شهادة د. عبد الرحيم العلام في لقاء تأبيني لفقيد الثقافة المغربية الأستاذ بشير القمري بكلية الآداب بالرباط:الراحل بشير القمري: قمر زمانه

نظمت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (شعبة اللغة العربية وآدابها والقطب الثقافي ونادي القراءة والكتابة) بشراكة مع اتحاد كتاب المغرب، يوم الإثنين 5 يوليوز الجاري، بمدرج ابن خلدون بالكلية نفسها، لقاء تأبينيا للراحل الأستاذ بشير القمري، بمشاركة عدد من الفعاليات الثقافية والفكرية والأكاديمية.. وفيما يلي الشهادة التي قدمها الأستاذ عبد الرحيم العلام، رئيس اتحاد كتاب المغرب، في حق الفقيد:

كم هو صعب علينا جميعا أن نصدق أن الفقيد العزيز الأديب والباحث والمترجم، الأستاذ بشير القمري، قد غادرنا إلى دار الحق فتركنا نحن في دار الباطل، فأحرى بنا أن نمتلك القدرة على استرجاع جوانب من مساره الحياتي والإنساني والثقافي والأكاديمي والنقدي والإبداعي والجمعوي، الطافح بالعطاء والتراكم والحضور والجدال والنقاش.
تتزاحم أمامي صور الفقيد الراحل وتتعدد، بشكل يصعب معه لملمتها جميعها في مقام كهذا، فالفقيد عاش حياة مفعمة بالخصال الحميدة، بما عرف به الرجل، طوال حياته، من طيبوبة وكرم ونبل أخلاق وثبات مواقف ومبادئ، وبما تميز به من جاهزية وجرأة وموسوعية وتمكن وسيولة قلم، ومن حسن مظهر ورشاقة ذهن…
كتب لي أن أجالس الصديق العزيز بشير القمري في مناسبات كثيرة، وأن أرافقه في مناسبات مختلفة، داخل الوطن وخارجه وبخاصة في القاهرة، حيث كان اسم القمري، وكذا صوته وكتاباته، قد سبقه إلى أرض الكنانة، ليتعمق ذلك أكثر، حين أنجز الأستاذ القمري أطروحته المتميزة؛ والتي تم التنويه بها في القاهرة، ومن لدن الروائي الراحل جمال الغيطاني نفسه؛ إذ لم تحظ روايات الغيطاني، بمثل ما حظيت به من بحث وتحليل وكفاية، كما في أطروحة الأستاذ القمري “شعرية النص الروائي”، بما وظفه فيها من مناهج ومرجعيات نظرية جديدة وغير مسبوقة، ولما بذله فيها من جهد وخبرة وعمق، ليكون القمري بذلك أحد النقاد والباحثين المغاربة القلائل السباقين إلى إشاعة النقد الأدبي المغربي الحديث خارج البلد.
لقد مكنتني مرافقتي للعزيز بشير القمري في محطاتها العديدة، من الاقتراب أكثر من أفقه الإنساني والثقافي والأكاديمي والإبداعي الرحب، بمثل ما جعلتني أنخرط في صلب فضاء تفكيره وهواجسه وأسئلته وانشغالاته، بما فيها انشغالاته الإبداعية، فقد حصل أن استضافتني روايته “سر البهلوان”، الصادرة سنة 1997، باسمي العائلي، إلى جانب أسماء أخرى: برادة واليبوري ومفتاح وكيليطو وشغموم والخوري، وغيرهم، في سياق حديث الرواية عن صعوبة القبض على تلابيب الحكاية، كما في قول السارد: “ويعرف ذلك أيضا السي البحراوي والعلام الذين أوقفوا حياتهم على النبش في تلابيب الحكاية أينما كانت” (ص59-60).
تعمقت علاقتي أكثر بالقمري لحظة تحملنا المسؤولية معا في المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب أواخر تسعينيات القرن الماضي، أيام رئاسة الشاعر عبد الرفيع جواهري للاتحاد. ولم يحصل قط أن توقفت تلك العلاقة إلى أن ودعته. وشكل انتشار جائحة كورونا، مناسبة إنسانية لمواصلة التواصل هاتفيا مع بعض كتابنا للسؤال عن أحوالهم، كان من بينهم طبعا السي القمري، وقد عمقت لديه الجائحة مرارة الشعور بمزيد من الغربة داخل البيت والوطن.
قضينا فترة في المكتب المركزي، فكنا نقبض على الطريق معا لتجديد فروع الاتحاد أو للمشاركة في لقاءات خارج الرباط، فكان السفر مع البشير قطعة من الإمتاع والمؤانسة، بل درسا مفتوحا على البوح والفائدة. فضلا عن ذلك، يشهد للقمري بنشاطه وجهوده اللاتحصى في اتحاد كتاب المغرب، حتى وهو خارج مكتبه التنفيذي، فكان كثيرا ما يعفينا من صياغة أوراق اللقاءات وأرضيات الأنشطة وإعداد المراسلات وغيرها، دون كلل أو ملل، وبتواضع جم قل نظيره عند غيره.
