قراءة لمسرحية “في حضرة الشيخ قوقل” لكريم الفحل الشرقاوي

وأنا آخذ بناصية النص الدرامي “في حضرة الشيخ القوقل” للمبدع المسرحي كريم الفحل الشرقاوي، كانت صورة الفنان والمبدع المؤسطر للكتابة الدرامية تتشكل تلقائيا. حيث حاول المؤلف من خلال تيمة فنتازية عجائبية تخييلية القذف ببطله الإشكالي في دوامة الإعصار العولمي والاجتياح المعلوماتي الرهيب الذي ابتلع الإنسان المعاصر واختزل ذاته ومعارفه ووجدانه وأحلامه وعلاقاته التواصلية والحميمية في مجرد نقرات ووخزات على الشاشات… لذلك سيعمد الكاتب إلى التقاط محرك البحث غوغل الشهير من خلال رؤية فنتازية تقارب الاجتياح الرهيب للزمن الرقمي على حساب أفول الزمن الورقي موظفا بشكل غرائبي غروتيسكي ساخر شخصية الشيخ القوقل (غوغل / google) الذي سيسعى بعد انقراض الكتب وكل المنشورات الورقية إلى محاولة إبرام عقد احتكاري مع آخر بائع للكتب في كل الأزمنة من خلال محاولة إقناعه بالقبوع صحبة كتب ومجلدات آبائه وأجداده داخل بيت زجاجي بمتحف غوغل العظيم ليصبح مزارا خالدا لزوار المتحف سواء في حياته أو بعد مماته من خلال تحنيط جثته داخل مقامه بالمتحف الرقمي الغوغلي.
وقد صاغ الكاتب ذات النص في معالجتين مختلفتين تماماً: معالجة أولى وهي عبارة عن مونودراما فنتازية ساخرة ترتهن بشخصيته مركزية محورية هي “مسرور” بن عاشور الكتبي بن دهشور المطبعي بن منشور الناشر بن شحرور الخطاط بن بعرور الناسخ بن قنطرور الوراق بن الفهرستاني الكبير. وشخصية مفترضة هي شخصية الشيخ القوقل / غوغل شيخ شيوخ العارفين أجمعين كما ينعته الكاتب في نصه. ومعالجة ثانية في صيغة نص درامي بأربع الشخصيات وهي: مسرور، الشيخ قوقل، شبشوبة المسعورة، الضابط العبوس، وشخصيات صوتية فقط كمولانا قعبور الوقور، وعبد الجبار الجزار الذي يتاجر في لحوم الكلاب والحمير والبغال المريضة.
يرصد مضمون المتن الدرامي شخصية مسرور الكُتبي آخر الكتبيين أجمعين، الذي يقيم في بيت معتم جدرانه المائلة عبارة عن رفوف محفورة تزدحم جنباتها بالكتب التي ورثها عن أبيه عاشور الكتبي الذي ورثها بدوره عن آبائه وأجداده. ورغم اختفاء الكتب وانمحاء الزمن الورقي وهيمنة التكنولوجيا الرقمية على كل المجالات العامة والخاصة والحميمية.. فإن مسرور الكتبي يظل متشبثا بالمهنة البائدة لوالده المدعو “عاشور بن دهشور” بائع الكتب المستعملة الذي “كان قبلة لمريدي الكتب النفيسة.. ومزارا لعاشقي المجلدات والمصنفات العتيقة.. لقد كان والدنا رضي الله عنه وأرضاه كتبيا جامعا مانعا ومفهرسا ساطعا لامعا… يكفي أن تلقي على مسامعه بعنوان الكتاب حتى يسحبه سحبا من بين أطنان الكتب المكدسة في دكانه تماما كالساحر الحاذق الأنيق الرشيق الذي يفرج فجأة عن أرنب من تحت قبعته السوداء.. لهذا كان زبناؤه وجلساؤه يلقبونه بالفهرستاني..”. وسوف تتطور الحبكة المسرحية في اتجاه التعقيد حين تكتسح العالم شريحة صغيرة “شريحة كشفرة الحلاقة لكنها تملك قوى سحرية خارقة، وذاكرة أسطورية ما فتئت تبتلع وتلتهم كل المنشورات الورقية وكل الكتب المقدسة والمدنسة منذ آدم الأول إلى آدم الذي لم يولد بعد..”