في روايته “الشجعان”.. هشام ناجح يكسر بنية التاريخ التقليدي

صدرت للكاتب المغربي المقيم في فرنسا هشام ناجح رواية جديدة بعنوان: “الشجعان”، في 368 صفحة من الحجم المتوسط عن دار المركز الثقافي للكتاب. وهي رواية تكسر النمطية المعتادة في الكتابة عن التاريخ والمقاومة والشجاعة والفروسية ونظم الشعر الملحمي؛ الذي غالبا ما يقترن بالرجل، وببطولات الرجل، ويتم الاحتفاء به وتُنسب إليه كل الانتصارات. في حين تظل المرأة متوارية عن الأضواء رغم أدوارها المذهلة التي تلعبها جنباً إلى جنب مع الرجل. هذا ما تقوله لنا رواية “الشجعان” بجرأة ونحن نقرأ أولى صفحاتها.
والكاتب هشام ناجح، وهو يقدم لنا هذه الرواية الباذخة، لا يحاول إحراز انتصار لموقف أو مفهوم في فعل الكتابة الروائية التي تتناول التاريخ، بل ينحاز بشجاعة لموقف المبدع النزيه الوفي لحقيقته بصفته كاتبا متحررا من الأحكام المسبقة. وبهذه الصفة التي تتيحها الرواية بجمالية أخَّاذة، يتخفَّف الكاتب من الانحياز الأيديولوجي وسلفية التاريخ المتعارضة مع قناعاته المبنية أساسا على الإخلاص للكتابة والإبداع.
ثمة تفصيل آخر ينبغي أن نتمسك به ونحن نواصل الولوج بهدوء إلى أجواء الرواية، التي لا يمكن اعتبارها رواية تقتفي أثر مقاومة جابت سفوح جبال الأطلس وقممها وغياهب الغابات فحسب، وكان الفاعل فيها الرجل دائما وأبدا، بل هناك استطراد ينبغي العودة إليه بإصرار. إن الرواية تحتفي بالمرأة، وتفعل ذلك استجابة لواقع الحال، وتأريخا لشخصية حقيقية هي شخصية الشاعرة مباركة بنت حمو النيرية. وسيتعاظم دور هذه المرأة، والمرأة بشكل عام، في هذا العمل الروائي المرموق للكاتب هشام ناجح عندما نكتشف أن الحديث هنا يتعلق بفارسة وشاعرة، مارست فعل المقاومة إلى جانب شعبها في محاولات بطولية لوقف توغل الاستعمار الفرنسي داخل التراب المغربي. إنها الشاعرة مباركة بنت حمو النيرية صاحبة القصيدة الملحمية الشهيرة “الشجعان”، المرأة الحسناء التي تمتلك كاريزما القيادة والشجاعة وسداد الرأي وبعد النظر. هذه الشخصية المثيرة للإعجاب، بمواهبها، وببطولاتها في ساحات المعارك، وبتأثيرها القوي في الفرسان والفارسات بسبب زرع القوة وروح الإقدام في أنفسهم. إنها المرأة التي أُغرم بها المقاوم الفذ الشاعر “البوزيدي”؛ الذي شكَّل مع “مباركة بنت حمو” -أو “النيرية” نسبة إلى أشجار النير الصلبة- من خلال الكلمة الحادَّة المُلهمة، دافعاً وحافزاً للمقاومين وبعض المُتخاذلين، على حد سواء، لمواصلة المقاومة وعدم الاستسلام.
تنتحل الرواية بشكل عام صفة التاريخ، لتجتزئ منهُ خصيصة الحكي كي تُبرِّر روائية الرواية في الرواية. وبهذه المقاربة البارعة، يقدم لنا الكاتب هشام ناجح رواية مُشوِّقة تمتاح من تاريخ حقيقي بحسب رؤى المؤرخين، وفي الوقت نفسه، يجترح إبداعا روائيا يحاكي زمنا تاريخيا تماهى معه الكاتب هشام ناجح روائيا بلغة أنيقة وقوية ومتماسكة. كما استطاع بمهارة أن يُخضع الطابع الاجتماعي والسياسي لتلك الحقبة بكل الجزئيات الفاعلة التي تُقوِّي جانب التاريخ الواقعي، وكذا جانب التَّخييل الروائي الجمالي في الآن ذاته.
