تعززت المكتبة التاريخية المغربية هذه الأيام بكتاب جديد للدكتور “مولود عشاق”، موسوم بعنوان “إنفاق الميسور في تاريخ منطقة زمور، طوبونيما – آثار – تاريخ – أعلام”، وهو كتاب ينضاف إلى قائمة الكتب التي ألفها الدكتور منذ أن رمى به حب التاريخ في غياهب التأليف والبحث لما يربو عن عقدين ونيف من الزمن، وعلى امتداد هذا المسار الطويل كان العطاء غزيرا مدرارا، وهذا الكتاب موضوع الدارسة لن يكون إلا حلقة في هذا المسار، من المؤكد أنه ستتلوه حلقات أخرى في المستقبل المنظور. فالباحث في التاريخ كمن يمتح من معين كلما اغترف منه غرفة أو غرفتين ازداد عطشا وظمأ، ويريد المزيد للارتواء وإشفاء الغليل.
قبل الخوض في مضمون الكتاب وتفاصيله، أريد في البداية أن أسلط شيئا من الأضواء على عنوانه الذي استوقفني وشد انتباهي حقيقة، وأثارتني صياغته وبلاغته مما حدا بي إلى طرح السؤال حول ما الذي جعل الدكتور مولود عشاق يسلك هذه المرة وعلى غير العادة هذا المسلك في صياغة عنوان الكتاب الذي أومأنا إليه سالفا وعلى تلك الشاكلة المسجوعة؟ فقراءة أولية لهذا العنوان توحي إليك أنك في محراب الكتب التاريخية الكلاسيكية، التي تعتبر من أمهات الكتب التاريخية، ومن أكبر المصادر التي ينهل منها كل دارس وباحث في التاريخ عامة، والتي يمكن أن نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب” أو “الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب” وقس على ذلك، وهذا ما قد يعطي الانطباع بدون شك أن “الدكتور” من خلال ذلك يروم إيجاد مكان أو حيز لكتابه بين هذه الكتب، خاصة وأن كتابه في الحقيقة وإن كانت تطغى عليه المحلية باعتباره يناقش ويكشف تاريخ منطقة من مناطق المغرب وهي “منطقة زمور” وحسب، والذي يبدو أن الدكتور، هذه المرة، قد حفر عميقا في تاريخها البعيد والقريب، وأحاط بالعديد من الأحداث والوقائع والحفريات والأعلام التي كانت هذه المنطقة مسرحا لها، لم يكن قد تطرق إليها في كتبه السابقة التي عنت بتاريخ المنطقة، فرغم كل ذلك نستطيع القول أو الحكم بمعايير الكتابة التاريخية المحلية أو الجهوية على أن الكتاب فيه ما يجعله يرقى إلى مصاف تلك الكتب التاريخية الكبرى ذات النفس التاريخي العميق والرصين.
ينطوي عنوان كتاب الدكتور مولود عشاق، “إنفاق الميسور في تاريخ منطقة زمور” على دلالات كثيرة، لكن في هذا المقام سنكتفي بدلالتين أساسيتين فقط وهما، الدلالة اللغوية والدلالة التاريخية.
فأما من حيث الدلالة اللغوية فإن العنوان يمكن تقسيمه إلى قسمين: “الإنفاق” و”الميسور”، فالإنفاق في اعتقادي هنا لا يوحي كما قد يتبادر إلى الأذهان بالإنفاق المادي أو العطاء بسخاء أو شيء من هذا القبيل، فالإنفاق هنا يدل على أبعد من ذلك، وهو الاهتمام وإعادة الاعتبار ورفع التهميش وإيضاء العتمات وتنوير القارئ وإزالة الشوائب وكشف الحقائق حيال شيء ما، قد يكون شخصا أو شخصية لها وزن أو اعتبار أو لها رمزية خاصة، أو منطقة أو تاريخا وقس على ذلك، والأمر هنا بدون منازع هو تاريخ “منطقة زمور”، التي يبدو أن صاحب الكتاب يغدق عليها بالاهتمام الكبير وينذر لها وقتا وجهدا كبيرين للنبش في ذاكرتها التاريخية الحافلة والغنية، رغم الصعوبات والمشاق التي تعترضه في ذلك.
