عبد الحق المريني.. أصالة رجل وموسوعية عالم

أشعر هذا المساء بسعادة عارمة، وأنا أشارك في هذا اللقاء الاحتفائي البهيج، بمدينة طنجة الساحرة، بأحد رموز وطننا الأبرار، الأستاذ الدكتور عبد الحق المريني، تكريما له على كل ما قدمه لهذا الوطن، إنسانيا وثقافيا ومؤسساتيا. وهي احتفالية جعلتني أتذكر بكثير من النوستالجيا المشتهاة والامتنان، ذلك الحضور الاعتباري الوازن لفضيلة الأستاذ عبد الحق المريني، بكامل ثقله الرمزي والثقافي، في حفل افتتاح فعاليات “المناظرة الوطنية حول الثقافة المغربية”، التي كنا قد نظمناها في اتحاد كتاب المغرب، سنة 2015، بهذه المدينة الفاضلة نفسها. ولا غرابة في ذلك، فالأستاذ عبد الحق المريني، عرف دائما، في الأوساط الثقافية وخارجها، بأفقه الاعتباري والرمزي، المضيء والمؤثر والرحب، ما يجعل منه شخصية وطنية فذة، يحق لوطننا أن يفتخر بها، وبحضورها الفكري والرسمي.

وفي هذا السياق، يشهد للأستاذ عبد الحق المريني، بكونه ما فتئ يغمرنا بعطفه وكرمه وعلمه، أطال الله في عمره، بمثل ما يغمرنا بحضوره الإنساني الوارف وبعطاءاته ومواقفه وشموخه، فقط لأنسي عبد الحق المريني، هو ملك لنا جميعا، بما يشهد له به من تجسيد نادر لقيم المثقف المتنور ورجل الدولة الكبير، ومن خصال حميدة، وإخلاص لدينه ولأمته، قوام ذلك تواضعه واستقامته ونزاهته واهتماماته المعرفية المفتوحة. فإذا كان الدستور المغربي يضمن عن حق وإنصاف المساواة بين سائر المواطنين في الحقوق والواجبات، فإن قوانين الحياة ونواميس الطبيعة البشرية، تميز بعضهم عن البعض وترتبهم في درجات، لا بصورة اعتباطية، ولكن باعتبار عطاء كل واحد منهم وخدماته التي قدمها ويقدمها للوطن وللمجتمع، وتقديرالشخصيته وعطائه.

من هنا، تبدو صعوبة أن نتحدث عن شخصية وطنية وازنة، من طينة الأستاذ عبد الحق المريني، لاعتبارات كثيرة ومتضافرة فيما بينها؛ إذ سرعان ما سنجد أنفسنا أمام شخصية موسوعية وممتلئة، إنسانيا ورمزيا ومعرفيا، حيث يعتبر الأستاذ عبد الحق المريني، في هذا الإطار، أحد أهم من كتبوا سيرة الوفاء والولاء والإخلاص للوطن، هو الذي لم تثنه انشغالاته الإدارية والرسمية المتعاقبة، عن الكتابة والبحث والتأليف والمشاركة في المحافل الفكرية والثقافية والأدبية، بحضوره المضيء، وبإسهاماته المختلفة والمؤثرة.

لن ينسى الوطن مجموع تضحيات الرجل، وهو يواصل أداء رسالة الوفاء على أتم وجه وأصدقه وأنقاه، لما فيه خير الوطن والفكر والثقافة والأدب ببلادنا، بما راكمه من إنجازات فكرية وثقافية وتربوية ومهنية، فقد كتب الأستاذ عبد الحق المريني عن التاريخ، والمجتمع المغربي، وعن الجيش المغربي في  تطوره، من الفتح الإسلامي إلى حرب الصحراء، كما كتب عن تاريخ المغرب الحديث، والحركة الدستورية، والمرأة المغربية ومساهماتها ونشاطاتها منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، بمثل ما كتب عن شعر الجهاد في الأدب المغربي، مخلدا ملاحم الجيوش المغربية وبطولاتها، كما أعد وأنجز سلسلة من الكتب والأعمال عن الملوك العلويين، عن محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، فجمع خطبهم، وكتب عن رحلاتهم وزياراتهم، وكتب عن الشاي في الأدب المغربي، في اعتزازه اللافت بالخصوصيات المغربية، وفي انتصاره المتواصل للإرث الثقافي المغربي.

