“صلاة جنائزية للسيدة ج” فيلم كوميدي قاس وأسود لكنه يفتح بابا للأمل

دون موسيقى ومع قليل من الكلام، استطاع فيلم “صلاة جنائزية للسيدة ج” “Requiem pour Madame J” للمخرج الصربي بوجان فولوتيك، بقسوته السوداء أن يستفز ويثير المشاعر المتوعة من خلال الصورة التي تتحدث طويلا عن معاناة الإنسان في مجتمع يتحول ويفقد قيمه لصالح قيم جديدة، ويصبح الانسان فيه مجرد رقم فارغ من أي مضمون.
الفيلم عرض يوم الثلاثاء الماضي ضمن المسابقة الرسمية للأشرطة الروائية الطويلة، لمهرجان تطوان لسينما البحر الابيض المتوسط، في حضور مخرجه الذي أشار في تقديمه، أن فيلمه يرصد مشاكل مجتمعات تعيش عنف التحول، وينتمي للكوميديا السوداء، هذا الشريط الذي يعتبر الثاني لهذا المخرج استفاد من ثراء السينما اليوغوسلافسة، ومن مرتكزات الموجة السينمائية الجديدة في صربيا، ليمنح للجمهور فيلما قويا يمتزج فيه الذاتي بالموضوعي الساخر بالمأسوي في تركيبة عجيبة.
تم تقديم هذا الفيلم في فقرة “بانوراما خاصة” بمهرجان برلين السينمائي، وتم ترشيحه لجائزة الأوسكار، وقد انفرد مهرجان تطوان بعرضه لأول مرة افريقيا وعربيا.
وتحكي أحداثه قصة السيدة ج، وهي امرأة ناضجة في العقد الرابع، تعيش أزمة نفسية وحالة من السوداوية، بعد أن فقدت زوجها الذي كان يشتغل عسكريا برتبة عالية، ينطلق الشريط بصورة البيت الذي تعمه الفوضى، في تشابه مع الحالة النفسية للسيدة ج، ومع الحالة الاجتماعية المضطربة التي صار يعيشها المجتمع الصربي بعد تفكك الكتلة الشرقية وعقب الحروب التي فككت يوغوسلافيا وانعكاساتها .
تعيش السيد ج بالبيت المضطرب كأنها مفترق طرق بين حماتها العجوز ( الجيل القديم ) وبين ابنتيها الصغرى تلميذة في الابتدائي والكبرى التي صارت تتحمل نفقات البيت (الجيل الجديد)، الذي يواجه حاضرا مضطربا ومستقبلا مبهما، وتظهر السيدة في أول لقطة وهي تركب أجزاء مسدس زوجها المتوفي، إنها تستعد للإنتحار بعد أربعة أيام، مع الذكرى السنوية الأولى للزوج المتوفي، وهي المدة الزمنية التي تجري خلالها أحداث الشريط، فتزور صانع شواهد القبور الذي يعاني بدوره من العطالة، وتطلب منه إضافة اسمها وصورتها الى جانب صورة زوجها على شاهد القبر، هذا الأخير الذي يقبل دون مساءلة، ثم تلجأ الى أحد معارفها، للبحث عن رصاصة ملائمة للمسدس الفارغ، هذا الأخير سينصحها بشرب بعض العقاقير السمية مع كأس من الخمر مؤكدا لها بأنها طريقة ملائمة للانتحار، سريعة ودون ألم، هذان الموقفان كوميديان في غاية السواد، يبرزان تجرد المجتمع من أي مشاعر إنسانية، حيث يصير الانتحار حلا بديهيا للخلاص. لم يستقبلها الطبيب لكي يعطيها العقاقير، لأن تأمينها الصحي قد انتهت صلاحيته، وعليها تجديده في مؤسسة الضمان الاجتماعي، وفي هذا الأخير تكتشف أن المؤسسة التي كانت تشتغل بها لم تبلغ عن وجودها منذ 20 سنة، فتقصد المؤسسة التي لم يتبقى بها سوى آلات متلاشية يأكلها الصدأ، وكأن إعصارا قويا قد دمرها بكل ما فيها، يتسرب اليأس الى قلب السيدة ج، الحياة صعبة وحتى الموت كذلك، وحين توجهت للكنيسة وجدت الحل وتمكنت من الحصول على الخلاص فقد أعطاها بائع الأسلحة رصاصة الرحمة، شفقة عليها، من مجتمع يعاني الإفلاس على كل المستويات، لكن في الأخير يسمع دوي الطلق الناري فيعتقد المشاهد أنها انتحرت، لكنها تقرر بشجاعة كبيرة العدول عن الفكرة والعودة الى ذاتها وإلى عائلتها الصغيرة وأن تغادر حالتها النفسية السيئة وترفع صوتها الجميل بأغنية، في تحد كبير لكل المعاناة وإصرار على المواجهة وإيمان كبير بالايمان في مستقبل أفضل.
في هذا الفيلم يمضي المخرج بوجان فولوتيك، في خط “تراجيكوميك” ليصنع من قصة الفيلم التي تعبر عن البؤس، 104 دقيقة من السينما الجميلة، تاركا المجال رحبا للمشاهد المتوالية كي تتحدث الصورة بديكوراتها وشخوصها بما لا يمكن للحوار المنطوق التعبير عنه بصدق.
فيلم “صلاة جنائزية للسيدة ج” عمل سينمائي باهر، جمع بين الشاعرية والمأساة والسخرية، مضحك ومبكي ومحفز على التأمل والسؤال، فيلم قوي يرسم سواد الحاضر لكنه يبقي على أبواب الأمل مشرعة.
هذا وعلاقة بمتعة الفرجة السينمائية تعرض ضمن فعاليات مهرجان تطوان الدولي لسينما البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب الأفلام المتبارية للحصول على جوائز المهرجان، نخبة منتقاة من أجود الانتاجات السينمائية، وأفلام مكرمة كفيلم “على كف عفريت” لمخرجته كوثر بن هنية، و”دروزنيكا” لجان سيتكوفيتش، والفيلم الإيطالي “فورتوناتا” للمخرج سرجيو كاستييطو، والفيلم المغربي “بورن آوت” لنور الدين لخماري، و”جريمة الملائكة” لبانيا مدجار.

> تطوان: سعيد الحبشي

Related posts

Top