في الذاكرة.. وجوه بصمت خشبات المسرح المغربي

قد يمر بنا قطار العمر بمحطات وأماكن لا نشعر بجمالها إلا عندما نبتعد عنها.. وقد يؤثث مشهد حياتنا فنانون فرضوا علينا الاحترام بأدائهم و مشاعره الإنسانية الجميلة. وفي أكثر الأحيان لا نشعر بقيمتهم ومدى تأثيرهم في حياتنا إلا بعد أن يغادروننا ويصبحون مجرد ذكرى فيتركون ذكريات قد تثير فينا الشجن والحزن والفرح والابتسامة أو الألم والحسرة.. ولكن تبقى ذكرياتهم محفورة داخلنا، تذهب بنا إلى العالم جميل نستنشق من خلاله عبق المحبة والحنين إلى الماضي حيث نتذكر فيهم وبهم أجمل اللحظات برونق خاص وغصة بالقلب…
رحلوا عنا الغوالي وتركوا لنا ذكريات نتعايش معها وتنبض الحياة في أعضائنا، وصورهم مازالت ماثلة أمام أعينينا..
هكذا هي الحياة، كما هي الممات، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة.. فبالأمس رحل عنا العظماء ممن كنا نحبهم لأنهم تركوا بصمات على دركنا وفهمنا للحياة من علماء وشعراء وأدباء وفنانون فهم شخصيات عامة إلا أنهم أناس عاشوا وتعايشوا معنا ليرحلوا بهدوء دون أن ترحل آثارهم وتأثيراتهم..

الحلقة 20

الفنان الراحل عائد موهوب

ولد الأستاذ الفذ المرحوم عائد موهوب في 22 نونبر1930 بالبيضاء، ونشأ في درب السلطان وهو من أهم الأحياء الشعبية في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، إلى حدود 16 من عمره اشتغل في النجارة ولكن لم يعمر فيها لأن سلطان الفن كان قد سكنه لذالك اتجه إلى ما كان رحمه الله يهوى وهو امتهان الفن والتفرغ له غير مبال ما إذا كان هذا الفن يؤمن له مستقبله ويعينه على أعباء الحياة المادية الضرورية لبناء أسرة كسائر الناس في المجتمع المغربي لأنها طبيعة البشر وسنة الله في خلقه.
وكما تمت الإشارة إليه، ولد الفنان عائد موهوب في درب السلطان، لكن عائد التلميذ لفت نظر مدرسيه في المدرسة الابتدائية خلال حفلات الأعياد الوطنية ونهاية الموسم الدراسي، قدم مسرحيات وسكيتشات حيث كشفت عن موهبة سابقة لأوانها،
حين سطع نجمه وهو لازال يافعا، شرع في تقمص أدوار في العديد من الأعمال الفنية، بل وواكب بداية السينما المغربية مع عصفور، قبل أن يصبح من بين مؤسسي الفرقة المسرحية «نجوم الأطلس» بـ «كاريان كارلوطي» عام 1946 وعمره لا يتجاوز آنذاك 16 سنة. ويعتبر عائد من الفنانين الذين أسسوا لبداية مسرح مغربي إلى جانب نخبة من ألمع الأسماء كأحمد الطيب لعلج والطيب الصديقي وحسن الصقلي ومحمد الخلفي وعبد الرحمن الكردودي ومحمد الحبشي وأحمد الصعري وعبد العظيم الشناوي والإخوة البدوي، وغيرهم من المؤسسين.
قال عنه رفاقه، إنه مفردا بصيغة الجمع، حيث لم يكن يقتصر دوره على التشخيص بل كان مكلفا بمهام عديدة خاصة داخل فرقة “نجوم الأطلس”، حيث خاض تجربة الكتابة المسرحية والإخراج بنجاح ملحوظ كما برز في فن الديكور كيف لا وهو الذي اشتغل في ورشة نجارة، فبالنظر إلى أن المسرح لم يكن قادرا على تأمين ظروف العيش الكريم، فقد اشتغل عائد في معمل للنجارة بدرب السلطان، دون أن يقرر الابتعاد عن عشقه الأول المسرح، واشتهر أيضا في أعمال إذاعية وسينمائية عديدة بصمت حياته الفنية على امتداد ستة عقود من العطاء والإبداع.
ترعرع الفنان الراحل في حي درب السلطان بالدار البيضاء، والذي كان مجال إبداعه ومنه يستمد نصوصه، حيث عاشر نخبة من الفنانين البارزين كمحمد الركاب ومصطفى الخياط، حيث ساعداه على وضع خطواته الأولى في درب أب الفنون وقدم رفقة “فنون الأطلس” العديد من الأعمال ذات البعد الاجتماعي، سواء من الربرتوار المغربي أو العالمي. ساهم عائد موهوب طيلة 65 سنة من الممارسة في تطوير الإبداع المسرحي والسينمائي المغربي من خلال مشاركته في تشخيص وإخراج العديد من الأعمال حجزت له مكانة في وجدان الجمهور المغربي. فإلى جانب المسرح، كانت له مشاركة بارزة في مجموعة من الأفلام السينمائية: «أبواب السماء السبعة» لمصطفى الدرقاوي، و”المطرقة والسندان” لحكيم النوري، وأعمال أخرى مكنته من عدة جوائز، أهمها جائزة أحسن ممثل بالمهرجان الوطني للفيلم بمكناس سنة 1991، عن دور البطولة في شريط “المطرقة والسندان”. كما كانت له مشاركة متميزة في البرنامج التربوي “ألف لام”، الذي كانت تبثه القناة الأولى للتلفزة المغربية، فضلا عن مسرحيات “عباس وبلقاس في لاس فيكاس” للراحل بلقاس والفنان المصري الراحل وحيد سيف، بالإضافة إلى مسرحية “الوارث” و”بين يوم وليلة”، كما أخرج مسرحية لعبد الرحيم التونسي بعنوان «زواج عبد الرؤوف».
عرف موهوب في الوسط الفني برفضه لعدد من العروض التي لا تتوفر على شروط العمل الفني الحقيقي والمحترمة لذوق المتلقي المغربي، على الرغم من مروره بضائقة مالية، حيث جسد عددا من الأدوار وتقمص مجموعة من الشخصيات، وشارك في عدد من الأعمال، بل إنه ظل يقترح تعديلات على الأدوار حتى تكون في المستوى وملائمة لتاريخه الفني.
قال عنه الفنان الكوميدي عبد الرحيم التونسي، إن عائد يستطيع أن يتقمص أكثر من دور ويعبر من الكوميديا إلى التراجيديا دون أن تشعر به، ووصفه رجال السينما بالمسرحي في بلاطوهات الفن السابع والسينمائي على ركح المسرح.
عاش الرجل في حياته مراحل صعود ونزول، لكنه ظل عفيفا لا يسعى للمال واضعا رسالته الفنية فوق كل الاعتبارات، وحين اشتد عليه خناق المعيش اليومي أمام غياب مصدر عيش قار، انتقل إلى حي سباتة حيث استأجر بيتا وأعلن بداية حياة تعايش فيه التقشف مع رغبات رجل اعتاد العيش في النعيم.
عانى في أيامه الأخيرة من المرض وتوارى عن الأنظار، إلى أن استيقظ المغاربة يوما على خبر وفاته، في الثامن من فبراير 2011 عن سن يناهز 81 سنة، حيث اكتشف المغاربة سر اختفائه ومعاناته مع المرض. وبعد أن دفن في مقبرة الغفران وقف الجميع على سر صمت الرجل الذي تحمل عبء الألم.

Related posts

Top