قراءة نسقية لـ “رحلة فتاة سودانية إلى الصين”3/1

“أَحْتَكُّ بجُدران الغرفة.. كأن الغربة يا قاتلتي جُرْبٌ في جسدي”(مظفر النواب)

أما قبْل
المرأة والسفرفي كتابة السفر بصيغة المؤنث، هل نحن مع لحظة من لحظات وعي المرأة بنفسها وبالعالم من حولها؟ هل نحن مع إشراقات تأسيس لكتابة مختلفة، مخالفة للقيم الذكورية، ومهشِّمة لطابو مغامرة الجسد الأنثوي خارج التخوم المرسومة له؟كيف نستخرج الخصوصية ـ إن وجدت في الكتابة الرحلية النسائية ـ من الحلقة المفرغة لـ”كتابة النساء”، وتجريد مفهوم الكتابة النسوية من وهْم “النوع” (الجَنْدر)، ونعرة النِّسوُوقراط الممانِعة للهيمنة البَطريركية؟ إن طموحنا لا يكتفي بمحاولة الإجابة عن التساؤلات السابقة، بقدر ما يرنو نحو تبديد الانطباع السائد لدى الكثيرين عن فقر الخزانة الرحلية العربية النِّسائية1. وهذه الدراسة إحدى لبنات2الإسفار عن كنوز أدب الأسفار بنون النسوة في مختلف ربوع الوطن العربي، بغية استكشاف عوالم المرأة الباطنية وهي تجوس فضاءات غير مألوفة، وتكتب عنها بقلم له خصوصية لافتة. واهتمامنا بالأدب الرحلي النسائي، هو محاولة لرفع ما لحقه من ضيم جرّاء تجاهله والوقوف في وجهه، بعقلية ذكورية عفى عنها الزمن، علمًا بأن غواية السفر، وجنون العبور، باعتبارهما حاجة أونطولوجية إنسانية، لم يكونا أمرا ميسَّرا بالنسبة للمرأة. وهذا حديث ذو شجون، سنكتفي منه بالإشارة إلى ما اعترض سبيل رحّالتنا خديجة صفوت وهي تزمِع السفر إلى الصين لسبب وجيه: “كانت فكرة خروج أول وفد نسائي سوداني إلى الصين أمرا حاطه الكثير من عدم الرضى والتخوف إن لم يكن الاستنكار، إلا أنه حدث فك عقال عشر فتيات سودانيات في وفد نسائي إلى الصين الشعبية”3. هكذا أصبحت الرحلة عند المرأة تَوْقا للحرية، وكسرا لعقال عقل معتقل بالعديد من الكوابح.
أما بعد
ضمن سلسلة: “رحّالات شرقيات” التي أطلقها المركز العربي للأدب الجغرافي بإشراف الشاعر السوري المغترب نوري الجرّاح ورعاية الشاعر الإماراتي الرحّال محمد أحمد خليفة السويدي4، صدر للكاتبة السودانية المغتربة خديجة صفوت “رحلة إلى الصين”5 قامت بها في ستينيات القرن الماضي ـ بدعوة من الاتحاد النسائي الدِّيمُقراطي الصيني ـ صحبة أول وفد من عشر نساء سودانيات كانت أصغرهن، لم تتجاوز بعدُ ربيعها التاسع عشر، فوصفت في فصولها المتنوعة6: المدن، المدارس، المستشفيات، الجامعات، العمال والعاملات، النساء، الأطفال، الاستعمار، الحرب، التحرير، الثورة، السلام، المسرح، الأوبِّرا، دار العجزة.