ونلاحظ كل هذا من خلال اشتغال الروائي هشام ناجح على ثيمات ومستويات متنوعة، توزعت على البلاط السلطاني والأعيان باعتبارهم يمثلون الحكم والسلطة بشكل أو بآخر، وزعماء القبائل بصفتهم قوى فاعلة ومؤثرة في المجتمع. ليصل بنا الكاتب إلى الشِّعر مُسخِّرا إياه مطيّة ومعطى أساسيا، من خلال شخصيّة الشاعرة النيرية الفارسة المغوارة، التي حاربت الاستعمار عمليا بالبندقية، وبالقصيدة في الوقت نفسه. كما أن الكاتب هشام ناجح أوجد شاعرا مقاوما مفترضا في الرواية، وبتصور منطقي، قد يكون هذا الفارس الشاعر حقيقيا، بغض النظر عن الاسم وفن الشعر، لأن الرواية تُصوِّر لنا شخصية البوزيدي بدقة وبمهارة تناسب مقام الشاعرة النيرية وحسنها وتمكنها في قول الشعر ونظمه.
وخلال عملية السرد الطافح بلغة عالية، ولكنها تستجيب بإخلاص للمرحلة التاريخية، نشتبك مع أحداث غاية في الجمال، بل ويسقطنا الكاتب، في كثير من المواقف المثيرة، لنتماهى تماما مع الأحداث، ونجد أنفسنا في خضم انفعالات يفرضها علينا النسق السلس المتدفق الذي كُتبت به الرواية. ولعل أول ما يثير انتباه القارئ هو الوثيقة العدلية التي يستهل بها الكاتب الرواية، وهي وثيقة مُتخيّلة. غير أن براعة الكاتب وقدرته المذهلة على تطويع اللغة، تجعلنا بصفتنا قراء نكاد نجزم حقا أن الوثيقة من الأرشيف الحقيقي لأحد عدول منطقة أربعاء الفقيه بنصالح. إن إذكاء هذا الاعتقاد في ذهن القارئ يَتأتَّى من خلال اللغة التي أجاد الكاتب هشام ناجح حبكها لتناسب لغة العدول الفقهية. كما أنه برع في تشكيل لغة الرواية ونحتها إجمالاً وزخرفتها وتطريزها تقليديا، وانتقاء مفرداتها وتكييفها مع لحظتها التاريخية على نحو مدهش.
وهنا ندرج بعضا من الوثيقة كمثال على ما نقول: “لما تكالبت الوقت، وضاقت الحيل والسبل بأهل المغرب الأقصى، استفحل داء الهوان على السلطانية الشريفية المغربية، واشتد الشقاق والنفاق بين السلطان عبد العزيز وأخيه عبد الحفيظ، وزاد الشنآن بين أبناء الحسن دون استثناء. ولم تعد مراكش وفاس على هبة من أمرهما، القائم على البيعة والإمارة، ومقاصد العروة الوثقى. فاجتاحت السيبة معظم السلطانية، وساءت أحوال البلاد والعباد، واختلط أمر الخاص والعام، وتدهورت أحوال البلد. ولم يعد الزطاط والمزراك وتاكمات بتلك القوة التي تؤمنها للقبائل والقوافل والركبان، فكانت الفرص مواتية للفرنسيس النصارى ليتولوا شؤون العباد بعد أن عقدوا مع بعض الأعيان مواثيق تصون الود، وتنآى عن الرد”. إلى أن نقرأ في آخر الوثيقة: “والعجب العجاب أن امرأة لينة العود، كريمة المنشأ، تدعى “مباركة النيرية” من حرائر ولاد البهيش – عجزت النساء على ما أصابهن من العقم أن تلدن مثلها – هي من قومت الحَرْكات، وأشعلت نار الجهاد؛ إنها فارسة نظّامة، تلقي بكلام يشيب له الغراب، ويفنى له التراب، ويشد العزائم، ويسمو بالهمم، ويخرس المماري الأفاك المشاء بنميم. ومن تخلف عن حَرْكتها، سيموت كمدا وغيظا حالما يتم لطم حصانه بالحناء بسطلها الدائم، المعقود، على خرصة سرج حصانها حجر الواد كأمائر الإثبات، لا سلّطها الله على الساهي والهاذي، والوَسِن الهَجِع، والمتخاذل الكُتَع. والحصان الملطوم يعد من الرزايا الجسام، ولا ديّة له في عرف الأقوام، والذي نفسي بيده، كان الفارس الجبار والحاذق الميّار، يمعن النظر ويطيل البصر، حتى يسلم ويسلك من سيول الحناء المسطورة على المطايا، والمنقوعة بالدنايا البهمى والتصغير والتّشفّي بالهزء الأدنى.