أما كلمة “الميسور” فهي تحيل على “اليسر”، الذي لا يعني السهولة في هذا السياق، بل الذي يحيل على الغنى والثراء والخصوبة والتعدد، فمن جهة يمكن اعتبار “اليسر” مرتبطا بالإنفاق الذي أتينا على شرحه، ومن جهة أخرى يمكن فصله عن “الإنفاق” ليصبح صفة عوض أن يكون مضافا، بمعنى أن “اليسر” يدل على الغنى والثراء الذي تتميز به منطقة زمور موضوع الكتاب، هذا الغنى الذي قد يشمل كل ما هو طوبونيمي حيث كثرة الأمكنة الحاضنة للقبائل التي تشكل العصب الحي للنظام الاجتماعي لمنطقة زمور، أو الغنى من حيث الأحداث التاريخية التي شاهدتها على مر العصور وبشكل خاص عندما دخل إليها المستعمر، ومقاومة قبائل زمور له الشيء الذي زاد من شهرة المنطقة على الصعيد الوطني نتيجة ما قدمته من تضحيات جسيمة بهذا الخصوص، أو الغنى على المستوى البشري وخصوصيته حيث تزخر منطقة زمور بثروة بشرية هائلة منذ القدم والتي تشبثت بهذه الأرض رغم توالي بعض الظروف القاسية التي صعبت الاستقرار عليها، لكن الإنسان الزموري استطاع تجاوز كل المحن والمكوث على أرضه ولم يهجرها، أو الغنى على مستوى الآثار والحفريات التي تكتنزها المنطقة والتي تدل على أن المنطقة كانت فضاء رحبا لتعاقب الحضارات والشعوب عليها التي تركت آثارا كثيرة خلفها، أو الغنى على مستوى الأعلام والشخصيات البارزة التي بصمت تاريخ المنطقة على مستويات عدة سواء الذين رحلوا أو الذين لا زالوا على قيد الحياة. وهكذا نخلص إلى أن كتاب الدكتور مولود عشاق، بدون شك، سيتضمن بين دفتيه كثيراً من المفاجآت وكثيرا من المعطيات والمعلومات والحقائق التاريخية الجديدة حول منطقة زمور، كما سنرى، خاصة وأن هذا الكتاب أخذ من صاحبه وقتا طويلا في البحث والتحري والاستقصاء، حتى يقدم لنا مادة تاريخية دسمة تغري بالقراءة وتغني الخزانة التاريخية المحلية والمغربية.
يضم كتاب الدكتور مولود عشاق “إنفاق الميسور في تاريخ منطقة زمور” مقدمتين وستة مباحث رئيسية، فأما المقدمة الأولى فهي من توقيع الدكتور محمد الغرايب، تحدث فيها بشكل عام حول المجهودات الحثيثة التي لطالما يبذلها الدكتور من أجل إخراج تاريخ منطقة زمور إلى الوجود والتعريف به والانتفاع به في الدراسات والبحوث، أما الثانية فهي من إمضاء صاحب الكتاب الذي دائما لا يخفي رغبته الملحة في إعادة الاعتبار لهذه المنطقة التي يسكنها وتسكنه، وانتشال تاريخها الممتد عبر الزمن من تحت أنقاض النسيان واللامبالاة، رغم الصعوبات الجمة التي تعترضه في ذلك لأسباب كثيرة، منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو موضوعي.
لقد خصص الدكتور عشاق المبحث الأول للحديث عن “طوبونيما منطقة زمور”، فبعد أن أتى الكاتب على الأهمية التي صارت تكتسيها الطوبونيما في الكتابة التاريخية المعاصرة، انتقل إلى رصد كل أسماء المدن والقرى والأماكن والشخصيات التاريخية التي توجد في المنطقة، وحتى أسماء بعض الأنهار والأودية التي تخترق مجالها الجغرافي ككل، ولقد استقرأ الدكتور في ذلك وثائق تاريخية عديدة، واستطلع روايات شفهية من مشارب شتى للوصول الى أصل كل كلمة أو اسم على حدة، توخيا للدقة والموضوعية والإنصاف، ليمر الأستاذ إلى المبحث الثاني الذي يتمحور حول “زمور وأصل التسمية”، وبعد استجلاء عدد لا يستهان به من الروايات والآراء الكثيرة بهذا الخصوص، والتي محصها الكاتب تمحيصا دقيقا ليفرز الغث من السمين فيها، وكذا القريب من الصواب والمتحامل فيها، خلص الباحث في نهاية المطاف أن أصل كلمة “زمور” وجذرها اللغوي هو أصل “طوبونيمي” بدون شك وهي شجرة “الزيتون البري” الذي يسمى بـ “أزمور” بالأمازيغية، هذه الشجرة المنتشرة بكثرة في المنطقة والتي تتميز بالمتانة والصلابة شأنها في ذلك شأن أهل المنطقة. ليمر الدكتور في مبحثه الثالث لسرد كل القبائل والتجمعات السكنية التي تشكل فسيفساء اتحادية زمور، وهو لم يمر عليها مرور الكرام بالإشارة والذكر وحسب، بل بذل الدكتور مجهودا مضنيا حتى يشرح للقارئ أصول التسميات والانتماء الجينالوجي والموقع الجغرافي.
