لا أزال طفلة

عادت إلى القرية مهيضة الجناح، منهارة، كئيبة، تحمل حقيبة صغيرة في يديها الناعمتين،  لمحتها من بعيد تتأمل بذهول ما آلت إليه القرية بعد رحيلها، ثم ما لبثت أن أخذت نفسا عميقا كادت أوصالها تخرج معه. خطت بضع خطوات أخرى، ثم توقفت عند باب منزلنا وطرقته طرقا خفيفا، قامت أمي، وأسدلت الغطاء على رأسها وفتحت الباب، وما إن أبصرتها حتى انهالت عليها تقبيلا وعناقا من شدة الفرح. دلفت المنزل بخطى وئيدة، ووجدتني في صحن الدار أحملق فيها فارغة فاهي، وقلت لها بصوت مسموع: أنت لا تشبهين أمي ولا القرويات في شيء، هندامك مدني، ومشيتك حضارية، ووجهك يشبه وجوه النساء اللواتي أشاهدهن على التلفاز.علت شفتيها ابتسامة خفيفة. وقالت لأمي وهي تنظر إلي:

لا بد أن هذه خديجة. أخذتني في أحضانها وهي تقول:

كبرت بسرعة وأصبحت أكثر جمالا مني. أجالت ببصرها في البيت وقالت:

بقي كل شيء على حاله…

ثم التفتت نحوي وسألتني:

في أي صف تدرسين؟

هممت بالرد عليها لكن، أمي قاطعتني قائلة:

عن أي دراسة تتحدثين، ثم أضافت:

أتذكرين للا فطومة جارتنا، لقد طلبت يدها للزواج من ابنها أحمد، الذي يعمل في المدينة…

اشتعل جسدي غضبا، وثرت في وجه أمي ثورة لو كانت سهاما لأصابت القرية وأردتها ناسية منسية وصحت قائلة:

صحيح أن الفتيات هنا لا يهمهن سوى انتظار فارس يأتي على حصان أبيض، لكنني مختلفة عنهن. أنا  لا أريد أن أحصر حياتي على رجل أظل عبدة له، أو أن أصبح أسيرة لأواني ومواعين المطبخ مثلك”.

نظرت إلي عمتي نظرة دامعة، وقالت مخاطبة أمي:

لا بد أنك تمزحين، لا تزال الفتاة صغيرة على احتمال ما لا طاقة لها عليه… ثم ماذا ستجني من وراء زواجها غير العناء والشظف، وأنت أعرف مني بذلك.

همت أمي بالرد عليها لكن جدي وأبي دخلا المنزل فلاذتا بالصمت. كان جدي رجلا ممتلئا لا تبدو عليه الشيخوخة أبدا. وكان الكل في عائلتنا ينصاع لأوامره حتى الكبار منهم،  ما إن رأته عمتي حتى قامت وقبلت يده وجبينه وسلمت على أبي،ثم وقفت مطأطأة رأسها تسأل عن أحواله وصحته. أفلتت منه ضحكة لكنه سرعان ما كبحها بصعوبة كمن يريد أن يقول لا زلت شابا فتيا رغم أني أكاد  أقفل الثمانبن سنة. سحبتني أمي من يدي،  ومدت لي غلاية وسطلا معدنيا وفوطة وطلبت مني أن أخدمهم.

جلسواعلى طاولة الأكل ينتظرون الطعام الذي طهته أمي المسكينة التي قضت سحابة يومها في فرك الملابس، وكنس الأرض، وحلب الماعز وغيرها من الأشغال التي لا تنقضي بانقضاء النهار. ولا أخفيكم أن جميع النساء في قريتنا يشبهن أمي بل وأكثر؛ يحرثن، يحصدن، يحطبن ، يعتنين بالأطفال ويطبخن أيضا ولا يشتكين من شيء، كأنهن خلقن للشقاء والانصياع لأوامر الرجال لا غير. بعد برهة من الزمن جاءت أمي تحمل صينية شاي، ووضعتها أمام جدي، وعادت لتأتي بالطبق الرئيس المعتاد. شرعوا في تناول الطعام،  وجلستأنافي ركن أسترق النظر إلى عمتي التي بدا عليها الارتباك والخوف وبدت كمن يريد أن يفصح عن سرتعلم مسبقا أنه سيعكر مزاج جدي. لف الصمت المكان لبرهة قصيرة، ولكنني كنت متيقنة أن هذا الهدوء ستعقبه عاصفة هوجاء لا محالة .غمس جدي ثالث لقمة له في المرق، ثم خاطب عمتي قائلا:

أين زوجك؟

أجابته بثبات:

سننفصل. لقد صبرت كثيرا لكنني لم أستطع أن أتحمل أكثر…

امتعق جدي وارتعد في مكانه، وتغير لون وجهه، وعقد  مابين حاجبيه، وغشت الظلمات القرية في لمح البصر، ثم قام من على الطاولة ونفض يديه وقال:

الطلاق عندنا عيب. ستضحكين فينا أهل القرية، وتجعلين شرف العائلة حديث العادي والبادي. ثم أضاف قائلا :

بعد زفاف خديجة ستغادرين المنزل وتعودين لزوجك. حياتك الآن أصبحت ملكالهوالطريق التي سيرسمها لك تمشين فيها خنوعة مذعنة.

وأضاف قائلا:

لا بد أنك فعلت شيئا جعله يفكر بالطلاق. أنا أعرفك جيدا.

خرج من المنزل غاضبا، ولحقه أبي على عجل. أما عمتي فسقطت على الأرض، تذرف دموعا لو وقعت على الحجر لأشفق لحالها، لكن قلب جدي أصلب من الحجر نفسه. تجمدت في مكاني من هول الصدمة، لم أدْر كم بقيت مشدوهة، فجدي لم يكن يوما بهذا الغضب. أنذاك عرفت أنه لا مفر لي من الزواج من ابن للا فطومة فغامت الدنيا في عيناي وشعرت بأوصالي صارت يبابا. عاد جدي  في المساء مستاء وسمعته يقول لأمي:

لا تدعي خديجة تذهب للمدرسة من الآن فصاعدا. سيعقد قرانها نهاية هذا الشهر من ابن اللا فطومة، ولا تدعيها أيضا تجالس عمتها لكي لا توسوس لها بتلك الأفكار الشيطانية التي ورّثتها لها نساء المدينة.

شعرت بغصة في حلقي، وحملت جسدي الصغير، وانزويت في مكان مظلم أحاول ابتلاع كلماته المهتاجة . وما هي إلا أيام قلائل حتى حل يوم الزفاف، وتضاعف شعوري بالإحباط أكثر، وظل بالي مشغولا بما ينتظرني في ذلك القبر الموحش، وتراءى لي مصرعي في مطلع الشمس ومغربها.

قبل العرس بليلة جاءتني عمتي خفية  بخطى ثابتة، فشعرت بنوع من الطمأنينة والسكينة، وتوسدت ركبتيها، وأنشأت تمرر يدها على شعري دون أن توجه لي كلمة واحدة، أمسكنا عن الكلام واختلت كل واحدة منا تفكر بصمت في حياتها التي كبّلها القهروالغبن، وشب فيها وابل من الألم. بعد هنيهة أسلمت أمري لله، وقلت في خاطري: النساء في الأخير مآلهن بيت ورجل يسترهن.

