عن النظام العربي… والمقاومة

مرة أخرى يثبت النظام العربي الرسمي عجزه عن القيام بواجباته نحو الاستحقاقات التي تتحدى الحالة العربية وقضاياها المصيرية، من المحيط إلى الخليج. كما يثبت، في الوقت نفسه، أنه ما زالت أمامه أشواط، عليه أن يقطعها ليصل إلى تلك النقطة التي بإمكانه منها أن يلبي ولو جزءا من تطلعات المواطن العربي. وما القرارات، الصادرة عن قمة سرت، إلا دليل على ذلك.

وقد أكدت هذه القمة أن المسألة لا تتعلق، لا بمكان انعقادها، ولا بالدور الذي يلعبه البلد المضيف لها، ولا بالدور الذي يمكن أن يلعبه رئيسها الدوري. المسألة تتعلق بطبيعة هذا النظام، وتركيبته، كجامع للدول العربية، وفيما إذا كان هذا (التجمع) يستحق أصلا أن يطلق عليه وصف (نظام) بالمعنى السياسي المتداول علميا، أم أنه يحمل هذا الاسم مجازا (النظام) بما هو تعبير عن أسس ومؤسسات وأهداف، وآليات. ولقد اشتكى، في هذا السياق، أكثر من رئيس دوري للقمة، أنه وبعد انفضاض الاجتماع، وعودة كل فريق إلى عاصمته، يجد رئيس القمة نفسه، مجرد فرد، لا يستند إلى أية مؤسسة أو آلية عمل تمكنه من متابعة تنفيذ القرارات المتوافق عليها، ومساءلة العواصم عن مدى التزامها التوجهات المعتمدة في البيانات والإعلانات، أو تمكنه من التحرك السريع والفاعل، عند وقوع أمر استثنائي، يتطلب موقفا عربيا جماعيا، وعلى مستوى الحدث نفسه، دون أن تتكرر مرة أخرى ظاهرة الانقسام كالدعوة لقمة الدوحة أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. كما اشتكى أكثر من رئيس دوري للقمة، أن العواصم العربية وهي تتخلف عن تنفيذ القرارات والتقيد بالتوجهات، وأنها وهي تخرق التوافقات وتنتهكها، تتذرع بما تسميه (السيادة) و(الاستقلالية) علما أن هذه (السيادة) وهذه (الاستقلالية) تحولت إلى مجرد ورقة وذريعة، تستحضر عند طرح القضايا العربية،

وتغيب في مجالات أخرى، لا يتسع المكان للدخول في تفاصيلها. يصعب على المحلل أن يفصل ما بين النظام العربي وما بين الأقطار التي يتشكل منها، وبالتالي يصعب على المحلل أن يعالج أوضاع هذا النظام، ما لم تعالج  الأقطار، الأعضاء فيه، أوضاعها، وتتعافى من أمراضها، وتنتقل من حال إلى حال. فبعض أطراف هذا النظام تعيش حالة من الحرب الأهلية والانقسامات الداخلية، طويلة النفس، في ظل انهيار كلي، أو جزئي، للدولة، حلت محلها العشائر والقبائل والسلطات الجهوية والميليشيات المسلحة. بل وتحول ما تبقى من هذه الدولة إلى واحدة من هذه العشائر والقبائل، وفقدت دورها المركزي في إدارة البلاد، وصون أمنها الداخلي والخارجي. وانهار الاقتصاد الوطني، وحلت محله اقتصادات حرب ريعية وسوداء. وعجزت هذه الأقطار أن تداوي جراحها، كما عجز النظام العربي نفسه عن معالجتها أو إسنادها، فاختار سياسة التعايش معها، مع أنها تحولت إلى بوابة للتدخل الخارجي بشؤونه، فأصبح موضع انفعال، بدلا من أن يكون موضع فعل وتأثير. وبعضها الآخر أقام بنيانه السياسي على أسس مذهبية وطائفية.

وكما تثبت الوقائع، فإن هذه الأنظمة وبسبب من طبيعتها المذهبية والطائفية، تضع شعوبها على الدوام، على حافة الحرب الأهلية، يطحنها الرعب من الوقوع في أتون هذه الحرب. ويصبح الأمر تواطأ بين القيادات المذهبية والطائفية نفسها، على حساب مصالح طوائفها وأبناء مذاهبها. وتتحول المطالب النقابية والاجتماعية وسواها، إلى تهديد للعيش المشترك، وتهديد للسلم الأهلي، فتتعطل الحياة السياسية، ويتعطل العمل النقابي والنضالات الاجتماعية، وتفرغ كلها من مضمونها، ويبقى الهاجس الدائم هو عدم الانزلاق نحو الحرب المحلية، الأمر الذي يقود أصحابه نحو بوابة الخروج من التاريخ، ويبقى التغني بالماضي، شكلا من أشكال التغطية على الحاضر الكئيب. وما زالت أطراف أخرى تعيش فيما بينها حربا مفتوحة عبر الحدود المغلقة. فصار الجار والأخ والشقيق عدوا وخصما وصار الغرب أكثر قربا منه.