كانت هذه الرحلة ثانية اثنتين من رحلاتها المتعددة إلى شتى أصقاع المعمور بأفريقيا وأمريكا والاتحاد السوفياتي وأوروبا وكندا والعالم العربي: ستار الصمت7. ولعل التساؤل عن سِرّ انجذاب المؤلفة إلى غواية السفر منذ ريعان شبابها، لَيُفضي بنا، من جهة، إلى فكّ لغز السِّحر الذي مارسه السفر عليها، ومن جهة أخرى إلى استكشاف ملامح الخطاب المبطَّن في تطعيم رحلتها بعناصر سير ـ ذاتية، غمرت نصَّها بالكثير من البوْح والشُّفوف عن مكنونات الذات ولواعجها ومضمرات الضمير الفردي والجمعي. ورغبة منا في أن نستكشف بعينيْها وجسدها وفكرها وروحها واستيهاماتها وأحلامها بلادا غريبة على عيون الرجال، بَلْه النساء، وما طبع ذلك من خصوصية، سنعمد ـ ونحن نروم تقديم قراءة نسقية لرحلتها الصينية في ضوء فكرها ـ إلى السفر في نصوصها الموازية (عنوان، تقديم غيري: (تقديمها للغير وتقديم الغير لها)، تقديم ذاتي، شذرات سيرتها المبثوثة في مقالاتها وأبحاثها وتقديمها لمؤلفات غيرها، ونصوصها الإبداعية (شعرا ورواية ورحلة) وحواراتها وتناصِّها. وما يبرر هذه القراءة
النسقية هو خِفّة التعاطي الأرخبيلي مع نص غائص قلبا وقالبا في منجزها الفكري والإبداعي، لأنها كانت دائمة التأمل في ما كتبت8، بحيث تكاد تمَّحي الحدود في نسقها الفكري الذي لا ينبغي أن يُستخَف به. 1ـ عتبة العنوان: النصوص الإبداعية تكبُر من عتباتها، فهي فيض شعوري وجداني وفكري، وقيمة مضافة لما راكمته الذات المبدعة من تجارب في الحياة والفكر ودفقات المشاعر والأحاسيس. ولذلك يتم تمطيط النصوص ـ كمًّا وكيْفا ـ من عتبات منذورة لمفاجآت الكينونة، وتحولات الذات المرتهنة بآمال الماضي وإكراهات الحاضر والمهووسة بوميض المستقبل (الجمعي في حالة مفكِّرة طاعنة في النضال9 مثل خديجة صفوت، التي لم تلقِ بالا لمصالح الذات مطلقا). يبدو أن العنوان الجديد للنص الرحلي: (رحلة فتاة سودانية إلى الصين)، رغم دخول مكوناته في علاقة استبدالية مع العنوان القديم: (أفراح آسيا انطباعات وحقائق من زيارة وفد سوداني للصين الشعبية-1966)، إلا أنه يشِفّ عن بنية عميقة تشي بفتُوة الذات الناظرة وانطباعاتها عن فضاء المغايرة بفرح طفولي ورومانسية الشباب، ولعل هذا الإصرار على التماهي العنْوَنِي ـ وبالتالي الوجداني ـ هو الذي جعل عبارة “أفراح آسيا” الظاهرة في مستهل العنوان الأول (القديم)، تقفز ـ في خَفرـ إلى فرع العنوان الجديد، لكن ليس في صفحة الغلاف، بل توارت إلى الصفحة الداخلية للعنوان، لتعلن ـ من باب خفي ـ عن استمرار دفقة الشعور التي أضاءت وجدان خديجة صفوت الفتاة الشابة، وحملتْها وهي تتقدم في مدارج العمر إلى الرمق الأخير من حياتها10 وهي ترفُّ برموشها في أحد مستشفيات أوكسفورد، وتجيب بحركة طفيفة من وجهها، وصوت الشاعر السوداني المغترب قادم من لندن يُمنّيها بحلمها القديم الجديد: تحرُّر البلاد والعباد11. ولعل الشاعر نوري الجراح ـ بحكم العلاقة الإنسانية والثقافية الراقية التي ربطته بها في غير ما مناسبة ـ حاول لملمة خيوط هذا الحلم بتقديمه للطبعة الجديدة، التي وجدَتْ فيها هي أيضا فسحة لمقدمة ثانية تسخر من ثقل السِّنين، وتستمد من الحنين زادا تتقوى به على تخاذل الواقع في زمن كَوْننةٍ12أجهزتْ على البقية الباقية من قيمٍ عاشت بها ولها ومن أجلها في هذا الكون.