لمسة وفاء تكريما للجمال الخالد..في وداع الفنان حسين طلال

فقدت الساحة التشكيلية المغربية والعربية أحد أعمدتها الفنان التشكيلي حسين طلال (1938-2022) الذي وافته المنية صباح يوم السبت 18 فبراير 2022 ببيته في الدار البيضاء إثر وعكة صحية مفاجئة، ويعد الفقيد واحداً من رواد الحداثة الفنية الذين أبدعوا طويلاً في مجال إنتاج اللوحة الصباغية ورسم البورتريه بأسلوب تشكيلي خاص ومتفرِّد.
رحيل موجع لمبدع تشكيلي نادر، خلف مسارا جماليا حافلا بالمعارض الفنية داخل المغرب وخارجه، كما عكست ذلك مجموعة من الكتابات والمقاربات الفنية لنقاد مغاربة وأجانب.
وفي ما يلي استقت بيان اليوم شهادات وقراءات حول منجزه الصباغي من قبل نخبة ممن جايلوه وقرؤوه، كاحتفاء رمزي وكلمسة وفاء لهذا المبدع المتميز..

الناقد الفني والباحث عبد الله الشيخ: الافتتان بالسفر الخالد

يرى الناقد الفني عبد الله الشيخ أن استحضارنا لذاكرة حسين طلال، الإنسان والفنان، هو فعل اعتراف إزاء مبدع عالمي وسم بأعماله الفريدة تاريخ الفن الحديث بالمغرب. ودعوة لعشاق الفن لإعادة التفكير في التشكيل كطرح السؤال وكممارسة حلم. الإبداع من منظوره الجمالي هو الوعي بحق البدء من جديد وبحق الحلم مرة أخرى. كان مقتنعا أيما اقتناع بأن الفن علم الأرواح الحية، فهو فعل حميمي وتجربة تفاعلية سردية لا تتوقف عند عتبات الجانب الوصفي. أغتنم هذه المناسبة لكي أذكر باهتمامه الكبير بالتوثيق المحكم والأرشفة، حيث اشتغلت إلى جانبه على مؤلفه المونوغرافي وعلى سيرة والدته شعيبية انطلاقا من مروياته الذاكراتية صحبة زميلي الباحث والإعلامي محمد فنساوي، حان الوقت لكي يحقق المسؤولون عن الشأن الثقافي حلم وصيته الأخيرة، ألا وهو إنشاء متحف بالدار البيضاء يؤرخ لأعماله الفنية ولروائع أمه شعيبية احتفاء بعالمهما المتبصر والحلمي. لوحاته التعبيرية فضاء اعتباري يعانق أحلامنا المجنحة.
وأضاف المتحدث أن الراحل من الفنانين المفتونين بالسفر العجيب والإيحائي، حيث جعل منه مناسبة للتلاقي والحوار. اشتغل على حوار الثقافات والحضارات وترجمة الآخر المتعدد. تحيل أعماله على تأويلات جديدة ومتباينة، فهي تضعنا أمام سياق فريد عبر المجاز التشكيلي للإفصاح عن ذاتنا العميقة بكل روافدها الرمزية. كما أنها تمرر عدة تصورات روحية ورمزية متعلقة بمجالات وجودية. إننا بصدد جانب من الثقافة البصرية المغايرة، يقول الناقد عبد الله الشيخ.
ويبرز ذات الناقد، في ذات التصريح، أن الفنان حسين طلال ومنذ عام 1967، اشتغل على موضوعة “بورتريهات متخيلة”، وفي السبعينيات قام بتأويل الحكايات الغرائبية لإدغار آلان بو E. Allan Poe (الطفل واللعب). كما أنه عندما عرض برواق Vercamer في باريس، باشتغاله صباغيا على ثيمة الرقص، وفي الرباط تناول موضوعة السيرك كعالم سحري يحيل على طفولته، متذكرا قولة مؤرخة فن فرنسية: “كثير من الفنانين اشتغلوا على السيرك، لكن سيركك خاص بك طلال”.
ولا شك أن الاحتفاء بحسين طلال – يضيف الشيخ – هو في حد ذاته تكريم للجمال الخفي كما قال جون فرونسوا هومون. إنه فنان مكتمل باللمسة، وفطنة النظرة. فهو المبدع المغربي الذي ينشغل بالأساسي والجوهري بامتياز، متأثرا بقولة غاستون باشلار: “الحلم بشيء، هو الدخول فيه كمحارة”. غادرنا على حين غرة في عزلة قاسية، محملا بجراحات الماضي ومضاضة لؤم الخلان وموارباتهم المحبوكة. تحية لكل الذين كرموا مسارك وواكبوه في عز حياتك لا بعد مماتك.

