لجأت طبيبة بالمغرب إلى تقديم شكاية زجريّة بالتمييز بسبب الجنس ضد رئيسها المباشر، لكونه يمنعها من مزاوله عملها وإجراء عمليات جراحية لكونها امرأة، مما يسهم في إحباطها وشعورها بالإقصاء والتهميش. وقائع القضية -غير المسبوقة- التي تنشر المفكرة القانونية أطوار المحاكمة فيها خلال المرحلة الابتدائية ومرحلة الاستئناف، تعيد إلى الواجهة إشكالية غياب تعريف واضح لجرم التمييز بسبب الجنس مما يدفع عددا من المحاكم إلى البحث عن مواد جرمية لمعاقبة الفعل ويسهم أحيانا في افلات الجناة من العقاب.
ملخص القضية
تتعلق وقائع القضية بمشتكية تقدمت بشكايات متعددة للجهات الإدارية ولمؤسسات ولمنظمات غير حكومية تعرض فيها بأنها تتعرض إلى التمييز بسبب الجنس، من طرف رئيسها في العمل.
وأوضحت في إحدى شكاياتها الموجهة إلى النيابة العامة بأنها تشتغل كطبيبة جراحة القلب في مركز استشفائي كبير في العاصمة الرباط يرأسه المشتكى به، وأنه منذ تعيينها في المصلحة المذكورة سنة 2016 تعاني من الإقصاء الممنهج من طرفه لكونها امرأة، بحيث لا يسمح لها بأن تجري أي عملية جراحية بالرغم من تكوينها وكفاءتها وأقدميّتها. وأضافت أنها بتاريخ 28-01-2020 حلّت بشكل طارئ محلّ زميل لها للقيام بعملية جراحية، وتفاجأت بالمشتكى به الذي حلّ في عين المكان على وجه السرعة، يعمد إلى سبّها وشتمها أمام مختلف الحاضرين ووصفها بالغبية، وقام بإخراجها عنوة من غرفة العمليات، لتصاب بصدمة نفسية أثّرت على نبضات قلبها، ونقلت إلى المستعجلات بنفس المستشفى وسلمت لها شهادة طبية مدتها 15 يوما.
فتحت النيابة العامة بحثا في مضمون الشكاية واستمعت لعدد من الشّهود الذين أدلتْ المشتكية بأسمائهم ممن كانوا حاضرين وقت وقوع الاعتداء، حيث صرحت شاهدتان بأنهما مريضتان في المستشفى ورفض المشتكى به إجراء فحص لهما لكون المشتكية هي من تشرف عليهما، كما تعرضتا لعراقيل إدارية، وصرح باقي الشهود بأنهم كانوا حاضرين في المستشفى لحظة دخول المشتكى به في نقاش مع المشتكية لكنهم لم يتمكنوا من سماع أيّ عبارات شتم أو سبّ.
وبعد اقفال المحضر، همس أحد الأطباء المتمرّنين لضابط الشرطة بكون وضعيتهم كأطباء متمرنين خاضعين لتقييم المشتكى به، تجعلهم غير قادرين على الإدلاء بشهادتهم قبل اجتياز امتحان التخرج من الطب، مؤكدا له بأنه سمع المشتكى به وهو يعرض المشتكية الى السب والشتم.
اتصل ضابط الشرطة بالنيابة العامة المختصة وأخبرها بما صرح به أحد الشهود، فطلبت النيابة العامة تضمين هذا التصريح في محضر الشرطة، من دون إعادة الاستماع إلى الشاهد ومن دون الإشارة إلى اسمه.
وعند الاستماع إلى المشتكى به، صرح أن المشتكية تعمل طبيبة بالمصلحة التي يرأسها، وأن تقييمه المهني لا يسمح له بأن يسلمها عملية جراحية على مريض من البداية إلى النهاية، وأنه بتاريخ 28-01-2020 اتصل به الطبيب الجرّاح الرئيس يهاتفه ويخبره أن المشتكية أخذت مكانه في العملية، ليقوم على إثر ذلك بالتوجه إلى غرفة العمليات لتسوية الوضع وأمر المشتكية بالخروج من غرفة العمليات غير أنها رفضت، مضيفا أنه لم يقمْ بسبّها أو شتمها ، وأن هذه الأخيرة استمرت في عملها بعد ذلك بصفة عادية.
