التفاعل مع هذه القضايا، مشددا على أن من يفقدون موارد حياتهم الكريمة ويضطرون إلى الهجرة يجب أن يمتلكوا وضعية لاجئ مناخي. وقال المتحدث عينه: “يجب تحديد المسؤوليات الداخلية والمسؤوليات العالمية، ثم الاشتغال على اللاجئ المناخي في المستقبل، ومن خلال ملفات كبرى، وليس فقط المناخ فقط، لأن التدهور المناخي سيمس العالم بأسره، ويجب أن نعمل عليه مع الفاعلين المحليين الذين لامسوا هذا التراجع على مدار السنوات ونوثق تجارب الذين هاجروا بفعل هذه الظروف تحديدا وليس بفعل ظروف أخرى”. في السياق ذاته، طالب المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في تقريره الأخير بخلق محاكم مائية تشرف على تطبيق قوانين الماء وتسهر على متابعة تنفيذ القضايا المتعلقة بالماء والموارد الطبيعية الأخرى، حاثا على التعامل مع الجفاف باعتباره معطى بنيويا وليس فقط ظرفيا (ارتفاع درجات الحرارة صيفا وغياب الأمطار في فصل الشتاء).

**********

التحدي الجماعي..

بعد هذه الرحلة الشاقة بحثا عن الحقيقة، بين المزارعين والفاعلين بالقطاع الفلاحي وسكان القرى، سواء منهم الذين لا زالوا متشبثين ببصيص من الأمل لعودة المياه إلى مجاريها الطبيعية وبزوغ فجر حياة جديد لقراهم، أو أولئك الذين انقطع بهم الأمل ورماهم القهر واليأس إلى خوض غمار الغربة والتغرب، وأيضا بين الخبراء والفاعلين في مجال البيئة والمناخ والهجرة والقانون الدولي، فلا شك أن مسؤولية القائمين على القطاعين الفلاحي والمائي ثابتة فيما آلت إليه الأوضاع، حيث إنه على مدى أزيد من عقد تم الاستمرار على نفس النهج الفلاحي المستنزف للثروات المائية، رغم تحذيرات المؤسسات الرسمية والمنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية، ولم يتم اتخاذ أي إجراءات عملية فعلية لإنقاذ الزراعة والمزارعين والحفاظ على السيرورة العادية للحياة القروية، إذ إن القائمين على رأس القطاع الفلاحي لما يزيد عن عقد من الزمن، لم يستوعبوا حتى الفترة الأخيرة الدرس الذي حاولوا التغاضي عن حقيقته طويلا، وكان من بين أسباب إزاحة من نطق حقا ووضع الأصبع على مكامن الخلل عن مناصب المسؤولية،  بدل المحاولات البائسة لإبعاد الكارثة -التي كانت محتملة جدا وهي اليوم قائمة- عن أبرز أسبابها الحقيقية. لذا إن حال الحكومة، شبيه بذلك التلميذ أو الطالب الذي لم يهتم بدروسه حين كان لزاما عليه، قبل أن يشعر بالندم وخيبة أمل لتهاونه، مقررا مراجعة ما فاته، ولو على سبيل التثقيف والتعلم، حيث لا هدف يرجى من دراسة متأخرة جدا غير ذلك (الرغبة في التثقيف والتعلم). لذلك لا يسعنا اليوم، إلا التصفيق بحرارة، على قرار الحكومة، الذي هم تقنين بعض الزراعات التي تستنزف الفرشة المائية، من قبيل البطيخ والأفوكادو، إلا أن هذا التنويه لا يعدو أن يكون مجرد ردة فعل مشابهة لذاك الذي حصد الشواهد كهلا. فعلا، لا تستحق الحكومة التي ظل رئيسها على رأس القطاع الفلاحي، منذ سنة 2007، إلا عبارات الإطراء على الأقل لاعترافها بحقيقة وواقع النهج الذي تسير عليه في تدبير المجال الفلاحي، من قبيل هذا القرار، الذي اتخذته نهاية فبراير 2022، وكان واجبا ولزاما اتخاذه إلى جانب تدابير أخرى قبل ذلك بسنوات طويلة قبل فوات الأوان، بدل إبعاد وإزاحة من يدعو له ويطالب به. لقد تم ضخ ملايير الدراهم للقطاع الفلاحي، على مدى سنوات طويلة، في إطار مخططات بألوان مختلفة، لم يفلح أي منها في جعل المملكة مستعدة لاجتياز أبسط امتحان وضعتها الطبيعة أمامه (موسم جفاف كالذي نعيشه). بعد أشهر فقط فصلت عن جني محصول زراعي خلال الموسم الماضي كان وافرا جدا، وفاق كل الانتظارات والحاجيات، دخلت البلاد في أزمة غلاء أسعار العلف بشكل أرهق الفلاحين الكبار قبل الصغار، مما دفع العديد منهم إلى بيع قطعانهم بأبخس الأثمان، ومنهم من تخلى عنها وسط الأسواق بدون مقابل، ثم