 فضلا عن تآليف الدكتور عبد الحق المريني الأخرى، عن قضايا ووجوه وطنية، ومساهماته وبحوثه ومحاضراته وشهاداته وحواراته ومقالاته، وكلها تدور حول مواضيع وقضايا متنوعة وجذابة، أدبية ونقدية وفكرية وثقافية وإعلامية وحضارية واجتماعية وتاريخية ودبلوماسية ودينية ولغوية، وأخرى عن الحماية والهوية والمخزن والمدن والموسيقى والعلوم والنهضة النسوية وتحديد النسل والبروتوكول والعادات والنبوغ المغربي، في مجالاته وميادينه المختلفة، وعن أعلامه ورموزه وسلاطينه وملوكه ونسائه ورجالاته، مجسدا، عبر هذا كله، حضورا موسوعيا كبيرا ومضيئا، يعكس في العمق أصالة الرجل، وانفتاح فكره، وسداد تأملاته وتحاليله، وجهاده في سبيل ترسيخ هوية المغرب الثقافية والاجتماعية.

وهنا، يبرز الدكتور عبد الحق المريني، باعتباره أحد الباحثين المغاربة، الذين تميزوا بعطائهم المعرفي، في تنوعه، وذلك عبر مزجه بين البحث التاريخي والأدبي، شأنه في ذلك، شأن كتاب مغاربة قلائل، من قبيل الدكتور عبد الله العروي والدكتور أحمد التوفيق، في مزجهما الفريد معا بين الكتابة التاريخية والكتابة الأدبية، مجسدة في الرواية. وعند الأستاذ عبد الحق المريني، فالأدب أدخله إلى التاريخ، كما أن التاريخ أدخله إلى الأدب، وهذا البعد المعرفي لديه في تمازجه، ليس وليد المصادفة، بقدر ما انبثق لديه، منذ الطفولة وصولا إلى المرحلة الجامعية، هذا الإعجاب بتاريخ المغرب، وبالأدوار البطولية لملوك المغرب، منذ الدولة المرابطية إلى الدولة العلوية. وبهذا المعنى، يرى الدكتور عبد الحق المريني أنه كان لازما على دارس الأدب المغربي، أن يطلع على تاريخ الحقب التاريخية التي أنشئ فيها هذا الأدب.

هذا، دون أن ننسى، هنا، اهتمام الدكتور عبد الحق المريني الأكاديمي الموازي، بالدراسات الإسلامية والدعوات الإصلاحية، وكثيرا ما قاده فضوله المعرفي إلى البحث عن جوانب أخرى مميزة لحضارتنا وثقافتنا وأدبنا المغربي، كالحضارة الأمازيغية، والفكر الخلدوني، والأندلس، والإبداع العربي والحضارة المغربية، والتنقيب عن متون أدبية أخرى قديمة، بهدف إدراك مظانها وإخراجها للقارئ المغربي، كما هو الحال، على سبيل المثال، في بحثه عن نماذج من الأدب المغربي في الصحافة التونسية (الثريا، الأسبوع، الصريح)، في أربعينيات القرن الماضي…

على هذا النحو، إذن، تبدو شخصية الأستاذ عبد الحق المريني، شخصية مشعة وعالمة ومتعددة الأبعاد، قادها وسطها وخيالها ومناخها الثقافي إلى حب المعرفة والفكر والأدب والبحث والتوثيق، ولا أدل على ذلك من رصيده الوثائقي العائلي المهم والفريد من نوعه، في إبرازه، بما يتضمنه هذا الرصيد من معطيات ومعلومات تاريخية مهمة، لحركية عائلته، على مستوى أدوارها التاريخية، في مجالات مختلفة، سياسية واقتصادية، وغيرها… وقد أسند للسيد عبد الحق المريني، من منطلق ولائه الوطني النادر، المسؤولية الرسمية الكبرى، في جسامتها وفرادتها وخصوصيتها، يسعفه في ذلك، دوره الكبير في إبراز الذات الوطنية والوجود المغربي، في بعديهما الماضوي والمعاصر، وهو ما يجعل الأستاذ عبد الحق المريني، اليوم، من بين الشخصيات الوطنية الرفيعة، المساهمة، بمردودية مائزة، في صياغة جانب من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، وكتابته وتدوينه.

