في الذاكرة.. وجوه بصمت خشبات المسرح المغربي

قد يمر بنا قطار العمر بمحطات وأماكن لا نشعر بجمالها إلا عندما نبتعد عنها.. وقد يؤثث مشهد حياتنا فنانون فرضوا علينا الاحترام بأدائهم و مشاعره الإنسانية الجميلة. وفي أكثر الأحيان لا نشعر بقيمتهم ومدى تأثيرهم في حياتنا إلا بعد أن يغادروننا ويصبحون مجرد ذكرى فيتركون ذكريات قد تثير فينا الشجن والحزن والفرح والابتسامة أو الألم والحسرة.. ولكن تبقى ذكرياتهم محفورة داخلنا، تذهب بنا إلى العالم جميل نستنشق من خلاله عبق المحبة والحنين إلى الماضي حيث نتذكر فيهم وبهم أجمل اللحظات برونق خاص وغصة بالقلب…
رحلوا عنا الغوالي وتركوا لنا ذكريات نتعايش معها وتنبض الحياة في أعضائنا، وصورهم مازالت ماثلة أمام أعينينا..
هكذا هي الحياة، كما هي الممات، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة.. فبالأمس رحل عنا العظماء ممن كنا نحبهم لأنهم تركوا بصمات على دركنا وفهمنا للحياة من علماء وشعراء وأدباء وفنانون فهم شخصيات عامة إلا أنهم أناس عاشوا وتعايشوا معنا ليرحلوا بهدوء دون أن ترحل آثارهم وتأثيراتهم..