الهجرة نحو المدينة أو خارج أرض الوطن، خاصة في ظل غياب سياسات تضمن لهم البديل، أو سياسات استشرافية لتدبير الأزمات، مما يطرح سؤال تدبير المحاصيل الزراعية الجيدة خلال مواسم الخصوبة، وأيضا نتائج مليارات الدراهم التي صرفت على القطاع، والتي كان من المفروض أن تظهر نتائجها خلال هذا الموسم الاستثنائي الجاف. إن استفاقة الحكومة المتأخرة والباهتة، واستيعابها خطورة بعض الزراعات على مستقبل الفلاحة بشكل عام والمياه الجوفية بشكل خاص، ينبغي أن يرافقه التفكير بجدية ومسؤولية، في كل مكامن الخلل التي طالما تغاضت عنها.  كما أضحى لزاما على الحكومة، ترشيد أنواع الزراعات وفق الحاجيات الأولوية للمملكة، ومدى ملاءمة الزراعات الجديدة للظروف المناخية والبيئية، وأيضا مدى استنزافها للمياه الجوفية -تشجيع الزراعات غير المستهلكة للمياه-، حتى لا نفقد ثروة بلادنا من المياه الجوفية، ثم العمل على ضمان استقرار الفلاح بالقرية من خلال توفير الظروف الملائمة له لاستمرار أنشطته، وهذا هو أحد رهانات هذا العمل الصحفي الذي كشف عن ما يلي: -تراجع حقينة السدود وجفاف شبه كلي للأنهار والآبار وقطع تام للمياه عن السواقي الفلاحية. -محاولات لحفر آبار بحثا عن المياه تجاوزت عمق 300 متر دون جدوى.  -اتخاذ تدابير حكومية لضمان الأمن المائي لسكان الحواضر على حساب المزارعين والزراعة. -اعتماد زراعات مستنزفة للثروة المائية واعتماد كبار الفلاحين على مياه الفرشة المائية العميقة إضافة إلى الاستغلال المفرط للمياه من طرف شركات صناعية. -عدم إشراك المعنيين المباشرين في سن السياسات العمومية الخاصة بالقطاع الفلاحي والمجال القروي. -انهيار الزراعة (اصفرار النباتات الحولية وخرف أشجار الزيتون) وتراجع أنشطة تربية المواشي والأبقار. -تعاونيات لتجميع الحليب واستخراج زيت الزيتون مغلقة بشكل نهائي. -غياب أي أنشطة بديلة عملية لسكان القرية خاصة منهم الفلاحين والمزارعين الصغار في ظل تواجدهم على مشارف موت القطاع الفلاحي.  –كثرة المتدخلين وغياب الرقابة على الاستغلال والتقييم المستمر للوقوف على نجاعة بعض الاختيارات، وضعف الحكامة من بين الأمور التي أوصلت المغرب إلى وضع الإجهاد المائي الحالي. -سياسات عمومية عمودية تفتقد للالتقائية ولا تحفز استدامة التنمية مما يضعف من فعاليتها. -غياب الفلاح الصغير عن برامج الإنقاذ بقلتها وعدم نجاعتها الكافية مقارنة مع الوضع القائم. -تفكير جماعي للهجرة نحو المدينة وخارج أرض الوطن وتعويل على الجالية المغربية لتأمين الغذاء وحاجيات الحياة اليومية. -الهجرة بأشكال متعددة أقل ما توصف به كونها مرعبة للوصول إلى ما يعتبرونه “فردوس موعودة”. -معاناة حقيقية لمهاجرين غير نظاميين ببلدان المهجر. -عدم معرفة كل المهاجرين غير النظاميين بما يسمى “اللجوء المناخي” -لجوء بعض المهاجريين غير النظاميين الذين هاجروا بسبب المناخ لمسطرة اللجوء الإنساني كسبيل لضمان وقت كافي للبحث عن الاستقرار. -تأثر صورة المغرب جراء ارتفاع نسبة المهاجرين غير النظاميين وطلبات اللجوء الإنساني منه وما للأمر من انعكاس على موقع البلد داخل خارطة العالم اقتصاديا واجتماعيا. -عدم الاعتراف الدولي باللجوء المناخي أو الهجرة بسبب المناخ كسبب لطلب اللجوء. ختاما، نستحضر ما قاله الحكيم الهندي ذات مرة لأحد تلاميذه عندما سأله عن كيف أقدم خدمة لوطني ؟ أجابه قائلا : قل له الحقيقة؛ لذا نهمس لحكومتنا أنه عليها أن تعي الدرس، وتشرك جميع الفاعلين المعنيين في تدبير القطاع إشراكا فعليا، بدل إنزال سياسات مركزية بعيدا عن انتظارات الواقع، إضافة إلى الرجوع لتوصيات الخبراء والباحثين في القطاع ثم التقارير الدولية والوطنية؛ ثم أخيرا الترافع على المستوى الدولي، للعمل من أجل الاعتراف باللجوء المناخي والهجرة بسبب الجفاف والتغير المناخي.

Related posts

Top