عندما توصلت بالفيلم التلفزيوني المغربي الناطق بالأمازيغية ”إيمكوسا/ الوارثون” لم أتردد لحظة في مشاهدته، لعدة أسباب أهمها أنه من إخراج الفنانة لطيفة أحرار التي اتجهت مؤخرا الى الإخراج السينمائي بعدما كان الإخراج لديها محصورا في المسرح، انطلقت من الفيلم الوثائقي ثم الروائي ويعتبر ”إيمكوسا” أول فيلم لها في هذا الجنس، لماذا لطيفة أحرار بالضبط؟ لأنني أتابعها من زمان، وتشدني تجاربها المسرحية، هي فنانة طموحة ومجتهدة ومتجددة وهذا ما يجعلني أتابع أعمالها بفضول ومتعة، فأعمالها جزء لا يتجزأ من شخصيتها وأفكارها ورؤيتها إلى العالم، وأنت تشاهد عملا من أعمالها وخصوصا إذا كان من تشخيصها فأنت تغوص في مفردات شخصيتها وتفاصيلها، أو دعوني أقول هي تعطيك عن قصد فرصة الدخول إلى أعماق شخصيتها وكشف مكنوناتها.
لطيفة أحرار ليست بارعة في إخفاء أفكارها وعوالمها الداخلية في أعمالها فهي شفافة إلى أبعد الحدود، لهذا تشدني تجاربها، ربما هذه الصفة وهذه الرؤية نقلتها معها إلى تجاربها الوثائقية، كما في فيلمها ”السفر الأخير” على سبيل المثال، لكنها لم تتكشف لي بشكل ظاهر في فيملها الروائي الأول ”إيمكوسا”، ربما لأنه أول تجربة لها، أو لأنه موجه إلى وسيط معين وجمهور لن يتحمل التجريب كما جمهور الركح.
”إيمكوسا” هو فيلم تلفزي اجتماعي يعالج موضوع الإرث، لن أحكي القصة بطبيعة الحال لكنها تبقى قصة بسيطة في طرحها بخط واحد غير متفرع، ببداية واضحة ونهاية أشبه بدرس أخلاقي، البناء الدرامي غير معقد ولا مركب وهذا يتناسب وطبيعة التلفزيون، هناك تحكم ملحوظ في إيقاعه وسيرورته، وسلاسة في تتابع أحداثه، الحوار متزن ومتناسق مع الأحداث، منضبط دون حشو ودون تفكك، وهذا ليس بجديد على الأعمال المغربية الناطقة بالأمازيغية التي تتميز – حسب رأيي – بهذا الجانب الذي تعاني منه الأعمال الناطقة بالعربية، التصوير لم يخرج تقنيا عما نشاهده في باقي أفلامنا التي تصور للتلفزيون، فهو بدون رؤية إبداعية محددة، لكن حسن اختيار الفضاءات الخارجية المصورة خصوصا مشاهد الطبيعة وعمران المدينة المختلف عما اعتدناه في جل الأعمال المصورة في مدن بعينها، أعطى للتصوير روحا جمالية مغايرة كما منح المُشاهد لحظات من الصفاء والنقاء البصري، الإفراط في إقحام المشاهد المأخوذة بالدرون دون سبب درامي معين ودون داع نقطة من نقط ضعف هذا العمل أيضا.
هناك عنصر توقفت عنده كثيرا وهو الكاستينغ وتميزه، فكل ممثل وضع في مكانه المناسب بالضبط، فكما دائما شدتني الفنانة رجاء خرماز التي تقبض على الشخصية بكل تفاصيلها في كل عمل تشارك فيه، أول مرة أشاهدها تجسد شخصية شريرة، لكن ذاك ”الشر الاجتماعي اللايت”، الحيز الذي منح إليها ضيق لم يترك لها للأسف مجالا للتوسع والإبحار أكثر، فرجاء تحتاج لمساحة واسعة ورحبة حتى تتنفس تشخيصا، لكنها على كل حال قامت بمهمتها كما يجب رغم كما قلت ضيق المساحة وإيقاع شخصيتها البطيء الذي فرض عليها.
يبقى التألق بالنسبة لي في هذا العمل للفنانين سعيد ضريف، وهبة حدو. فسعيد ضريف كان متميزا، تلقائيا وعفويا في تشخيصه وأعني هنا العفوية في إطارها الاحترافي المنضبط أمام الكاميرا، تعابيره الجسدية كانت متناسبة مع طبيعة الشخصية التي أداها دون إفراط ولا تفريط، قدرته على التشخيص القوي والجاد ظاهرة وتنم على موهبة لم يتصادف تواجدها في هذا العمل فقط، بل هي موهبة قادرة على العطاء والإبداع في أي عمل تشارك فيه، وهذا تخميني وحدسي بحكم أنني أشاهده لأول مرة في عمل فني، بحثت عنه فوجدت أنه مسرحي وشارك في العديد من الأعمال التلفزية وخصوصا الأمازيغية، وهذا ربما تقصير مني في عدم معرفته من قبل ومن المخرجين أيضا الذين لا يستعينون به في أعمالهم السينمائية الخاصة بالشاشة الكبيرة، وأنا متأكد أنه سيكون إضافة في هذا المجال.
الممثلة هبة حدو كانت أيضا مميزة، وتميزها ظهر بالخصوص في المشاهد التي جمعتها برب الأسرة المريض/زوجها، هي مشاهد شبيهة بمونولوجات درامية، فهي تخاطبه وتحاوره وتناجيه وكأنها تخاطب ذاتها لا تنتظر منه رد فعل، فهي الفعل ورد الفعل في نفس الوقت مادام محاورها مجرد جسد مشلول مستلق أمامها لا قدرة له على الكلام والحركة، لكن هناك مجموعة من الخيوط الإنسانية تشبكها به فرضت عليها الإفضاء بما لديها من مشاعر فتفوقت في ذلك بشكل متميز، يكفينا هذا العمل حتى نكتشف موهبة هبة حدو التشخيصية بتعابيرها وانفعالاتها وقدرتها على التحور من مشهد إلى مشهد حسب سياق الأحداث.
< بقلم: فؤاد زويريق