قررت النيابة العامة تبعا لذلك متابعة المتهم من أجل السب غير العلني وإهانة موظف عمومي والعنف، طبقا للمادة 16 من قانون قضاء القرب والفصول 263-400-366 من القانون الجنائي.
موقف المحكمة من تكييف جريمة التمييز: سبّ علني أم إهانة موظف؟
خلال المرحلة الابتدائية، ثبت للمحكمة من خلال الاستماع إلى شهادة الشهود، أن المشتكى به اقتحم غرفة العمليات ووجه عبارات السب للمشتكية حينما كانت تمارس عملها، حيث وصفها بالغبية. واعتمدت المحكمة على مقتضيات الفصل 118 من القانون الجنائي الذي ينصّ على أن “الفعل الواحد الذي يقبل أوصافا متعددة يجب أن يوصف بأشدها” وقررت تكييف عبارة “الغبية” التي وجهها المتهم إلى المشتكية بجنحة إهانة موظف عمومي أثناء قيامه بوظيفته بأقوال بقصد المساس بشرفه أو بشعوره طبقا للفصل 263 وليس كمخالفة السب غير العلني طبقا للمادة 16 من قانون قضاء القرب. وعليه حكمت عليه بغرامة نافذة قدرها ثلاثة آلاف (3000) درهم، مع تحميله الصائر والإكراه في الأدنى، وبأدائه لفائدة المشتكية تـعـويـضـا قـدره سبعة آلاف (7000) درهم.
بعد الطعن بالاستئناف في الحكم من طرف المتهم، اعتبرت محكمة الاستئناف أن المحكمة الابتدائية لم تصادف الصواب في تكييف الجريمة كجنحة إهانة موظف عمومي أثناء قيامه بوظيفته، للاعتبارات التالية:
أن مقتضيات الفصل 263 من القانون الجنائي المتعلقة بإهانة موظف عمومي المدان من أجلها المتهم مقررة لحماية شرف وشعور الموظفين والاحترام الواجب لسلطتهم من الإهانة الصادرة عن المرتفقين الأغيار- غير الموظفين- ضمانا لحسن ظروف عملهم، ولذلك اشترط المشرع حصولها أثناء قيامهم بوظائفهم أو بسبب قيامهم بها. كما وردت هذه الجنحة في الباب المتعلق بالجنايات والجنح التي يرتكبها الأفراد ضد النظام العام المؤتمن على ضبطه موظفو الدولة جميعا في ظل الحماية المقررة لهم.
أن ما صدر عن المتهم وهو موظف عمومي في حق المشتكية وهي موظفة عمومية من عبارات ولئن كانت تشكل سبا غير علني، وهو ما أكده الحكم الابتدائي المطعون فيه مع ركونه الى الفعل الأشد، فإنها لا تقوم معه العناصر التكوينية لجنحة إهانة موظف عمومي طالما أن المعنيين بالأمر هما معا موظفان عموميان.
أن عدم استئناف النيابة العامة يغل يد المحكمة عن زجر المتهم من أجل جريمة السب غير العلني.
وعليه قضت محكمة الاستئناف بإلغاء الحكم الابتدائي والتصريح من جديد ببراءة المتهم من أجل جنحة إهانة موظف عمومي، وتأييد الحكم الابتدائي مبدئيا فيما قضى به مع الرفع من التعويض المحكوم به لفائدة المشتكية إلى 10.000 درهم.