وخير الختم بعد الصلاة والتسليم على خير الورى محمد بن عبد الله النبي الأمي، الاستئناس بقصيدة لالة مباركة بنت حمو البهيشية والمسكوكة باسم “الشجعان”:
بسم الله باش بدينا
وراه على النبي صلينا
راهه الرباعة سارت لله
فين عركابن النوضات؟
فين صهصالين العلفات؟
آش قال العتابي لخوتو؟”
وفي مستوى آخر، يؤثث هشام ناجح عمله الروائي بوقفات شعرية بارعة كما رأينا، واستطاع أن يتماهى تماما في نظم شعر لشاعر مُتخيل، بمقومات تلك الحقبة التاريخية ولغتها. وعند قراءة شعر البوزيدي الذي ليس في الواقع إلا من نظم الكاتب نفسه، نقف على التمكن والموهبة المثيرة للاهتمام التي برع فيها الكاتب في نظم شعر زجلي لا أحد بمقدوره أن ينكر قيمته الفنية العالية:
فين أيامك يا بن لمفضل
رجلة وسخاوة والزعامة تلالي
عودك مجدولو حرير والمشية بالعقل
مزّينك بركبة والوركة حداك تشالي
دوزها شيباني بوعروة
جْمّاع، والصينية والبراد جوج والنخوة
إلا ناض يهرب لعدو حتى لتاونزة
الله الله ألوالي سيدي ميمون
بيتها عند الظالم لا عند المغبون.
وكما هو واضح، فالقارئ لن يتوقف عند الوثيقة العدلية بإعجاب فحسب، بل سيندهش عندما يجد نفسه أمام هذه المقتطفات الشِّعرية، التي ينبغي النظر إليها روائيا، من نظم البوزيدي الشخصية الفاعلة في الأحداث والعاشق للنيرية. غير أن هذا الشعر البديع كما قلنا هو من نظم الكاتب نفسه، وبهذا نجد أنفسنا بصفتنا قراء أمام عمل متكامل، عمل اشتغل عليه الكاتب هشام ناجح من جميع الجوانب.
وليس مستغربا أن تبهرنا الرواية، وأن تعطينا فكرة أكثر عمقا عن تاريخ المنطقة، وتاريخ المغرب في تلك الفترة. وليس من المصادفة قطعا أن يأخذ الكاتب على عاتقه بذل كل هذا الجهد على سبيل الاستعراض، بل استعان بالشعر والشاعر ذريعةً فنية استدعتها الحاجَة والضرورة الروائية، لأجل إيجاد ند للنيرية الشاعرة الفارسة المغوارة، وتَمثَّل هذا الند في شخصية البوزيدي الذي لا يقل شأنا في الشجاعة والإقدام ونظم الشعر عن الشاعرة مباركة بنت حمو النيرية. وبهذه الطريقة يحقق الكاتب هشام ناجح التوازن في روايته، التي كتبها بهوية سردية مثقلة بالتاريخ، بحيث التقط اللحظة التاريخية واشتغل عليها بنَفَس ملحمي، بدا واضحا من خلال اللغة والأحداث ونظم الشعر وبناء الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في مجريات السرد داخل الرواية.
يجب التنبيه إلى أن رواية “الشجعان” لا تعيد كتابة التاريخ من جديد، ولكنها تلامس أهم أحداثه، بل تقترب من التاريخ للدرجة التي تصبح فيها الرواية شبه كتاب للتاريخ. لكن براعة الكاتب تتجلى في المقاربة التي تعكس كتابة تاريخية بنَفَس رواية مستقلة تماما عن التاريخ. ونجد ملامح هذه المزاوجة واضحة في بِنْيَة رواية “الشجعان”، بِنْيَة تقبض على توثيق الحدث التاريخي بشموليته الكاملة، بدون التفريط في شكل الرواية الفني، ولا في استدعاء التاريخ حَرْفيا إلى أجواء الرواية.
وبهذه الكيفية يُحقق الكاتب هشام ناجح المعادلة الصعبة في كتابة الرواية التاريخية، وِفق رؤية إبداعية تُوازِن بين الدرس التاريخي باعتباره مادة لا تشتبك على نحو مباشر مع الأدب، كما أسلفنا، ومن جهة أخرى، في التعاطي مع فن الرواية باعتبارها جنسا أدبيا يتفاعل مع التاريخ حتى في لحظة الوقائع اليومية البسيطة، التي تظل دوما تاريخا، بما في ذلك الحالات التي قد تبدو فيها بعيدة عن الاحتكاك بالتاريخ التقليدي المتعارف عليه.
