تعد ظاهرة “اللامبالاة” بصفة عامة ولدى الشباب خاصة؛ ظاهرة اجتماعية معقدة. فبالإضافة الى كونها سلوكا شاذا لخروجه عن المألوف بصيغة نوعه لا بحجمه ووقعه بالمجتمع من ناحية بل لكونه تنامى وبسرعة مع التحولات الاجتماعية المتسارعة. وفق منطق سوسيولوجي خاص يجعل من العالية سافلة والسافلة عالية وهو مبدأ الهرم المقلوب اجتماعيا.
إن “ثقافة اللامبالاة” والتي تعتبر إفرازا حقيقيا للتناقضات المجتمعية وكذا مؤشرا حقيقي للبناء الفوقي ومدى تماسكه وخاصة في شقه الوجداني-الاجتماعي يجعل الظاهرة أكثر تعقيدا لكونها بدأت تأخذ بعدا ثقافيا بل سياسيا خطيرا تكرسه من جهة أخرى تعميق الفوارق الاجتماعية وسيادة فكر الهيمنة.
وتزداد الظاهرة صعوبة عند دراستها لأن ما لا يخرجه المبحوث يختزنه، أي أن الدارس يكون أمام عقبة أخرى وهي صعوبة التعامل السوسيولوجي مع الصمت.
ثم إن اللامبالاة، ولتشعب أبعادها تخاطب نطاقا واسعا من الشباب؛ ونظرا لميولات هذا الأخير المزاجية أحيانا والمتنوعة؛ يجعلها في حاجة الى تظافر جهود علوم أخرى غير السوسيولوجيا كالأنثروبولوجيا والتحليل النفسي والأداب والتاريخ. وهذا الأخير يمكننا من فهم جذور اللامبالاة لدى بعض الفئات التي تمثل “الاغلبية الصامتة” بلغة جون بودراي او “الطبقة الجامدة” بلغة بيير بورديو، والتي أهملتها الدراسات عن قصد أو بدونه.
إن الدراسات التي عالجت سيرورة التاريخ والقوى الاجتماعية المؤثرة في مساره وتوقفت عند رصد ما يتحرك فيه، وأسقطت ما دون ذلك؛ من جوانب قد لا تقل أهمية في توجيه حركته؛ حيث جعلت من اللامبالاة موضوعا حيويا بالنسبة للسوسيولوجيا، والتي تعتبره ضربا من اللغة الصامتة، تعبيرة/تغريدة احتجاجية مكتومة، لها قواعدها ونحوها وصرفها، يلجأ إليها هروبا، من واقع مخيب للآمال إلى انزواء في الصدفة.
ويحتج فيها الشباب، انسحابا وتحركا في الزوايا الملتبسة، من لا واقع له معهم في صنع القرار الذي يخصه، تلك الجماعات المهمشة، ترى وتسمع ولا تفعل، وتعرف بحسها أنها موضوع مناورة بها وعليها. فتقايض بصمتها وبلامبالاتها احتجاجا على الحرمان والتهميش. وتقاوم بالانسحاب، تقاوم أشكال الاستيعاب ضمن مشهد لا يعبرون فيه عن حقيقتهم بل يعبر عنهم، لا يتكلمون بل يتكلم من خلالهم. وإن تكلموا فبمقدار ما هو متاح من مساحة يعاد فيها انتاج الهيمنة.
واللامبالي، فاعل بغياب الفعل، ويحافظ بصرف النظر عن النوايا، على استمراريته. تفعل اللامبالاة ذلك حينما يعجز عدم اكتراثها، ويمنع جمود الكتلة الصامتة عن تشكل بنى اجتماعية مضادة توتر وتهدد استقرار البنى القائمة بالفعل.
فاللامبالاة لدى الشباب هي آليه نفسية للدفاع عن “الأنا” وآلية اجتماعية تهمل الوجدان لفائدة العقل من شأنه تنمية الحس النقدي لدى الشباب.
فالشاب اللامبالي هو ذلك الذي ركن إلى التخفي في المساحة الرمادية، بالرغبة أو بدونها، وآثرالصمت الذي يؤطر به غموضه أحيانا. وإن أجاب فإجابة مقتضبة لا تكاد تستند إلى مرجع ولا إلى رؤية بينة للعالم. فهو لا يرى، أو لا يكاد يرى إلا العلامة العابرة، المزدوجة في الوسائط التقنية الحديثة للاتصال والتي عبرته قريبا. حيث يقف هذا الشباب في الغالب في “البين-بين” يسطو عليه الواقع دون أن تكون له القدرة أو الإرادة ليتخذ له موقعا او هدفا. وفي أحسن الأحوال توهم لامبالاة هذا الشاب الآخرين بأنه لا يعرف، ولكنه يتقن “فن التغابي الذكي” حتى لا ينعت بالجهل.
هذا الشباب ليس له وجهة محددة حين التعبير؛ عن مواقفه وتصوراته وآرائه. فهو يوجد في الغالب في “منطقة التماس”، فهو لا هذا ولا ذاك، ولا هنا ولا هناك، بل فيما يمكن تسميته “بالبينية” حرصا على الاختفاء أو عجزا على بلورة رؤية ما واضحة المعالم.