وكلما تفاقمت الأزمات الداخلية جرى تصديرها إلى الخارج، عبر التصعيد ضد الجار والشقيق. وتسقط شعارات الشعب الواحد والأمة الواحدة، وتتحول الجغرافيا من عامل توحيد إلى حدود وسدود وحواجز، والتاريخ إلى تاريخ أفراد يزور الماضي ليخدم الحاضر، ويغلق الطريق أمام المستقبل، والدين موجة يركبها الحاكم، فيخلط بينه وبين السياسة، لتصبح السياسة سلسلة فتاوٍ بغير استناد. أما اللغة فالإبداع بها وبلاغتها يصبحان مادة غنية لحملات إعلامية توتر الأجواء الإقليمية وتبقيها على حافة الانفجار.

وليس غائبا عن الوعي أن الديمقراطية كما يمنحها الحاكم لشعبه، لا تعدو كونها مجرد انتخابات، تحكمها قوانين تنتج مؤسسات مضمونة البنيان والتركيب، فتتغير البرلمانات وتتغير الحكومات، ويتغير رؤساء البرلمانات، ويتغير رؤساء الحكومات، ويبقى الخطاب هو نفسه وتبقى السياسة هي نفسها، وتبقى الأزمات هي الأخرى، نفسها، أزمة فساد، وبطالة، وتجهيل وتهميش وشراء ذمم، في الوقت نفسه تزدهر الفضائيات، ويزدهر التهريج على أن مسرح، والابتذال على أنه إبداع، بينما تبرر الفتاوى سياسة الجهالة وتدعو لها وتستحضر عصور الظلام لتغلق الطريق أمام العلم، ويحل الشياطين والجان محل المعادلات والاكتشافات العلمية. وسط هذا العجيج، تكابد الحركة الوطنية الفلسطينية، ومعها القضية الفلسطينية ما تكابده من أوجاع وآلام ومصاعب وتعقيدات.  فقد تواصلت عمليات الانقلاب على البرنامج الوطني، وسياسة التلاعب بهذا البرنامج، وتشويه محطاته عند كل منعطف، ليتلاءم مع العروض الغربية، واشتراطات اللجنة  الرباعية.  وتواصلت سياسة التلاعب بالمؤسسات، وتعمقت سياسة تهميشها، وتحويلها إلى مجرد هيئات استشارية، ليس لرأيها الاستشاري نفسه أية تأثيرات. وصار الأفراد والمستشارون، وفريق التفاوض، هم أصحاب القرار البديل لقرار المؤسسة.

وتواصلت سياسة الانقسامات الانقلابية، واتسعت وتيرة التحريض ضد الوحدة الداخلية لصالح شرعنة الانقسام، وإدامته، في خدمة مصالح فئوية وإقليمية، تتناقض والمصالح الوطنية.  وتواصلت سياسة تهميش الرأي العام الفلسطيني، والاستخفاف به، وتعطيل الاستحقاقات الانتخابية، في خدمة تقاطع مصالح أطراف متباينة الاتجاهات التقت على نقطة إدعاء تمثيل الشارع، رغما عنه، وبغير إرادته، مستعينة بقوة القمع، وقوة السلاح، أو بقوة الخدمات النفعية والمصالح الشخصية.  تعززت، في هذا السياق، مواقع الامتدادات الإقليمية في الحالة الفلسطينية، في تأثير بالغ الخطورة على مشاريع إخراج هذا الوضع من بؤسه وكآبته ومعاناته.  ومع ذلك يبقى الحل بيد القرار الفلسطيني، وبيد الإرادة الفلسطينية وبحيث تستعيد الحالة الفلسطينية واقعها الحقيقي، كحركة تحرر وطني، ذات طابع تقدمي حداثي، تشكل رافعة للحالة العربية، تتحصن ضد أمراضها، وتدفع باتجاه معافاتها، وتفرض نفسها، على هذا الواقع العربي، من موقع المؤثر، والمسائل، لا من أي موقع آخر.

Top