حينما تكون الدهشة هي منبع الفلسفة حسب رأي أفلاطون، وأرسطو، هل من الممكن أن تكون أيضًا هي منبع الشعر والأدب والفن بشكل عام..؟
رغم أن الكثير من الباحثين، أكد أن الفلسفة وأعمال الفكر ارتبطت بالشعراء ارتباطاً وثيقاً لدرجة أننا لا نكاد نميز إن كان الشعر قد سبق الفلسفة، أم أن الفلسفة قد سبقت الشعر.
“فأفلاطون قد كتب عن الشعر في العديد من محاوراته وإن لم يخصص له محاورة خاصة”،
كذلك أرسطو وضع كتابا مشهورا في “فن الشعر”، وقد يكون الشعر سبق الفلسفة إذا ما اعتبرنا أفلاطون أول الفلاسفة؛ فهوميروس، وهيسيود وجدا قبل أفلاطون، وكذلك الكثير من الأساطير والملاحم وجدت من قبل.. إلى درجة تمنحنا القول بأن الوجه الآخر للشعر في ذلك الوقت هو الفلسفة.
سمفونية حنين:
حق لنا أن نسأل ما هو الشعر؟ هل من الممكن أن يكون شيئاً آخر غير الذي حدثونا عن أنه الكلام الموزون المقفى؟ ولن نحتاج لطويل وقت قبل أن ندرك أنه شيء غير ذلك تماماً.. قد يكون الشعر عند بعض الشعراء قنديل أخضر أو رسم بالكلمات (نزار قباني) أو اقتباسات من نفس الرحمن (عباس العقاد)
وسمفونية حنين عند الشاعرة (خديجة أبو علي).
لاشكَّ في أنَّ الشعر فنّ مثير كباقي الفنون، وقد أبدع الناقد عبد الرحمان الصوفي في تقصي المخبوء في ترتيب المعاني المجازية و فلسفة الرؤى
والحنين، ذلك من خلال تقديمه لديوان الشاعرة خديجة أبوعلي “سمفونية حنين”
الصادر عن “دار بصمة” لصناعة الكتاب “، وكأنه يؤكد ما قاله هيدغر: “مصير العالم يعلن عن نفسه في أعمال الشعراء من دون أن يكون قد ظهر وتجلى كتاريخ للكينونة”.
فلسفة أنثوية:
زُيّنَ العنوان “سيمفونية حنين” بسوناتا سيمائية رقيقة التعبير أنيقة اللفظ بتناغم صوتي، تؤكد رهافة حس شاعري شفيف الروح، فمجاز العنوان منتقى بفلسفة أنثوية أدمت جبينها لعنة الانتظارات، مصاغة بلغة صوفية، ناعمة الهمس تراقص الحي والميت رقصة الدراويش.
وتفصح مكنوناته الدلالية بتوتر واعي ولمسات تضاد تبدو ببيان الرؤى المكثفة، ومن سيميائية التمنّي نبحر استبصاراً واستنطاقاً مع دفقة شعورية ببنية بسيطة سهلة التعبير، وحداثة لغة عذبة لخيال شاعرة بشاعرية الترجّي ورؤى معمقة للحدث الوجداني بقصيدة النثر.
وهنا يطفو على الذهن هذا السؤال الهام: هل يمكن أن يكون الشعر مؤرخاً ومؤثراً في خضم التغييرات الهامة التي شهدها العالم العربي؟
ولكي تتضح الرؤية للمتلقي دعونا نتأمل معاً مقاطع قصيرة من تلك المقدمة:
“الشعراء يتمتعون بقدرات وموهبة تمكنهم من مرافقة الحركات المدنية وقضياها وتوعية الضمائر في خضم التغييرات الهامة التي شهدها العالم العربي” ص-4
القدرات التأثيرية:
ما الذي أوحى إلى هذه الشاعرة بهذا القدر من الدهشة وكيف امتلكت قصيدتها هذه القدرات التأثيرية التي تحارب طواحين القرش والأسماك؟
ما الذي دفع بالشاعرة لابتلاع رضاب الصدى؟
ذلك التعبير أو الومض الفلسفي الذي جاء في قصيدة “لتهدئة اللوعات”:
“سأعصر شذاك
بين كفي النسيان
أخنق أنفاس شدو
يرشح بالمحال
دابر الحنين
أجثث بسيف الإهمال
أبتلع رضاب صداك المتد فِّقص”-19
مسافات ضوئية:
لا يخلو الخطاب الشعري أو الأدبي – على وجه عام – من الصورة الفنية الحاملة لأبجدية الدهشة؛ وخديجة بوعلي؛ هذه الشاعرة القادمة من ريح المستحيلات، بأبجدية حكمتها تطوي خلفها مسافات ضوئية، ذات يقظة تشحذ شموس القوافي
وتعزف “سيمفونية حنين” على ناي الوجد لتقرع باب المعنى، كلما غصنا في لحنها ابتلت نفوسنا بلعنة الوعي وتأرجح شعورنا بين كان وليت.