ظل القمري وفيا لهذه المنظمة العتيدة، إلى أن غادرنا مأسوفا على رحيله. وأشهد لفقيدنا بتفانيه في خدمة الاتحاد، بكل ما أوتي من رحابة صدر وحنكة وخبرة ووفاء، فكثيرا ما لعب دور المسعف والمنقذ لنا. يكفي فقط أن تتصل بالبشير، وتطلب منه إنجاز ما تشاء، وفي المساء، يأتيك محملا بالأوراق المطلوبة، مكتوبة بخط يده الجميل، تاركا إياها لدى سكرتارية الاتحاد؛ هو الذي لم يغره الحاسوب يوما. كانت أوراقه المخطوطة بمثابة لوحات حروفية جميلة، فالقمري، كعادته، يكتب “ديريكت” بتعبير عزيزنا إدريس الخوري، فتأتي أوراقه خالية من أي تشطيب أو تبييض، وتلك إحدى قدرات بشير المشهود له بها، والتي هي نتيجة امتلائه المعرفي ونباهته وسعة مداركه.
هكذا، فضل الراحل القمري أن يخدم الثقافة المغربية، في بعض جوانبها، مؤجلا مشاريعه الخاصة إلى حين؛ إذ لم يتسن له إتمام أطروحته لنيل الدكتوراه، علما منا بأنه كان قادرا على إنجاز أطاريح عديدة، وفي جلسات متواصلة، لكن بشير آثر ربما أن يسلك وجهة أخرى، بعد أن يئس من كل هذا وقد خانته الصحة وتشتت الذهن. وحبذا، لو بادرت إدارة الكلية، وفي خطوة رمزية واعتبارية، إلى منح الراحل القمري شهادة دكتوراه فخرية، لا أثر مادي ولا إداري لها، تكون بمثابة عربون وفاء من الجامعة المغربية لهذا الأستاذ والباحث الأكاديمي الفذ، كما اعتادت الجامعة ذلك مع شخصيات أخرى، وذلك مقابل ما أسداه الراحل للوطن وللجامعة وللثقافة المغربية من خدمات وجهود وتضحيات.
وإذا كانت وسامة القمري ورشاقته وخفة دمه، لم تغادره، رغم غدر الزمان، فقد أضحى، في الآونة الأخيرة، يستعين بعصاه التي لم يكن يهش بها على غنم لا يملكها؛ فقد عاش عفيفا كريما ومات كذلك، بل كان يقاوم بها تسلط شبح “الشيخوخة الظالمة”.
يعرف كاتبنا الراحل بين أقرانه وطلبته وجلسائه بكونه قارئا كبيرا، إذ لم يكن الكتاب يفارقه في أي مكان، ويذكرنا في ذلك بالكاتب الراحل محمد شكري، الذي كون عنه البعض صورة معاكسة لواقع الحال، في حين كان شكري من بين أكبر القراء في زمننا المغربي، كما يكشف عن ذلك كتاب له لم يلتفت إليه كثيرا، بعنوان “غواية الشحرور الأبيض”. وكذلك كان الأستاذ القمري، قارئا نهما، يلتهم الكتب وبلغاتها الثلاث التي يحسنها.
لا يفتأ بشير القمري يحدثك في لقائك به أو في تواصلك معه، عن آخر مقتنياته ومقروءاته من الكتب، من مغارب الأرض ومشارقها، كانت تلك وجباته اليومية اللذيذة التي يفضلها، في مبادرة فريدة ومتواصلة منه لاقتناء جديد الإصدارات، خلافا لآخرين كثر من صيادي الإهداءات المجانية، وهم عن قراءتها غافلون.
وفي مستوى آخر، يعتقد كثيرون أن المرحوم بشير القمري، هو شخص مزاجي وصدامي، فجرأته وصراحته في إبداء الرأي كانت تزعج البعض وتقلقهم، غير أن من يعرف القمري عن قرب، سيدرك مدى عمقه الإنساني والأخلاقي والعاطفي، مثلما هو عمقه الثقافي. وتشهد اللقاءات التأبينية التي عرفها مدرج الشريف الإدريسي، على الأقل، على مدى ما أساله القمري من دموع الألم والحسرة، في لحظات مؤثرة، لم يتمكن فيها بشير من كبح جماح نفسه، كما كان الأمر في لقاءات تأبين الراحلين أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني وأمجد الطرابلسي وغيرهم؛ إذ كنت شاهدا على بعضها مشاركا في أخرى.
كان من الصعوبة على القمري أن يفرمل مشاعره في مثل تلك المواقف المؤثرة وفي غيرها، هكذا كان وهكذا ظل، إلى أن توفاه الأجل، رجلا طافحا بالمشاعر الجياشة، وحتى قبل موته، فضل الارتكان إلى صمت غريب، مستلقيا على سرير الغدر، مغمضا عينيه باستمرار حتى لا يرانا؛ وقد تركناه وحيدا عرضة لجلطات الوقت الحقيرة، لتفترسه وتشل حركته وتفتت خلايا دماغه، فلم يقدر المحارب على مواصلة الصمود، فاستسلم وانهارت قواه، ليختار الخلود إلى صمت رهيب. ناديته باسمه في آخر زيارتي له بالمستشفى وكرر ابنه النداء، ولم يرد، وضعت قبلة على جيبه، ورجوته ألا يستسلم لشبح الموت، ولم أكن أدري لحظتها أنها قبلة الوداع الأخير، فبعدها مباشرة، قرر بشير أن يوقف دوران طواحين الوقت ليغادرنا في صمت رهيب وفي غفلة منا جميعا، تاركا لنا فرصة الإشفاق على أحوالنا…

Related posts

Top