نوري الوَفاء، شذرات سيرة تشاركية: إن تحمس نوري الجراح لتقديم رحلة خديجة صفوت إلى الصين نابع من قواسم مشتركة في القناعات الفكرية والإيديولوجية ورؤية العالم وحلم الشاعر وهموم الوطن والناس. لذلك تراه ـ وهو يقدم الكثير من التفاصيل عن سيرتها الفكرية التي يغفلها العديد منا ـ لا يألو جهدا في ربط الفكري بالنفسي أو الذاتي لديها، لأنها تعيش بتفكيرها، وتفكِّر بعيش الآخرين. فمنذ البداية ينبِّه إلى أنه لن يكرس مقدمته للتعريف بالرحلة إلى الصين أو التعليق على النص، لأنه يميل إلى “تقديم الكاتبة نفسها إلى قراء العربية الذين أجزم أنهم ما عرفوا إلا القليل عنها من خلال نتاجها الذي وضع بالعربية.. فجُلّ أعمالها بالإنجليزية ولغات أوروبية أخرى، وما يزال أغلبها لم يترجم إلى العربية”13 إن الصداقة الفكرية التي ربطته بها تعكس وجها من سيرتهما معا في حقل ما يسمى بـ “الكتابة النسوية” “وبلورة خطاب نظري جديد يتعلق بالمرأة في المجتمع، والمؤنث في الثقافة والاجتماع”14، من خلال مجلة الكاتبة وسجالاتهما الفكرية معًا، مع ناشطات ونشطاء “الفيمينيزم” في الغرب ومن تأثر بهم من العرب. وبعيدا عن استقطابيْ الذكورة والأنوثة العتيقين، عَمِلا على خوض معارك سجالية وتنظيرية حول الأنوثة والمؤنث في الثقافة العربية. الأول باجتراح مفهوم “الفضاء الثالث” الذي اقترحه على منظومتي النساء والرجال من أجل علاقة خلاّقة بينهما في فضاء فكري وجمالي مختلف، والثانية ببلورة اهتمام مركز حول فكرة “العالم ثالثية، باعتبارها نزعة أصيلة حكمت مجمل النشاط الفكري لمفكرة طمحت إلى بلورة مشروع مضاد لعنصرية المركزية النسوية الغربية، لصالح نسوية كونية جديدة تفضح التهميش الذي فرض على النسويات الثالثيات. وهما معا بهاذين المفهومين الجديدين كانا في قلب فكرة الحلم بتغيير مسعى الإنسانية المعذبة. الحلم الذي كان أشد وطأة من الحقيقة بالنسبة للشاعر، وأصدق أنباء من زعاماتٍ نِسْووقراطة15 غربية تكرِّس التهميش والإقصاء والهيمنة العالمية، ولا تبغي عنها بديلا. وما قدمتْه المفكرة خديجة صفوت هو بديل متطور عن “التفكير النسوي الشرقي المنسحق أما النسوية الغربية”16. ولبلورة هذا البديل عملت على استنبات مصطلحات17 ومفاهيم مضادة للنسوية المتطرفة وتقليعاتها اللامتناهية في الغرب. فكانت المرأة الولود لترْسنة من المصطلحات المضادة للأفكار النسوية المندرجة ضمن المشروع العوْلمي الذي يخدم الأقلية18. ولعل من أهمها مصطلح ابتكرته ابتكارا19، وبنت عليه العديد من مقالاتها وأبحاثها بلغات مختلفة، ألا وهو مصطلح: “النِّسووقراط”، الذي اجترحته “للتعبير عن الجناح المتطرف والمتوحش من الحركة النسوية الغربية، الذي يحاول أن يفرض مفاهيمه وبرامجه على النساء العربيات”ً20. إنه الوجه الحقيقي للنسوية الغربية المغالية. ذاك كان دأبها في تقديم “فكر يعيد النظر في تاريخ الأفكار.. وابتكار المصطلحات المناسبة، الأكثر تعبيرا عن الأفكار التي تقترحها”.21 ما كان يدفعها لمجادلة النسوية الغربية الأصولية هو إحساسها بالغبن الذي يلحق المرأة في المجتمعات العربية خاصة، والثالِثِيّة عموما. تُرى هل بقيت دار لقمان على حالها طوال المدة التي عاشتها؟ هنا تحضرني إشارتان الأولى في فترة شبابها، والثانية في خريف العمر. في البداية أسوق شهادة للشاعر السوداني فضيلي جمّاع عن فتاة كانت وقتها موظفة بدار النشر بجامعة الخرطوم:” استمعتُ إليها تحدثني بهدوء عن عالمنا الجديد. كانت حزينة خاصة حين تحدثنا عن المرأة وما تعانيه في مجتمعاتنا النامية من اضطهاد تَضُخُّهُ ثقافة المجتمع الذكوري. ولا أنسى ما قالته لي وسحابة الحزن تكسو وجهها الجميل: (مش عارفة يا أخي جمَّاع.. كأنها لعنة أن يولد الإنسان امرأة في هذا البلد!) وتدور الأيام لنلتقي بعد سنين طويلة ـ هي وأنا ـ في بلاد تموت من البرد حيتانُها كما قال شوقي. فلما ذكَّرتها بتلك الجملة الحزينة القاسية، قالت لي بصوتها الهادئ: (ياااه..هو إنت لسه فاكر الكلام دا..ما شاء الله عندك ذاكرة تحسد عليها)”22. وطبعا لم يغير مرور الزمن شيئا، فـ”وضع المرأة تدنى، تُسجَّل كل أربع دقائق حالة اغتصاب للمرأة في أمريكا… وهنا في بريطانيا أجرة المرأة أقل من أجرة الرجل.. تخربت الأسرة في الغرب”23، هذا ما جاء على لسانها، وهي تغالب الزكام، في لقاء مصوَّر بمدينة أوكس مع المذيعة السابقة بقناة (زول الفضائية) السودانية ليلى إبراهيم. عتبة التقديم الذاتي: سِفر تكوين البداوة النفسية والترحال لاحظنا أن العلاّمة خديجة صفوت لا تطمئن للإقامة في أرضية المصطلحات المتيبِّسة والمتصلبة عن سبق إصرار وترصد، لتجترح أكوانا مفاهيمية تغالب غطرسة المركزية الغربية المفاهيمية وإقصائيتها. ولعل الترحال الدائم والمستمر الذي ناخ بكَلْكَلِه على حياتها وحياة أسرتها كان وراء تغريبة أوليسِية لاقت فيها أهوال حروب المصطلح والتعتيم ولعنة الأنثى في المجتمعات الذكورية وتيه الغربة في الوطن وخارجه، وجَوْر النسيان24 قبل رحيلها25 الأبدي وبعده26. أصبح السفر لديها قدرا مقدورا ـ بحكم زلازل الأسرة والأسئلة الحارقة التي يطرحها عليها بإمعان تخصصها في الاقتصاد وعلم الاجتماع ـ فكان الترحال السيزيفي مجرّد تعِلة (prétexte)
لفضح ما يحدث للذات وللآخر، والبحث عن مخارج لمكايد الكَوْنَنَة وأحابيل الأنظمة المتواطئة ضدا على إرادة شعوبها، وقهرا من الأقلية لأغلبية تُدعى رَعاعا وأوباشا وأراذل وعامة وغوغاء وحُثالة وأوغاد وهمج وسوقة وسَفَلة: “حياة العرب الرُّحَّل كُتِبت علينا، فبات نصيبي ألا يستقر بي حال إذعانًا، وفي خاطري البحث عن إجابة لما يحدث لنا وللعالم؟”