. وهو الأمر الذي سيفجر نقمة عاشور الفهرستاني والد الكتبي مسرور الذي سيصرخ في وجه العالم والناس: “هزلت يا ناس.. لقد صار قارئ الحاسوب يتحسس مؤخرة الفأرة قبل أن يقرأ مقدمة ابن خلدون.. القراءة صارت مرهونة بتحسس مؤخرات الفئران… والله إنها لمن علامات الساعة…”. غير أن الأمور ستزداد تعقيدا حين يفاجأ مسرور بقرار المحكمة القاضي بتنفيذ حكم إفراغ دكان أبيه بعد أن بارت تجارة الكتب وعجزه عن أداء سومة كراء الدكان: “لقد تم اجتثاثي مني ومن ذاكرتي.. لقد تم اقتلاعي من جذوري ومن كينونتي… لأتحول تدريجيا إلى كائن رصيفي.. أنشر كتبي على الرصيف.. وأعتصم طول النهار بحبل الرصيف.. وأرحل من رصيف إلى رصيف… وما كان يؤنسني ويثلج صدري هو التفاف الناس حولي لأخذ صور سيلفي مع شخصي المنقرض…”؛ إلا أن “مسرور” سيتعرض لمصادرة كتبه البائدة المعروضة على الرصيف بتهمة احتلال الملك العمومي.
ومع تفاعل عملية البوح والحوار والجدل بينه وبين الشيخ القوقل سيوجه “مسرور” إلى هذا الأخير وإلى كل شركائه في السوق العولمية الرقمية الشرسة خطاب الإدانة: “أيها الناس.. إن سبب مصائبي وغربتي واغترابي هو هذا الشيخ القوقل.. طبعا غوغل.. لأنه غول.. متغول.. ومتغلغل في كل شيء.. وأي شيء… إنه المُصادر الأول لكل المصادر والمناهل والمراجع.. والمبتلع الأكبر لكل المخطوطات والمطبوعات والمجلدات والمصنفات.. إنه الملتهم الأشرس لكل المعارف والعلوم والفلسفات والنظريات والاكتشافات والاختراعات.. إنه ثقب أسود رهيب.. يريد أن يبتلع كل ما دوَّنه الجنس البشري منذ آدم الأول إلى آدم الذي لم يولد بعد.. وأنا واحد من ضحاياه.. واحد ممن شفطته بلوعة هذا الثقب الأسود السحيق.” وسوف تبلغ الأحداث ذروة التعقيد حين سينبعث صوت الشيخ قوقل لأول مرة مخاطباً مسرور: “مسرور، يا خاتم الكتبيين أجمعين.. سنبرم معك عقدا احتكاريا أبديا”. لقد تبين لمسرور أن محرك البحث الشهير غوغل يريد أن يبرم معه عقدا احتكاريا أبديا بوضع آخر بائع للكتب داخل قفص زجاجي طول حياته ليصبح فرجة خالدة لزوار متحف غوغل العظيم. بل وسيمتد العقد إلى ما بعد وفاته من خلال تحنيط جثته حتى يظل مزارا أبديا للأجيال المتعاقبة كدليل أزلي على انتصار الزمن الرقمي وهزيمة الزمن الورقي الذي تحول إلى جثة محنطة بشكل فرجوي. لذلك سيرفع مسرور التحدي الأخير أمام الشيخ القوقل الذي يشكل رمز وأيقونة الهيمنة الرقمية المتجبرة وسيعلن عن انتحاره العلني والفضائحي والفرجوي أمام شاشة اليوتوب فداء لكل الكتب المقدسة والمدنسة “أيها الناس لقد قررتُ أن تكون نهايتي العلنية، ويصبح رحيلي الفضائحي… نصبا تذكاريا فجائعيا للزمن الورقي الآيل للمحو والانمحاء… الآيل للموت والغياب”.
من حيث الزمان لم يكلف المؤلف نفسه عناء تحديد حيز زمني معين، ليقينه بأن الزمن الفنتازي منفلت وغير قابل للإمساك به. وفي المقابل حرص المؤلف على رسم معالم المكان بدقة متناهية، والإشارة إلى أركانه ومكوناته مرات عديدة. وفي ذلك إحالة على حالة العزلة والحصار النفسي… لذلك حفل خطاب “مسرور” بحمولات جردت الكائن البشري من إنسانيته، وأحالته إلى محض مخلوق يقرر مصيره هذا الاجتياح الرقمي المعلوماتي الرهيب.
لقد خاض كريم الفحل الشرقاوي تجربة رائدة في الكتابة الدرامية، تنضاف إلى رصيده الإبداعي اللامع. فالصيغتان المختلفتان اللتان اعتمدهما في كتابة نص واحد تؤكد أن الأمر يتعلق بنهج أسلوب غير مألوف في بناء النصوص المسرحية والدرامية. فقد شيد معماره الدرامي استناداً إلى أربع بنيات مؤسِّسة: البنية الملحمية، والبنية العبثية، والبنية الكوميدية الدامعة والبنية التجريبية.

