في 13 غشت 1997، قبل 24 سنة، رحل عن دنيانا علي يعته، الأمين العام الأسبق لحزب التقدم والاشتراكية، أحد الوجوه البارزة التي قادت مجهودات الشيوعيين المغاربة من أجل تحقيق تحرر وانعتاق الوطن، وكذا المطالبة بتشييد المسار الديمقراطي، وإصلاح اقتصاد البلاد، وعبره الأوضاع الاجتماعية للطبقة الكادحة. في هذا اليوم الدامي، ذهب الراحل ضحية حادث سيارة كانت تجري بسرعة جنونية في شارع لاجيروند بالدار البيضاء بينما كان الراحل قد ترجل لتوه من سيارته مستعدا للالتحاق بمقر جريدتي بيان اليوم والبيان.
في مثل هذا اليوم، يفتح التاريخ دفة كتابه ليعود بنا إلى أولى نضالات علي يعته الذي كان ضمن صفوة الحزب الشيوعي المغربي التي قدمت وثيقة المطالبة بالاستقلال، وقاد الوفد الذي استقبله السلطان محمد بن يوسف بعد أسابيع من إصدار هذه الوثيقة.
التاريخ لا ينسى. وهو يؤرخ في صفحاته مسيرة علي يعته التي امتزج فيها العمل السياسي بالصحفي، وشكل مدرسة متفردة لرجل لم يغير قط مواقفه، ولم ينحرف عن مسار خط نضالي قوامه كرامة الشعب المغربي وحقه في العيش في دولة يتقاسم أبناؤها خيراتها بصفة عادلة.
نعم. التاريخ لا ينسى وهو يكتب اسم رجل وطني دعا دوما إلى العض بالنواجد على كل شبر من تراب الوطن. فقد كرس حياته لقضية الوحدة الترابية التي دافع عنها بقوة في جميع المحافل الوطنية والدولية، وكان في الصفوف الأولى للمسيرة الخضراء، مرددا دوما أن “الوطن يأتي قبل الصراع الطبقي”.
فلعلي يعته الفضل في الدفاع، داخل بلدان المنظومة الاشتراكية، عن مغربية الصحراء، رغم انحياز بعضها، في الحرب الباردة، للجزائر. وبفضل جهد علي يعته لم تعترف سوى دولة واحدة من المعسكر الاشتراكي، يوغسلافيا، حينها، بالدولة الوهمية.
مدينة طنجة شهدت ميلاد سي علي، في شهر غشت من سنة 1920، لكن الدار البيضاء انتزعته منها في سن مبكرة، ليشرب من معينها مبادئ النضال من أجل تحرير بلده من الاستعمار، وليرتبط فيها بالكادحين من أبناء وطنه الذين أرهف السمع لشكواهم، ودافع عن حقهم في التحرر من ربقة الجهل والفقر والتخلف.
صراحة، وكما عاينت منذ التحاقي بالعمل في الجريدة بداية تسعينات القرن الماضي، كان بهو قاعة الاستقبال في مقر الجريدة لا يخلو، يوميا، من مواطنات ومواطنين، حاملين شكاياتهم وهمومهم. فهذا طرد تعسفا من معمل، وذاك أفرغ من منزل كان يكتريه ويأوي أسرته متعددة الأفراد، وتلك سيدة تم الترامي على أبسط حقوقها. كل يوم يحمل إلى مقر الجريدة نماذج من مقهورين ومغتصبي الحقوق لا يجدون ضالتهم إلا في صدر علي يعتة. يستقبلهم واحدا تلو الآخر بسعة صدر، وذلك مباشرة بعد الاجتماع “المقدس” لهيئة التحرير. كانت هذه الوتيرة تثير الشكوك حول قدرة الراحل على التحمل خاصة وأن مهاما كثيرة تنتظره. لكنه كان دائما يقطع هذا الشك بمقولته الشهيرة: “إننا نناضل ونعمل من أجل كرامة الشعب المغربي، من أجل حقوقه في العيش الكريم، من أجل دولة مغربية تتسع لكل أبنائها في ظل الحق والقانون.. تلك هي قيمنا التي لا تتغير لا في الزمان ولا في المكان”..