تعليق على القضية من أجل تدقيق جريمة التمييز بسبب الجنس
يعتبر هذا الحكم من بين التطبيقات النادرة للشكايات المتعلقة بالتمييز المقدمة أمام القضاء، فبموجب التعديلات التشريعية التي طالت القانون الجنائي جرم المشرع المغربي التمييز حيث عرّفه في الفصل 1-431 من القانون الجنائي بأنه: “كل تفرقة بين الأشخاص الطبيعيين بسبب الأصل الوطني أو الأصل الاجتماعي أو اللون أو الجنس أو الوضعية العائلية أو الحالة الصحية أو الإعاقة أو الرأي السياسي أو الانتماء النقابي أو بسبب الانتماء أو عدم الانتماء الحقيقيّ أو المفترض لعرق أو لأمة أو لسلالة أو لدين معين”، واعتبر أن جريمة التمييز تتحقق أيضا في كل “تفرقة بين الأشخاص المعنوية بسبب أصل أعضائها أو بعض أعضائها أو جنسهم أو وضعيتهم العائلية أو حالتهم الصحية أو إعاقتهم أو آرائهم السياسية أو أنشطتهم النقابية أو بسبب انتمائهم أو عدم انتمائهم الحقيقي أو المفترض لعرق أو لأمة أو لسلالة أو لدين معين”.
وعاقب على التمييز بالحبس من شهر إلى سنتين وبالغرامة من ألف ومائتين إلى خمسين ألف درهم وذلك في حالة:
– الامتناع عن تقديم منفعة أو عن أداء خدمة؛
– عرقلة الممارسة العادية لأي نشاط اقتصادي؛
– رفض تشغيل شخص أو معاقبته أو فصله من العمل؛
– ربط تقديم منفعة أو أداء خدمة أو عرض عمل بشرط مبني على أحد العناصر الواردة في الفصل 1-431 أعلاه.
ورغم أهمية هذا التعريف، يلحظ أن المشرّع المغربي لم يُعرّف التمييز بسبب الجنس بنصّ خاص. وقد خلص تقرير حديث للمجلس الوطني لحقوق الإنسان حول التبليغ عن العنف ومناهضة الافلات من العقاب، الى أن غياب وجود تعريف واضح لعدد من الأفعال في القانون الجنائي ومن بينها “التمييز بسبب الجنس” يؤدي لاختلاف المحاكم في تكييف بعض الأفعال، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى إفلات المتهم من العقاب.
يلاحظ أن النيابة العامة تفادت تكييف الشكاية بوصفها جنحة تمييز بسبب الجنس، أو عنف نفسي طبقا لقانون محاربة العنف ضد النساء، مستبعدة بذلك تطبيق عدد من التعديلات الجديدة، واعتمدت على الجرائم التقليدية الواردة في القانون الجنائي، حيث كيّفت وقائع الأفعال موضوع الشكاية على أساس كونها تشكل جريمة سب غير علني وإهانة موظف عمومي.
يلاحظ اختلاف المحكمة الابتدائية ومحكمة الاستئناف في تكييف الأفعال موضوع الشكاية، حيث اعتبرتها المحكمة الابتدائية جنحة إهانة موظف عمومي أثناء قيامه بمهامه، بينما خلصت محكمة الاستئناف إلى كونها تعتبر مخالفة سب غير علني.
أدى اختلاف التكييف بين محكمة الدرجة الأولى ومحكمة الدرجة الثانية، وعدم ممارسة النيابة العامة للطعن في الملف في الشق المتعلق بالبراءة من مخالفة السب غير العلني إلى تصريح محكمة الاستئناف ببراءة المتهم من المنسوب إليه، بعد إعادة تكييف الفعل، بعلة أن عدم استئناف النيابة العامة يغلّ يد محكمة الاستئناف في التصريح بالإدانة في الشق الذي لم يكن محل استئناف.
يعتبر هذا الحكم الذي تنشره المفكرة القانونية مثالا حيا لكيفية تأثير غياب تعاريف واضحة في القانون الجنائي لعدد من الأفعال، مما يؤدي بعدد من الأشخاص المشتبه في ارتكابهم لجرائم عنف ضد النساء الى الإفلات من العقاب.
وتجدر الإشارة الى أن عددا من الجمعيات النسائية بالمفرب
تطالب بتجريم التمييز بسبب الجنس في مشروع تعديل القانون الجنائي.