أما المبحث الرابع فخصصه الدكتور عشاق للمواقع الأثرية التي تزخر بها منطقة زمور، وهي كثيرة ومتنوعة منها: “مواقع وقرى وقناطر ولقى ودياروقصبات” وهلم جرى، تلك التي تم اكتشافها إلى حدود الساعة، على اعتبار أنه من المحتمل جدا أن يتم اكتشاف آثار أخرى في المنطقة مستقبلا، ولقد أتى الدكتور على ذكرها كاملة تقريبا دون أن يغفل تحديد إحداثيات كل أثر، وسياقه التاريخي، بل وحتى التأريخ الدقيق لبعضها..
أما فيما يتعلق بالمبحث الخامس الذي أفرده الأستاذ عشاق للمسارات والعلاقات السياسية لاتحادية “زمور”، هذا المبحث في حد ذاته في نظري يمكن أن يشكل لوحده كتابا مستقلا لكونه غنيا بالأحداث ويغوص في مراحل زمنية كثيرة على امتداد قرون عدة، فالبداية مع الأوضاع السياسية التي عاشتها المنطقة بالتزامن مع الوجود الروماني بالمغرب وكيف تعامل سكانها مع هذا الوجود؟ وكيف تم كبح جماح كل أطماع تلك القوى الخارجية؟ ثم علاقتها السياسية بعد ذلك مع كل الدول التي بسطت سيطرتها على المغرب انطلاقا من الأدارسة فالمرابطين ثم الموحدين مرورا بالسعديين، وصولا إلى حكم الدولة العلوية، ليخلص الكاتب في النهاية إلى خلاصة مفادها أن العلاقة السياسية التي كانت تربط “قبائل منطقة زمور” بكل السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب لم تكن مستقرة على الدوام، ولم يكن حبل الود قائما بينهما كما ينبغي، فتارة يسود الرضى بينهما وتارة يسود التمرد والعصيان والتوتر، مما يجعل المنطقة دائما عرضة لهجمات وحركات مسلحة من طرف المخزن لفرض الولاء والطاعة، وإعادة الأمور إلى نصابها، وهذه العلاقة كما وصفناها تعكس شيئا واحدا وهو أن قبائل زمور كان لها وزن سياسي ولا تستسلم ولا ترضخ ولا يمكن استئصال شأفتها بسهولة، وما يفسر ذلك هو عدد الحركات التي شنها المخزن الرسمي على امتداد سنوات عليها والتي تربو عن عشرة كما ذكر الباحث، هذا ولم يفت الدكتور عشاق في نفس المبحث أن يرصد بعض المشاكل والقلاقل والاضطرابات والصراعات التي تعرفها القبائل والتجمعات الزمورية فيما بينها لأسباب مختلفة، والتي أدت في بعض الأحيان إلى التحارب والاقتتال وتهجير قبائل أو أشخاص بعينهم، وغالبا ما يتدخل كبار القوم والقياد وإن اقتضى الامر تتدخل السلطات المركزية لفض النزاعات، ولاستتباب الأمن والاستقرار والقضاء على كل النعرات والنزاعات..
وفي الختام خصص الدكتور عشاق مبحثه السادس لـ “تراجم أعلام زمور”، حيث قام بجرد كبير لأهم الأسماء والأعلام والشخصيات الذين أنتجتهم المنطقة وترعرعوا بين أحضانها، وتركوا بصمات واضحة في التاريخ الزموري خاصة والوطني عامة في مجالات مختلفة سواء في المجال السياسي أو الفكري أو الثقافي أو العسكري، ومنهم من تقلد مناصب كبيرة في قطاعات مهمة في الدولة، سواء منهم الذين قضوا نحبهم أو الذين لا زالوا على قيد الحياة.
بقلم: ذ. بنعيسى يوسفي