طلع الصباح واصفر ضوء الشمس وتعالت الزغاريد في القرية ،وعم البيت رائحة اللحم، وتجمع أهل القرية صغارا وكبارا، رجالا ونساء ينتظرون تشييعي إلى مثواي الأخير،  لبست قفطانا أبيض فضفاضا، وشددت وسطه بحزام. ثم وقفت مستندة على عمود خشبي وسط غرفة بالية قضيت بها مدة طويلة ملتحفة السعادة،  وما كنت على علم حينها أن الدنيا ستدور دورتها وتعلن هذه الغرفة مكان احتضاري يوما ما. قرعت أمي الباب ودخلت النساء تباعا بعباياتهن المتدلية، وتجمعن حولي يباركن لي زواجي . ربتت إحداهن على فخذي وقالت لي:

المرأة ليس لها إلا زوجها،لا تجادليه، ولا تعانديه، وكوني طوع أمره ومهما فعل يظل رجلا. زادت المرأة من استيائي وكدت أستشيط في وجهها غضبا لولا أن العادة عندنا تقتضي احترام الأكبر منا سنا، فاضطررت أن أظل هادئة وادعة كطائر ألقى به قدره في بيت عائلة لا تفرق بين العبودية والحرية، ولا بين الإنسان والحيوان. وقلت لنفسي:

تمسكي بي جيدا، ففي جميع الأحوال تبخرت كل إحلامنا وصارت سرابا، ويستحيل أن نجد لأمرنا مخرجا.

 في المساء جاء موكب العرس وقادوني معهم، كأني أسيرة مساقة إلى بيت العبودية، والناس يهللون ويطبلون وكأن ما ظل من بؤسهم وشقائهم سيرحل عنهم الآن. وبدا الكل مغتبطا مسرورا، وللحظة شعرت أن سحابة سوداء هبطت على عيني فحجبت عني الرؤية، ثم لا أعلم بعد ذلك كيف وصلت حتى أحسست  بأمي تخز جنبي وتدفعني لدخول البيت، هززت بصري فتبين لي أنه قد بلغنا المنزل؛ كان كبيرا جدا، وذو باب عريض يتسع لدخول فوج من الفيلة. ما إن وقفت أمامه حتى تكدس المكان بأهل القرية، وامتلأ البيت ضجيجا وعجيجا، واختنقت الدار بالزغاريد، وارتفعت الطبول تطبيلا. لم أشعر بنفسي إلا وأنا أشهق دمعا، وأسأل الله قضاء يريح انتحابي، ثم زفرت زفرة بعدها خلت فيها أن روحي انقبضت وأن كبدي تشتت. اتجهوا بي صوب غرفة شبه مظلمة، وفي صدري نبض يضايقني، وبدا كأن أحدهم غرز في جسدي سكينة خرساء تشعر بها لكنك لا تتألم البتة. عبرت الغرفة ومضيت أتفحصها، وفجأة لاح لي خيال شخص ما في المكان، استرقت النظر إليه خلسة لكني، لم أجرؤ على الدنو منه، كان يلبس جلبابا أبيض وبلغة صفراء اللون، ويضع عمامة على رأسه. جلست غير بعيدة منه، وكنت أشعر بأنفاسه تتصاعد على الرغم من صخب المكان. ولم تمض دقيقة حتى توقف الجليد عن الذوابان، وتداعت أمامي سلسلة محبوكة من النوازل التي ستطوّح بي  في محيط من الأسى والبؤس اللذين ينتظرانني في دار الغربة هاته  خيل إليّ للحظة أن أضع حدا لحياتي التي ما عادت حياتي منذ الآن، بل صارت حياة من وُهبت له وأصبح صاحب الشأن فيها، تأوهت آهة طويلة ووضعت رأسي بين ركبتي، وهنا اقتحمت للا فطومة الحجرة وأمسكت بيدي كمن يمسك طفلة تخاف عليها الضياع، وأنزلتني الدرج وتوجهنا إلى صالة كبيرة مطلية بلون أبيض، ثم أجلستني في مكان أعلى على الأرض بقليل، وذلك ليتسنى للجميع رؤية جثة طفلة شيعوها بأيديهم غير آبهين ولا حافلين بمناجاتها.   مضى على أسري الآن أكثر من خمس سنوات ولا يزال كل شيء على حاله، إلا أنا،  لقد كنت وما أزال طفلة.

بقلم: فاطمة زرياح

الوسوم ,

Related posts

Top