وفي ظل التَّفوُّق الجمالي الذي تفرضهُ الرواية، لا ينبغي أن نستغرب التداخل المؤسِّس لفعل التخييل والتأريخ بوصفهما أدوات فاعلة بقوة في رواية “الشجعان”. وهنا يجب أن ننتبه إلى أن التاريخ لطالما رمَّم الكثير من الثغرات، أو المناطق المظلمة في تركيبته باستدعاء فن التخييل، لإتمام دورة التاريخ الناقص دوما لولا التّدخُّل الحاسم للتخييل. والشأن نفسه في تعامل الرواية مع التاريخ، لأن الرواية حتى وهي تحرص أشد الحرص على تعزيز الحضور الواقعي للتاريخ في الرواية، إلا أنها، وفي ظل الخصاص المحتوم، تلجأ إلى التخييل لنسج رواية تاريخية بخيط ناظم يظل وفيا للرواية، بالقدر نفسه الذي تظل فيه الرواية وفية للتاريخ.
وباستعراض هذه المعطيات يمكننا أن نؤكد على الالتزام الحتمي للروائي هشام ناجح في اقترافه فعل هدم مؤسسة التاريخ التقليدي، لأجل تشييد مشروع رواية تاريخية تجديدية تخلص للرواية بالقدر نفسه الذي تخلص به للتاريخ في عملية تكامل وتناغم وتفاعل يخدم النص الروائي، ويمنحه بعدا جماليا يُجسّد روح الرواية التاريخية بمعناها الاصطلاحي الشامل، بما في ذلك العناصر المُكمِّلة الأخرى.
ولعل أكثر شيء يثير الانتباه في كتابة الرواية التاريخية هو أن كل شيء فيها متحول ومتحرك وقابل للانتفاض على نفسه ووضعه ومساره، باستثناء المكان والزمان اللذين يظلان محورا ثابتا لا يمكن تحويله إلاّ ضمن رقعة محسوبة بدقة سلفا، ويمكن البناء على هذه الرقعة الزمكانية لتحرير النص من الجمود أو الضياع في تيه قد يُجرِّد التاريخ من أهم الثوابت التي يتأسس عليها وهو يلج عوالم الرواية.
ومن هذا المنطلق نكتشف، ونحن نقرأ رواية “الشجعان” للكاتب هشام ناجح، التقاطع الهندسي المثير للإعجاب في الأمكنة والأزمنة، واستحضار المواقع التي شهدتها الأحداث، بما في ذلك البلاط السلطاني، ومقر إقامة ليوطي المقيم العام الفرنسي في تلك الفترة الحاسمة المُتَّسمة بعدم الثقة، والمواجهة السياسية والعسكرية الصريحة بين الشعب المغربي والمحتل الفرنسي. كما تتناول الرواية، بمهارة عالية، تاريخ تلك الفترة بتفاصيلها الدقيقة المثيرة، بحيث تحيط بأحوال البلاد السياسية والاجتماعية، ولا تغفل شخوصاً أثثت الرواية ومنحتها أبعادا غاية في الأهمية والعمق، على غرار الكولونيل مانجان، وقبائل بني ملال وواد زم، وشخصية القائد بوزكري، العين الغادرة التي دعَّمت المُستعمر، وشكلت الفئة الخائنة التي لا يخلو منها أي بلد في الوضعية التي قامت عليها إحدى الركائز الأساسية لهذه الرواية.
رواية “الشجعان” في المجمل هي مزيج من معارك ضارية، وروح متحفزة للدفاع عن الوطن وعن ثوابت الأمة المغربية. وضمن كل هذه التمظهرات في الرواية، نرى الحب، والخيانة، والانتصار، والهزيمة، ونرى الدم. لكننا نرى، بالأساس، شموخ شعب لا يرضخ، ومقاومين يستشهدون، وامرأة فارسة تمنح كل شيء للدفاع عن وطنها. لكن قلبها يظل ينبض بالحب، وتظل تردد الشعر، وتُشهر، بصوت أزلي، قصيدة: “الشجعان”، التي ستتحول منذئذ إلى ملحمة شعبية مغربية يرددها الجميع باعتبارها نشيدا خالدا يتغنى بالحرية والحياة.

 بقلم: مصطفى الحمداوي

Top