بهذا السلوك النبيل والسامي، خلف الراحل علي يعته مدرسة سياسية وصحفية تضع المواطنات والمواطنين فوق كل اعتبار، تدافع عنهم وتدعوا لإقرار الديمقراطية وحقوق الإنسان سبيلا لذلك. مدرسة متشبثة بقيم الممارسة الديمقراطية التي تنبذ العنف والانتهازية، وترفض السياسة السياسوية، وتغلب مصلحة الوطن والشعب.
نعم. كان علي يعته منارة في سماء الممارسة السياسية والصحفية بالمغرب. لم يتعب يوما، طوال حياته المهنية والنضالية، من أن يكون صحفيا، لأنه أصر على أن يقول كلمته بكل وضوح وحرية.
استطاع علي يعته بجديته وواقعيته المتحررة أن يغرس روحا إصلاحية سواء بين صحافيي البيان وبيان اليوم، أو بين مناضلي حزب التقدم والاشتراكية. روح إصلاحية متشبعة بالقيم والمبادئ الوطنية الأصيلة، ما جعله، بحق، رمزا وطنيا يستحق أن يقف الفاعلون السياسيون اليوم على اجتهاداته ونضالاته في وقت لم تكن فيه الممارسة السياسية سهلة.
لا يمكن إطلاقا الحديث عن الحزب دون تلمس الحضور القوي لفكر وشخص علي يعته إلى حد التماهي. فالفقيد تميز بدور محوري في تطور الحزب وبلورة مساره السياسي والنضالي، واستطاع أن يرسخ قواعد النضال السياسي والحزبي بين صفوف المناضلات والمناضلين، الذين استمدوا منه قيم الجرأة في اتخاذ المواقف والصرامة والانضباط الحزبي، والإيمان بسمو مصلحة الوطن والمواطنين.
ولعلي يعته، أيضا، دور بارز في تأسيس الكتلة الديمقراطية، حيث كان يدعو دوما إلى وحدة القوى الوطنية.. الاتحاد الاشتراكي، وحزب الاستقلال، والتقدم والاشتراكية، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي. وحدة هدفها الوحيد والأسمى هو توحيد القوى بما يخدم قضايا الطبقة العاملة والكادحة التي كانت دائما حاضرة ضمن انشغالاته الكثيرة، لاسيما تحت قبة البرلمان التي لا تزال شاهدة على قوة خطبه وتدخلاته ومرافعاته الشهيرة وطريقته المتفردة في التعبير عن مواقف حزبه التي كانت لا تحيد عن مسارها الداعي إلى الدفاع عن مغربية الصحراء، ورص صفوف الكتلة الديمقراطية، وتوحيد أجنحة العمل النقابي، واستكمال مهام المسلسل الديمقراطي، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتوفير مستلزمات الاستقرار كأفق سياسي يتعين استثماره لإنجاز ما كانت البلاد ولا تزال في حاجة إليه من إصلاحات جذرية وأوراش كبرى.
في ذكرى وفاته الرابعة والعشرين، مازلنا نستلهم من فكر ونضالات علي يعته، ومازالت شخصيته السياسية الكاريزمية، ومواقفه المبدئية الراسخة، تشكل قبسا ونبراسا في التاريخ السياسي للمغرب المعاصر.. فالمعركة التي بدأها علي يعته في سنة 1944 مع انضمامه للحزب الشيوعي بالمغرب يمكن القول إنها ما تزال مستمرة، متطلعة إلى مزيد من التقدم من أجل تحقيق مشروعه الديمقراطي والحداثي الذي طالما حلم بتحقيقه وناضل من أجله طوال حياته.
رحم الله علي يعته الذي كان شجرة وارفة الظلال، استمدت منه أجيال مختلفة داخل حزب التقدم والاشتراكية العبر ودروس النضال الصحفي والسياسي. وما زال يستمد منه الجيل الحالي العبر والدروس بدليل نضالات وتضحيات الرفيقات والرفاق، قيادة وقاعدة، والتي عبدت الطريق أمام حيازة حزب التقدم والاشتراكية وضعا متميزا في المشهد السياسي المغربي.
طبعا، لن نفي الرجل “الذي كان رجلا” بشهادة جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، في هذا الحيز الضيق، حقه. فذاكرة الإنسان تنسى التفاصيل، لكن التاريخ، وحده، يعطي الرجال حقهم.
مصطفى السالكي