اللامبالاة بهذا المعنى تصبح ظاهرة للحفاظ على الوضع القائم، إذ “الصمت علامة الرضى” في عرف زواج البنت، والحال انه قد يخفي ضيق نفس وتبرم. بل حتى في تمثلاتنا الذهنية للصامت في مجتمعنا المغربي وفي تراثنا الشعبي حيث الصمت لغز ولغم فالمقولة الشعبية او “الحكمة” القائلة: “مر على الثرثار ولا تمر على الصامت/الساكت”؛ أن الصامت هو اللامبالي لا يتفاعل مع الشيائ بالشكل “الطبيعي” لدى العامة ومن هنا تتبين أهمية النبش فيما تراكم من صمتنا التاريخي، إذ اللامبالاة ظاهرة مركبة تتقاطع فيها كل الأبعاد. والأهم في دراستها هو إثارة ما يبدو رائجا من حالة انكفاء الناس. وليس أصعب، سوسيولوجيا، من دراسة مثل هذه، توجد في الزوايا الملتبسة، الرمادية، التي لا تظفر فيها بإجابة واضحة.
هكذا ترتبط اللامبالاة بغياب الفعل لفاعل تعلم المساكنة، فألفها دون أن ينعم بالسكينة. تحرقه أسئلة داخلية، وإذا اجاب عنها جاءت أجوبته متناقضة في اقتضابها. مرد هذا، (خطاب المنع) و (التحريم) التاريخي الذي يسكن الثقافة العربية، وما افرزه من حالة من الريب الجماعي. بهذا المعنى تقترب اللامبالاة من الهامشية الاجتماعية، بمن لا موقع لهم بين في النظام الاجتماعي القائم أحيانا على الاستبداد.
وإذا ما افترضنا أن اللامبالاة او عكسها ظاهرة تاريخية لمجتمعات تربت على الطاعة وأخرى تمدد فيها الفضاء العام فتشربت قيم الحرية، فإن الصمت أكثر بلاغة في مجتمعات تقلص فيها الفضاء العام. هذه المجتمعات لا يمكن ان يكون فيها البحث موثوقا وناجعا، موثوقا بنتائجه إلا في المجتمعات الحرة التي انتجته. أما المجتمعات التي تقيد حرية التعبير فاللا-إجابة أثرى من التعبير في بعض المواضيع. إنها تعبيرة/تغريدة صامتة قد تكشف في العمق تصرفا اجتماعيا يدفعها دافع المصلحة أحيانا، أو حماية للحدود الخاصة للأفراد او الفئات الاجتماعية التي تبدو ساكنة. وسكونها قد يعني تواطئا وقبولا لما هو قائم. وقد يكشف الصمت عن فقر لغوي يحرج المتحدث فيخفيه، وقد يكون الفاصل أو الفصل بين من يقول ويمنح حق القول وبين من يحجم عنه روابط من القوة ومن الهيمنة. وهنا بالذات يشكل الصمت ضربا من العجز الاجتماعي يسكت فيه الصغير أمام الكبير والفقير امام الغني والعبد أمام السيد. فالإحجام عن الإجابة، اكتفاء بالصمت، لا يعني بالضرورة جهلا بعناصرها، بل قد تحيل أيضا، إلى نوع من الرقابة الطوعية، الإرادية امام أسئلة تبدو في نظر المبحوث محرجة. فالكلام والصمت مرتبطان بروابط القوة. الكلام سلطة يحتكرها من فوض له الحق في الكلام ليكتفي بالترديد والتقليد وتكرار التنميطات التي شرعها من عهد له بأمر التكلم. ولأن الكلام سلطة فإن القائد الصامت لا يمكن أن يكون قائدا لدى بعض القبائل (البدائية) فالقبيلة تريد أن تسمع قائدها …
فاللامبالاة ليست فقط حالة اجتماعية فحسب بل حالة نفسية تخبئ مكبوتاتها وراء لامبالاتها مما يشكل ضعفا لها ويجعلها سهلة الاختراق أمام قوة الكلمة، وسلطة الوجدان، والحلم الأخير، إذ تبدو اللحظة في حكم اللامبالي تشبه السابقة وتتماهي مع اللاحقة، لكنها قد تختلف عن الأخيرة “الالدورادو لأصحاب قوارب الموت مثلا؛ أو الجنة للمتطرفين في كل الديانات …”.
وبالتالي فخطاب المتطرفين هو الأكثر جاذبية بالنسبة للشباب اللامبالي لأنه يخاطب وجدانهم وهذا الأخير هو نقطة ضعفهم لكنهم يغيبونها أمام استعمال العقل من جهة واستبداد الأقوى وتعميق الفوارق، فلامبالاة القوي امام الضعيف والغني اما الفقير ولدت رد فعل معاكس مفاده لامبالاة امام عالم “الكبار” ليصنع الشاب عالمه في تناغم مع ما يمكن أن يواكبه من تخذير مادي ومعنوي وتجنيد قد يعمق الشرخ الموجود بين عالمه الحقيقي وعالمه الافتراضي مما قد يجعله قنبلة صامتة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة تعبيرا عن الصمت وأيضا عن اللامبالاة.
بقلم: فاطمة الزهراء البطيوي