الممثل والمخرج الراحل أحمد بادوج

ولد أحمد بادوج سنة 1950 بحي تالبورجت بأكادير، وزاول بعد أن ختم دراسته الثانوية مجموعة من المهن والأعمال، كما مارس كرة القدم مع فريق حسنية أكادير للشبان موسم 1967-1968.
وخلال سنة 1972 انتقل إلى مدينة إنزكان ليؤسس أول فرقة أمازيغية للمسرح “أمنار ومرّ”، ثم مرّ من عدة فرق مسرحية أخرى قبل أن ينضم إلى جمعية تيفاوين سنة 1985 والتي سطع نجمه معها في مجال التمثيل المسرحي.
كانت سنة 1987 بداية بادوج مع أول مسرحية بعنوان “100 مليون” ثم مسرحية “كرة القدم” سنة 1988، وفي سنة 1989 شارك في تصوير أول فيلم أمازيغي بعنوان “تمغازت ن وورغ”، كما شارك الراحل بأدائه في العديد من الأفلام، ومارس التأليف والإخراج إلى جانب التمثيل، حيث تمكن من إخراج عدد من الأفلام الأمازيغية.
توفي أحمد بادوج صباح يوم السبت 22 غشت 2020، بقسم الإنعاش بالمستشفى الجهوي الحسن الثاني بمدينة أكادير، متأثرا بمضاعفات إصابته بفيروس كورونا.
ويعد أحمد بادوج رائدا من رواد ومؤسسي السينما والمسرح الأمازيغيين بجهة سوس خاصة وبالمغرب عامة، وفنانا استثنائيا في تاريخ الفن الأمازيغي على السواء.
هذا وانتقل إلى الرباط في طفولته وهو لا يكاد يتجاز سنتين من عمره بحكم اشتغال والده في الرباط ليعود سريعا إلى أكادير بعد ظهور علامات المرض الذي يسمى بالبتركولوز عليه وهو المرض الذي تسبب في وفاة إخوته، وولج المدرسة في سن متأخر، حيث درس بكل من حي الخيام ثم أمسرنات وختم دراسته بثانوية ولي العهد بحي أحشاش، وبعدها ترك دراسته سنة 1968 ليزاول أعمالا أخرى، حيث أنه برع في عدة مجالات كغيره من أقرانه ممن ولدوا قبيل الاستقلال سنة 1956، باعتبارهم جيلا نشيطا جمعوا بين الرياضة والفن وغيرها، الشيء الذي جعل الفنان أحمد بادوج يدخل غمار كرة القدم مع شباب حسنية أكادير، حيث ظل محبا لها إلى أن وافته المنية.
كما أن الفنان الراحل أحمد بادوج زاول قبل دخوله إلى ميدان السينما والمسرح عدة مهن كميكانيك السيارات وغيرها، إلا أنه وجد نفسه محبا ومبدعا في مجال الفن، بعدما عرفت مدينة أكادير في تلك المرحلة حركة فنية مهمة على مستويات عدة من الفن أهمها الموسيقى والمسرح حيث ظهرت مجموعات غنائية ومسرحية رائدة لعل أشهرها وأهمها مجموعة إزنزارن وجمعية تيفاوين للمسرح وغيرها كثير.
سنة 1972 انتقل إلى إنزكان وأسس أول فرقة أمازيغية تسمى” أمنَار”، ومر من عدة فرق قبل الإعلان عن انضمامه إلى فرقة تيفاوين عام1985 والتي سطع نجمه معها في مجال التمثيل والإخراج المسرحيين، حيث كانت البداية مع أول مسرحية بعنوان “100 مليون”سنة 1987، توالتها عدة مسرحيات أخرى كمسرحية”كرة القدم” وغيرها ليشارك بعدها سنة 1989 في تصوير أول فيلم أمازيغي بعنوان” تمغارت ن وورغ”، للمخرج الحسين بيزكارن وهو الفيلم الذي لم يشاهد النور إلا بعد سنتين من تصويره، حيث لعب فيه الفنان أحمد بادوج دور البطولة، ليفتح باب الأمل على السينما الأمازيغية ويستفيد الراحل من مخرجه الحسين بيزكارن، سواء على مستوى كتابة السيناريو أو الإخراج.
بعد فيلم” تمغارت ن وورغ” توالت مشاركات الفنان أحمد بادوجفي عدة أفلام سينمائية قبل انتقاله إلى عالم التأليف والإخراج السينمائي الذي درسه في إحدى المعاهد الفرنسية، الشيء الذي مكن بادوج من إخراج أزيد من ثلاثين فيلما نذكر من أعماله الخالدة:تامغارت ن وورغ، تيتي واضان،تاكوضي،تيسنتال، أجميل لغرض، تازيطاوانغا… كما شارك أيضا في عدة سيتكومات منها على الخصوص سيتكوم”تيكميمقورن”، إلى جانب رفيق دربه لحسين برداوز ومصطفى الصغير وفاطمة بوشان ومبارك العطاش وغيرهم من الممثلين للمخرج عزيز أوسايح، وكذلك سيتكوم” هموبوتموركيسين”رفقة الفنان رشيد أسلال وفاطمة بوشان، ومبارك العطاش، ومصطفى الصغير وأحمد نتاما وآخرون، من إخراج مصطفى عاشور.
لقد عاش الفنان أحمد بادوج منسيا إعلاميا إلى زمن قريب، رغم أن وجهه لم يكن مألوفا على القناة الأمازيغية التي تعد واحدة من ثمار نضال أحمد بادوج، حيث عبر عن هذا بقوله:” في عام 1996 عقب إخراجي لفيلم” تاكوضي”، سافرت إلى الدار البيضاء ودخلت مقر القناة الثانية للقاء مديرها قصد عرض الفيلم نفسه، أخبرني أحد الموظفين أنه غير موجود وأعطاني موعدا أرجع فيه للقائه، وعندما التقيته أخيرا بدأ يملي علي شروطا لم أقبلها ثم صرخ في وجهي قائلا (هاد الفيلم مغاديش إدوز إلى بغيتي دوز الأفلام ديالكوم ديرو قناة خاصة بكم ودوز فيها لي بغيتي)، ثم غادرت ولم أعد ثانية ومن يومها أصبح وجود قناة تمثلنا هاجسا بالنسبة لي”.
لا حرج إذا قلنا أن أحمد بادوج يعد الأب الروحي للمسرح والسينما الأمازيغيين بسوس، إخراجا وتمثيلا رغم ما كانت تعرفه المرحلة من حواجز وعدم الاهتمام بالثقافة الأمازيغية عموما والمسرح منها على الخصوص، ولهذا تحسر كثيرا لما لقيه هذا الفنان المتألق في الفن الأمازيغي من تجاهل وعدم الاعتراف من طرف المقيمين على الشأن الثقافي والفني وطنيا ومحليا، ومات مبدعا حاملا معه حرقة التجاهل لما أسداه وقدمه خدمة للفن الأمازيغي عامة.
لا يستقيم الحديث عن أحمد بادوج وعن مسار تألقه كمخرج وممثل ومؤلف خارج دائرة فرقة تيفاوين، باعتبارها فرقة شكلت مدرسة للمسرح الأمازيغي السوسي، حيث انفتح من خلالها الفنان أحمد بادوج على آفاق معرفية وجمالية متجددة لها صلة بالمسرح الأمازيغي خاصة وبأب الفنون عامة، كما تعلم قواعد وأصول الإخراج السينمائي المتنوع والملائم لمختلف أشكال الصناعة السينمائية، تطلب منه ذلك أحيانا تغييرا في الشخصية وفي الأداء واللغة من عمل لآخر وطبعا هنا ذكرنا لعنصر اللغة جاء من خلال مشاركته أيضا في أعمال مغربية ناطقة بالدرجة المغربية مثل سلسلة حديدان في جزءه الثاني رفقة ثلة من الفنانين المغاربة من أمثال كمال كظيمي وفاطمة وشاي وغيرهم.
وليس من السهل تحقيق هذا الانتقال بالنسبة للممثل من سجل نحو سجل مغاير تماما وقواعد أخرى من الإخراج والتشخيص…، لكن أحمد بادوج استطاع أن ينجح في تحقيق ذلك، لأنه سيتعامل مع كل تجربة باعتبارها محطة خاصة يستعد لها نفسيا ومعرفيا وجسديا ووجدانيا، ويستحضر بجديته في الأداء والإخراج والتأليف كل ما تتطلبه هذه المجالات من إمكانات.
وقف أحمد بادوج على الركح وفي شاشات السينما الأمازيغية ليطلق صرخة الاحتجاج ضدا على الإقصاء الممارس على الثقافة والفن الأمازيغيين على حد سواء وكل من ابتلي من أهل المسرح والسينما، رافضا كل الادعاءات التي تقوم بتبخيس الإنتاج الأمازيغي، لكن مع الأسف وكما يقول المثل:” اليد الواحدة لا تصفق”، حيث تأثر الفنان أحمد بادوج بما جادت به المرحلة مما عرفه الانتاج المسرحي والسينمائي الأمازيغي من ركود وجمود فقط لأن لغة هذا الإنتاج لغة أمازيغية.

Related posts

Top