من هنا، بدت الشاعرة واعيةً، ومدركةً بالحد الذي تقف عنده الصورة، أو تتاليها، وهو نضج فني على مسار الشاعرية التي تبحث عن قارئ حقيقي يشاركها هذا الهم الذي ينوء به على مستوى الواقع.
فتبدع في اقتناص لحظة جميلة، تصورها بعدستها، فتكون الصورة كقصيدة لا تخضع لمقاييس الفراهيديّ، تسير دموعها على موسيقى هادئة، تضبط ايقاعاتها
وفق توقيت نبض قلبها تقول:
“أنا المتيمة حتى الثمالة بك
حذار من خيانة أحلامي
لسيقان الريح تكل أنغامي
أعجاز نخل خاوية
تذروني رياح فراغ ثانية
أوهام ضياع تتناثرني
أياما ولياليا.”ص-50
أفكار شعرية
ولذلك وجدناها تنزع إلى طرح أفكار شعرية، واضحة المعالم؛ ودون أن تسقط في ابتذال لغوي، أو تتهاوى إلى الصور الفنية الجاهزة، أو المستهلكة التراكيب.
ولنمثل لذلك بهذا المقطع من نص “خلوة في أحضان العباب” الذي قد يظنه البعض سهل المنال:
“ماذا لو مزق الصمت
ردا ء مدك؟
ماذا لو امتطى السكو ن
زورق جزرك؟
ماذا لو لهنيهات
اقتحمت أحشا ء البرية ؟!”ص-12
اللغة المصورة:
فقد بدأت المقطع بصورة سؤال (ماذا لو مزق الصمت رداء مدك)، وهي صورة بسيطة واضحة المعالم لا تقع تحت مفهوم التتابع السريع، والشديد، ولكن قوتها التصويرية تتأتى من حركيتها، وفيما تخلفه الصور الجزئية من ظلال. فإذا ما علمنا بأن الوظيفة الإرجاعية للنص مركزة على سيقان الشمس (خنيفرة) وهي منطقة تاريخية لا تهتم بإشارات المرور؛ إذا ما علمنا ذلك فقد تشكلت لنا الأجواء التي تحيلنا إلى أزمنة تاريخية مثارة شرطياً كلما دخلنا هذه المنطقة ، ولكنها أزمنة يتحكم فيها خيال الشاعرة ” الذي شكل المكان بواسطة اللغة المصورة على نحو قد يتجاوز قشرة الواقع ” (1).
لقد وقفت على أعتاب الحنين ملمحاً لبدايتها، فهل حقاً تريد أن تغوص في البحث عن بذرة الهوى التي شكلت شرارة العشق الأولى؟
أم هو ذلك العشق المطلق ل (خنيفرة) التي اعتلت عرش الجمال و شكّلت عقد الزمرد في جيد الأطلس ؟
برج الحنين:
بيقين قلبها تجتث أصابع الاغتراب، حيث كان حدسها الحاذق الفطن يرشدها، بإحساس الشاعرة تراها تخنق الأزقة و الدروب، تكفكف آهات غيابات شتى، وتقلّم مخالب الأرق.. لتشرع كل الأبواب التي تؤدي إلى برج الحنين، تلوك التمني ،وتبتلع جرعات الإحباط.
صوب اللارجوع:
شاعرة أضناها الرقص على هدير الموج بين الموت والحياة لمن رسمت معهم، ألوان الفرح ذات يومٍ. فعزفت لحن الحنين، على أوتار الوقت الضائع، محلّقة كعصفورة حبٍّ صوب اللارجوع.
متاهات الدهشة:
حين تجيد الإصغاء لسمفونية الحنين تأخذك النصوص في متاهات الدهشة إلى حيث لا تميز للوهلة الأولى أي نوتة سكبت في نفسك هذا الوقع للانبهار لتعاود القراءة فتفرع في عينيك جماليات الأسلوب وتمطرك بغزارة الحنين . ومن ذا يماري في أن الدهشة هي المنبع الأصيل لكلِّ شعر حقيقي ؟”(2).
من كوة الأمل تتتابع صورها وتحارب الطواحين ك(دونكيشوت) دون أن تجرَّ النص إلى الإنهاك، والترهّل:
“فإلى متى …إلى متى
سأظل… دونكشوتا
يقار ع الطواحين ؟!”ص-72
وكأنها تذكر القارئ بمقولة: أن أجمل الشعر ليس أكذبه، وإنما أصدقه، وبخاصة ذلك الشعر الذي يراود الموسيقى عن نفسها، ويمتطي صهوة الرقص حيناً، وينيخ للرقص أحايين أخرى. وفي الحالين تؤكد ما يقوله بول فاليري عن أن “الشعر بالنسبة للنثر مثل الرقص بالنسبة للمشي”.