لقد ظل الأستاذ عبد الحق المريني، حفظه الله، على مدى هذه الرحلة الطافحة بالإنجازات والحضور، ثابتا على المبدأ، عزيز النفس، دائم الإخلاص، محافظا على الروح الوطنية، وجنتلمانا أنيقا، فلم ينخرط قط في شنآن أو في معارك صغيرة؛ حيث ظل مترفعا عن الأحقاد والدسائس الصغيرة، غير منجذب إلى الكراسي الوتيرة، موفقا بكل موضوعية ومسؤولية بين مهامه الرسمية وانشغالاته واهتماماته الفكرية والثقافية. من هنا، فكل احتفاء بالأستاذ المريني، لن يكون سوى احتفاء بالرجل، موقفا وسلوكا، وذاكرة وطنية، ورمزا من رموز النبوغ المغربي الحديث…

وفي هذا الإطار، كان لابد أن أعرج قليلا على محطة أخرى مضيئة، في سلوك الأستاذ عبد الحق المريني، لكونها تشكل بالنسبة لنا في اتحاد كتاب المغرب، عنوان فخر واعتزاز، يفوق مستوى إسهام البعض في حركية هذا الأفق نفسه. فالأستاذ عبد الحق المريني، كما هو معلوم، هو من أعضاء اتحاد كتاب المغرب، ظل باستمرار ولا يزال، داعما لهذه المنظمة، بحضوره النوعي، في جميع المناسبات الكبرى التي تنظمها، ما يضفي على فعالياتها، المقامة هنا وهناك، نكهة ومتعة وقيمة خاصة، تقوي من حماسنا نحن، بما يضفيه حضوره من بهاء وأناقة وسمو، بل إن الأستاذ المريني، وهذه شهادة أعتز بأن أقولها في حضوره بيننا، يعتبر أول عضو يبادر إلى تسديد “واجب” انخراطه في اتحاد كتاب المغرب، قبيل كل مؤتمر، ويحرص على أن يحضر شخصيا إلى مقر الاتحاد لهذه الغاية، بكل ما يعنيه ذلك من غيرة وتقدير خاص لبيته الرمزي، هذا الأخير الذي يعتز بانتمائه إليه، بمثل ما يعتز هو بانتمائه لهذا البيت العتيق، والغيرة عليه.

وفي مستوى آخر، نجد أن الأستاذ عبد الحق المريني، ظل دائم الاستجابة لكل النداءات الشريفة التي تخدم الفكر والثقافة والأدب، على مستوى المؤسسات والجمعيات والأشخاص، حسب ما يسمح به وقته وانشغالاته الرسمية، بمثل اقترابه المشهود له به، من شريحة الكتاب والمثقفين، خلافا لكتاب آخرين، ممن يهرعون إلى أبراجهم، بعيدا عن أية ملازمة وتواصل وإنصات وحوار… وهنا أستحضر، بكل محبة وتقدير، أحد اتصالاتي بسيادته، طالبا منه شهادة عن علاقته بمجلة “العربي” الكويتية، حيث كنت وقتها أعد كتابا، عن علاقة المثقفين والكتاب ورجال التعليم المغاربة بهذه المجلة الموسوعية العربية الرائدة. لم يتردد الأستاذ المريني لحظتها، مشكورا، في الاستجابة لطلبي، فجاءت شهادته مضيئة ومؤثرة، سعدت بها كثيرا، اعتبارا لطبيعة علاقته المثيرة بهذه المجلة العريقة، التي ظلت، خلافا لمجلات ثقافية عربية أخرى اختفت من المشهد الثقافي العربي، صامدة في وجه كل التقلبات، منذ تأسيسها سنة 1958 إلى اليوم، فشكلت شهادته قيمة مضافة للكتاب، ولباقي الشهادات العديدة، التي ناهزت سبعين شهادة، ضمها الكتاب الذي أصدرته وزارة الإعلام في الكويت، بعنوان “مجلة العربي بعيون مغربية”، بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي للمجلة.

ولو قدر لأستاذنا الفاضل سي عبد الحق أن يكتب مذكراته وسيرته الذاتية العطرة بين ثنايا كتاب، لجاءت في مجلدات، طافحة بكثير من المتعة والعبرة والتجارب والمغامرات والأحداث المشوقة والمثيرة، بدءا بمحطات الميلاد والنشأة، وحكاية الاسم الشريف، والختان، والمسيد، وحفظ القرآن الكريم، ونسخِه للستين حزبا بخط يده، وغيرها من المحطات الحياتية المضيئة والممتعة، في فتراتها الزمنية المختلفة والمتعاقبة، وفي محافلها الدراسية والأكاديمية والأسرية والإنسانية والمكانية، وفي مسيرتها المهنية والوظيفية، في تدرجها وامتدادها وتنوعها وتطورها، وهو ما سيجعل منها، لا محالة، سيرة ذاتية سخية، بما ستحمله من معان ودروس وعبر…

بقلم: د. عبد الرحيم العلام

Related posts

Top