27. كان الشغف المبكِّر بالسفر سلطانا على النفوس فرضته جغرافيا البلاد وتاريخ احتلال الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. فقد كانت أقاليم السودان جنوبا وشمالا مراتع لطفولتها هي وشقيق روحها أخوها عبد العزيز صفوت: “وقد أفعمت المسافات والأدغال أرواحنا نزوعا إلى الترحال”28، الذي فرضته أيضا الانتقالات التأديبية29 لوالدٍ شقَّ عصى الطاعة والولاء، وخرج على ما تمليه “حكومة السودان الإنجليزية”. فكان أن “تنقّل منفيا30 في كل مرة، عقابا له على معارضة سادة الكون والبشر”31. وكانت الأسرة الممزقة المنفصلة عن الأب تسافر وحدها بالطائرة من جوبا الاستوائية إلى مَلَكالْ أعالي النيل في طريقها من نيمولي أو بحر الغزال أو نيروبي. وكانت صفوت تزور والدها في الخارج متنقلا. وبعد الاستقلال32، ترك الأب السودان وقد اختلف مع قادته. “فلم يكن الاستقلال أكثر ولا أقلّ من تنويعة باكرة على دَمَقْرطة الشرق الأوسط الكبير”33. لم يكن نصيب الأب من المنافي أقل من نصيب الجدّ؛ فقد نفي جدها لأمها محمود فهمي سمارة إلى السودان بمغبة اشتراكه في حركة عُرابي. وسيُبعد مرة أخرى بجريرة مقتل السِّرْدَارْ البريطاني في القاهرة غِبَّ ثورة 1924م على الإنجليز في السودان34. لعلّ معاينة الطفلة صفوت لترحال أبيها الدائم، متنقّلا بين ربوع سودان المليون ميل مربّع، بقيت تبعث في نفسها التوق إلى “فضاءات تخلو فيها الحياة من ألم الفراق وعدم الإنصاف”35. لربما كان هذا ما ولَّد لديها رُهاب الوداع، كما ستؤكد نصوص الرحلة في مواطن مختلفة، والقبوع في مهنة تستنزف الروح: “وقد غدوتُ وبي ذعر من جميع المهن، وما تنفكّ روحي تهفو إلى عالم لا تأخذ فيه الحياة بتلابيب الناس قسوة وإحباطا”.36 سودان المليون ميل ولَّد في نفسها عشق السفر في قلب الوطن، وكره “الاستقرار البليد”37: “عشقتُ الصحراء في عتامير السودان من الخرطوم إلى أسوان وغرداية، وأحتفظ من الأخيرة بتذكار صور كثبان مسحورة، وبزهرة رمال ثابرت على صحبتي من دون غيرها، مستعصية ـ لسرٍّ لا أعرفه ـ على التصدع أمام الأسفار والتنقل وتغيير السكنى”.38 رائحة المكان ـ أجلْ للمكان رائحة وجسد وروح وأسرار لا تبوح بها إلا للمتولِّه بملكوت الوطن حجره وشجره، حيوانه ومطره ـ لا يقوَى على سحر أريجها من خطفته نوستالجيا السفر في الزمكان السوداني الطاعن في البساطة حدَّ الأسطورة؛ لأنه على حد قول الرحالة نفسها: “فضاء يخصُّنا ولنا فيه صداقات مع الأشياء ومع المنحنيات والفصول والفيضانات والمطر والدعاش ـ رائحة الأرض غِبَّ المطر ـ ومع الدَّرَت (الجو الحار) الذي يُنضِج العيش ـ الذرة ـ عندما يحتقن الهواء بالرطوبة، وقد تُرعِد السحب دون أن تمطر. وكنا عقدنا علاقات متسارّة مع الشجر والحجر ومع صوت المَرْفَعين ـ الهايينا ـ وهي حيوان خنثى.. خليط بين الذئب والثعلب، ويغلب النمر إذ يفاجئه. ولكم خبَّاَنا غابُ الجداول والتُّرَع النيلية، وتكتمَت أدغال الجنوب على شقاوتنا صغارا، وقد جعلت طفولتُنا لكل شيء لونًا، وجعلنا لكل شيء ومكان رائحة جنوبية استوائية أو شمالية مصرية39 ـ ريفية”.40 كان لِعِشْق معاقل الثورة والثوار جاذبية خاصة، تشكلت