ما هي الرسالة السيمفونية؟
الرسالة السمفونية هي انتصار الإرادة البشرية على المأساة والإمكانيات اللانهائية للمساعي البشرية. وعلى الرغم من وجود سيمفونيات تنتهي بشكل مأساوي بقطعة موسيقية بطيئة، وهناك سيمفونيات تختتم ببانوراما متوهجة من الصوت لنتأمل هذا المقطع:
“تضرم اللهيب في معابد الشموس
تخرس شبق الأشواق
ستائر الصمت تسد ل على المواقيت
تدر الرماد في جفون الشمعات
فهلاَّ أخرت الرحيل … إلى حين …”ص-86
وفي مقطع شعري آخر، تسأل الشاعرة في عفوية ورهافة تعبير، وصدق مشاعر وأحاسيس، مستثمرة في ذلك الأسلوب السردي:
“كم يلزم من الوقت لاسترجاع الحياة؟
بين ليت ولعل تخرس الأجراس، ص-88
كيف للشاعرة أن تصير مشكاة تنير حلكة البوح؟ وأي مدينة تبتغيها “خديجة أبو علي “سوى مدينة الشعر وبيت القصيد؟! لتصبح ترانيمها صلاة تشاكس وحشة المساءات ومن قصيدة (هل تقبلين اعتذاري) نقتبس الآتي:
“مدينة لك نفسي بقوافل اعتذار
مدينة لله فيك بأوراد استغفار
كم حملتك من أثقال هَمّ وأوزار
كم قَصَمت ظهرك بوابل أضرار
لم تتأوه ي يوما ولا انتفضت” أن كفاني!” ص-34
وتجعل من الحب موسيقى كلاسيكية مقدسة تدفئ بها ليل وحدتها البارد.. لا أحد يتخيل ما يجري داخل الأنثى إذا ما تلبستها الوحدة وغياب العاشق، فتبدأ بهدهدة الوقت والانتظار، وبإعادة تفريغ الحلم وما يحمله من آمال راسخة في ذهنها، فجعلت من الريح احتفالا ورقصا لأغنيتها، ومن البرق نهارا لليلها المظلم، ومن عتمة السحب ضوءً تعكسه المرايا.
الشاعرة خديجة أبو علي، تظفر بنفسها من خلال محاكاتها لذاتها.. ولعل محاكاة المبدع لذاته هي تطهير للمتلقي، خصوصاً عندما تكون هذه الذات تملك خصوبة عشتار التي مكنتها من بلوغ قمة إيفريست… حيث تقول: “بحبال عطرك المتدفق جداول بهاء،
تسلقت كثبان القمر.
وطأت أراضي النجمات واحدة … واحدة
ركبت سفن الشفق.
بمجاذيف من عذب النغم ،
بلغت قمة إيفريست” ص-56
وهذان المحوران (المحاكاة للمبدع، والتطهير للمتلقي) دارت عليهما آراء أرسطو في الفن.. فالمحاكاة تصوير للطبيعة البشرية والعيانية، وهي عند شاعرتنا ليست تصويرا حرفيا، بل تضيف شيئا من عندها إلى الحقيقة والصدق، ليصبحا حقيقة فنية وصدقا فنيا..(3).
ويتجلى ذلك في هذا المقطع:
“وفي حدود الجفن
بحبال عطرك أطوي مسافات ضوئية
أنعم بزاوية وهم
أتوارى خلف قضبان حريرية
أهيم على أرصفة المدى”.
على سبيل الختم:
قصائد الديوان تحمل في حناياها الإثارة والدهشة والتساؤل، وفي مجملها تتناول الهم الإنساني، خاصة الإنسان العربي، تتجاوز فيها الواقعي جنباً إلى جنب مع الرمزي، في لغة طازجة وصور مبتكرة تتسم بقوة
الإيحاء وجمال التكوين وتدفق الإيقاع وتلونه.
وعليه، تضيق الأبجديات بما رحبت ويتوقف القلم عن اجترار العبث وتصل بنا إلى الذروة التي فيها إجابة لكل الأسئلة والتفاصيل الأولى من خلال نظرة مغايرة، تتفاعل عبرها الشاعرة مع ذاتها، وتنفصل وتحترق لهمومها، وترقص لأفراحها ولحظات عشقها، وتنزف وجعاً إنسانيا مجدولاً في ضفيرة خيوطها الشعر والتداعيات، ومفتوحة على فضاءات متعددة، تنفلت من قصيدة النثر وتتجاوز قيود السرد الى عالم الشعر والسيمفونيات العظيمة لتثبت لنا أن الفنون مرآة الشعوب، بينما الآداب هي صوت الأمم، لذلك كان التعبير عن الطبيعة من خلال الفن يمثل انعكاسا تغنت به الشاعرة في مجموعتها الشعرية “سمفونية حنين”.
هوامش:
1- اعتدال عثمان: اضاءة النص ، ط: 1988م
2- فرنان ألكييه: معنى الفلسفة، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1999. ص 15
3- أرسطو: الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، ص18
< بقلم: أحلام غانم