البنية الملحمية:

يتعلق الأمر بصورة كاريكاتورية للعلاقات الفاقدة للحميمية بين الإنسان وذاته، وتتضمن سخرية لاذعة وإدانة وصرخة احتجاج إلى ما سيؤول إليه مصير الإنسان المتمثل في التحنيط المنتظر. وكانت وسيلته في تبليغ رسالته التقنية الملحمية لما لها من قدرة وقوة في التأثير والتنوير. فقد ارتقى المكان المسرحي إلى شخصية مسرحية فاعلة مؤثرة في صناعة الأحداث والتأثير في مجراها. واستمد فاعليته من توظيفه الذي اتخذ صيغة تغريبية تجبر المتلقي على إدراك دلالته بما لا يعكسه الواقع. والمتلقي في المسرح المعاصر يستجيب للعرض المسرحي الملحمي بالمفهوم البرشتي بناء على فكرة مؤداها أن المتفرج يتقبل الواقع إذا عُرض عليه في قالب غريب ومتغير، لأن استعداده الذهني يولد طاقة تَقَبُّلٍ قصوى قادرة على الاستجابة للأنساق البصرية السمعية التغريبية. وهو ما جسده مكبر الصوت الذي وظفه الكاتب كشخصية دالة على النكوصية والفساد والقهر الاجتماعي. حيث كان مكبر الصوت يقتحم بين الفينة والأخرى نافذة القبو مجسدا مديرا لحملة انتخابية أو داعية متطرف أو يظهر على شكل بلوعة ضخمة تمتص دماء المسحوقين.
النزعة العبثية:

تتمثل بكل جلاء في كون مسرور في المعالجتين يعيش عزلة وجودية، ولا أمل له في استعادة علاقته الحميمية مع شبشوبة التي انتهى بها الأمر راقصة في الملاهي. حيث لم تعد تربطه أية صلة تذكر بالآخرين. على المستوى الدلالي تعكس الأحداث عبثية مسرور في رؤية العالم؛ فلا جدوى للمعنى في حياته التي تفتقد المعنى. بعد أن زعزع الاجتياح التكنولوجي الرقمي الرهيب استقراره النفسي والاجتماعي وخلق تصدعات وانفصامات وجودية في علاقته بذاته ووجدانه وذاكرته وهويته.

الكوميديا الدامعة:

حين سعى المؤلف كريم الفحل الشرقاوي إلى فكرة رسم معالم شخصية مسرور، وجد ضالته في اسمه ذي الطابع الكاريكاتوري. فهو يحيل على هويته الاجتماعية، والنفسية، والعاطفية، والوجدانية: مسرور بن دهشور بن منشور بن بعرور بن قنطور. أسماء على صيغة اسم مفعول، مما يوحي بأنها شخصية محبطة لكنها مع ذلك تختار السخرية اللاذعة كأسلوب للترافع والتدافع، وهو الأسلوب الذي ينتهجه المؤلف في جل نصوصه وأعماله المسرحية. إننا بصدد ما يجوز أن نصطلح عليه بـ “الكوميديا الدامعة” التي “يصبح فيها المهرج المسحوق تحت وطأة وجوده بفعل قوى ميتافيزيقية أو اجتماعية هو البطل الذي يبث فينا الإحساس بالمأساة. ولم نعد نشعر، كما في الماضي أن أبطال التراجيديا أشباه آلهة، ولا أنهم أعلى منا مستوى، بل أصبحنا نشعر بهم مثلنا أو دوننا، فنزداد توحداً معهم”(4).

البنية التجريبية:

يتمثل التجريب في الخروج على النمطية المبتذلة التي تعتمد في المقام الأول على رسم معالم الشخصية المسرحية في قالب واقعي، مثالي. وتعتمد على تأثيث الفضاء بالثابت من الإكسسوارات، وهي تقنيات لم تعد تُلبي انتظارات المتلقي الذي انخرط في ثقافة العلامة البصرية. “فحين يستغرق العالِمُ في بحوثه التجريبية واستنباطاته واستقراءاته المنطقية، فإن الفنان يحلق في الخيال الأسطوري، ذلك أن حاجاته الداخلية أقوى من أن يشبعها في الحياة الواقعية، وقد رأى سيجموند فرويد أن الرسوم تمثل الرموز البدائية والكوابيس الذاتية المدفونة في الأعماق. وفي ذلك قول الفنان جان كوكتو: “إن الفن والشعر ينطلقان عند نقطة حيرة الفيلسوف والباحث الأكاديمي، ثم ينشط العلم ليشرح مكتشفاتهما.”(5)، وهو ما سعى إليه ببراعة ومهارة المؤلف كريم الفحل الشرقاوي حين اعتمد الخيال الأسطوري والفنتازي والغروتيسكي للغوص في عوالم اللاوعي الجمعي.

هوامش:

1- مصطفى الرزاز، الأسطورة في الفن الحديث، مجلة عالم الفكر الكويتية، العدد4، المجلد40، السنة2012، ص149
2- محمد السيد محمد عبد الغني، نظرة الأثينيين إلى الأسطورة، مجلة عالم الفكر- الكويت، العدد4، المجلد40، السنة2012، ص7 .
3- مصطفى الرزاز، الأسطورة في الفن الحديث، مرجع سابق، ص145
4- رياض عصمت، البطل التراجيدي في المسرح العالمي، وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق-2011، ص9
5- مصطفى الرزاز، الأسطورة في الفن الحديث، مرجع سابق.

< بقلم: د. عبد الرحمن بن إبراهيم

Related posts

Top