خميرتها الأولى من معايشتها لثورة أبيها على النظام الجائر، وتفضيله الهجرة والمنافي والزهد في الدنيا41على الانبطاح والرضوخ لتعليمات المستعمر البريطاني. من هنا انبثق حلم ارتياد الآفاق بحقيبة ظهرٍ تجمع ما قلّ ودلّ، وهي ما تزال بعد في ربيعها الثالث عشر، تطفح بالأمل في الالتحاق برموز الثورة في كوبا والبرازيل: (تْشي غيفارا، جورج أمادو )، وأفريقيا البرتغالية:(موزمبيق، غينيا بيساو، جزر الرأس الأخضر PAIGC، أنجولا، وجزيرة سان تومى و جزيرة برينسيبّيPrincipe) والجزائر وفلسطين تحقيقا لحياة أفضل في مكان ما، أكثر رحمة وأقل قسوة:”وكانت أمي تكتفي بإرسال نظرة إشفاق صامتة نحوي، وأنا أحلم أن أجوب آفاق المسافات والأدغال، وفوق ظهري كل ما أملك في حقيبة “جوجو” أو ما يسمّى اليوم بـ:”الروك ساك”Rock sack وبقيتُ أحلم بالالتحاق بمسيرة ثورات كبرى باكرا. وقبل الثورة الكوبية وإطلالة وجه جيفارا النبيل الجميل، مضيئا سماء النزوع إلى عالم أفضل، كانت ثورة البرازيل يقودها جورج أمادو قد ملأت جوانحنا بالأمل، في عالم خال من اللئام، رُحتُ أُمنِّي النفس ـ وكنتُ في الثالثة عشرة ـ بالانخراط في حربِ تحريرٍ. فركضْتُ وراء الثورات، وزرت مناطق أفريقيا البرتغالية المحرَّرة، وانْخَرَطْتُ ببعضها غِبَّ أزمنة الثورة، من موزامبيق والجزائر وزيمبابوي، إلى فلسطين والجزائر ونيكاراغوا، نشدانا لحلم بناء الأساس المادي لحياة أفضل في أي مكان”.42 بل حتى العمل والعيش في شتى أصقاع المعمور، كان هاجسه الأول والأخير ـ وهي تتنقل في جامعات ومؤسسات وهيئات حقوقية ـ الظفر بلحظة قسوة أقَلّ: “وقد عشت وعملت43 في السنغال وكندا والاتحاد السوفيتي سابقا وروسيا الفيديرالية حاليا ـ وويلز وإنجلترا وإيرلندا وفرنسا ومصر وغيرها، ربما بحثا عن عالم أقلّ قساوة”.44 لم يكن سحر المكان ورائحته، وجاذبية النضال بعد ذلك، والتنقل بين الجامعات وغيرها من هيئات ومؤسسات، وانشطار الأسرة، هو ما أثار حِسّ الترحال لديها، بل بالإضافة إلى المثير العاطفي والإيديولوجي والفكري والإنساني، كان هناك مثير روحي شدَّها إلى سحر السفر منذ نعومة أظافرها، فألهب خيالها بقداسة مكان غامض له رائحةٌ عطِرة وجلالُ البعيد. ” كان بيتُ جدتنا لأُمِّنا في شارع يتفرَّع من شارع الملك. من هنا ينطلق كل عام مَحْمَل الكعبة فوق الجمال في موكب جليل بطيء، ويهرع الناس من كل مكان لمشاهدته.. ويتدلى سكان الشارع من فوق الشُّرفات ملوحين يتبرَّكون بالمحمل ويقرؤون الفاتحة. كان الموكب يُلهِب خيالنا الطفولي ببلاد بعيدة مقدَّسة ذات رمال عَطِرة وغامضة”.45 لم يكن جلال البعيد، ولا مأساوية البَعاد، أقل وطأة على نفسها من لحيظات الوداع، التي أصبحت ميسما يطبع أسطورة الذات وغربتها واغترابها واستغرابها في الأزمنة46 والأمكنة47 والمعارف48وعوارف المعارف.49

ملحوظة:

نظرا لضيق الحيز تعذر علينا إدراج الهوامش، فمعذرة

Related posts

Top