الفنان والناقد بنيونس عميروش: شخوص نابعة من بواطن الوجدان

من جهته أبرز الفنان والناقد بنيونس عميروش أن أعمال الفنان حسين طلال تظل في معزل عن الصباغة الواقعية بالمعنى المتعارف عليه، لتتخذ مكانتها بسِمة أسلوبية راقية ضمن أنماط المَيْل التمثيلي في الفن المغربي الحديث. فاستنادا إلى تمكنه من التقنية الأكاديمية وفروعها التي خبرها خلال تكوينه بفرنسا إبان العصر الفني الذهبي في ستينيات القرن الماضي، عمل على تهذيب لمسته ورؤيته لتوليف تشخيصية فريدة، مشبعة بتصويرية ذاتية حادة وأنيقة، تتجاوز المحاكاة والظواهر لتحفر في الأعماق والخلفيات. ويضيف عميروش، في حديث بمناسبة رحيل الفنان حسين طلال، لعل هذه الشخوص الفريدة والنابعة من بواطن الوجدان، إنما هي كائنات آدمية تنبعث لتكشف بطريقتها عن وجوهها التي تجمع بين نظراتها وتقاسيمها تلك الألغاز الموصولة بشحنة القلق التي ظل يختزنها الفنان باستمرار، ليلقي بها على قماشاته بطراوة التجسيم الذي يشيده حسين طلال بلمساته السريعة التي تختزل مرئيتها المتكشفة دفعة واحدة، دون تردد أو مواربة، ولذلك تكشف ملامح الحيرة والكآبة برشاقة بادية.
وقال بنيونس أيضا إن الفنان طلال مقابل انتصاره للدفع بإنتاجية أمه الفنانة شعيبية طلال وتدبير معارضها ورحلاتها، وبالرغم من اختاره – بطريقة أو بأخرى – التموضع وراء حضورها الباذخ والكاسح، يظل أحد رواد الفن المغربي الحديث والمعاصر الذين طبعوا تطور الحقل التشكيلي المحلي، بناء وعيه الثابث بحساسيته الإبداعية التي حافظت على توقدها في معزل عن التأثيرات الأسلوبية (التجريدية بخاصة) التي سادت في ستينيات وسبعينيات القرن الفارط، فيما جود أسلوبه في إطار رؤيته الخاصة التي قامت على نمط من التشخيص الممهور بكثير التمويه المتمنع، الذي يختصر التمثيل في بؤرة تعبيرية مكثفة، تتشكل بمهارة العارف وبحِس الصادق الذي يصنع أعماله بأريحية متناهية، الأريحية ذاتها التي يتلقاها أصدقاؤه ومحبوه ومقربوه في تواصله وكرمه وصفائه.

الفنان والناقد شفيق الزكاري: يجيد الإنصات للآخرين


من جانبه أفاد الفنان والناقد شفيق الزكاري، في اتصال أجرته معه بيان اليوم، أن حسين طلال كان من بين أصدقائه الطيبين من الذين يجيدون الإنصات للآخرين، عندما كان يضيق به المكان، أي فضاء الاشتغال أو المرسم، يخرج إلى فضاءات شاسعة ليتنفس فيها عبق الإبداع، مضيفا أنه دشن علاقته بأعماله في أواخر السبعينيات من خلال عدد من المعارض الفردية والجماعية وكان غالبا ما يستحضره صحبة والدته الفنانة الراحلة شعيبية، لكن المفارقة التي يمكن اعتبارها كذلك كمقاربة في الوقت نفسه هو الاختلاف والتنوع في كلا تجربتيهما اللتين كانتا تصبان في الاتجاه التشخيصي بأسلوبين متميزين، حيث العفوية والتمرد على كل القواعد الأكاديمية في أعمال شعيبية، تم اعتماد الدراسة والتكوين وتطبيق القواعد في أعمال الفنان طلال، الذي يعتبر من التشخيصيين المغاربة الأوائل، فهو قليل ونادر ما يعرض أعماله، حيث قال في أحد تصريحاته بأحد المنابر الإعلامية المغربية باللغة الفرنسية “أنا لست فنان معارض”.
وثمن الناقد الزكاري تجربة الراحل الفنية الموسومة بطابع إبداعي خاص صار يعرف به ويتميز به ضمن كوكبة من الفنانين التشخيصيين المغاربة، وتفرد على هذا المستوى برسم الوجوه والبورتريهات والأجساد البهلوانية بألوان مبتهجة. كما أن تجربته الفنية حظيت باهتمام ومتابعة بالغين من قبل المختصين داخل وخارج بلده.

الفنان والناقد إبراهيم الحَيْسن: يغترف بورتريهاته من صميم قناعاته

يؤكد الفنان والناقد إبراهيم الحَيْسن تميُّزَ الرَّاحل حسين طلال بتجربة تصويرية مغربية استثنائية، برزت لديه كإبداعات صباغية منحت فن البورتريه والجسد الآدمي سمات تشخيصية ورمزية لا يمكن فهم أبعادها سوى بدراسة سياقها الجمالي والإبداعي الذي يراهن عليه الفنان، معتبراً أن إبداعاته الفنية عبارة عن بورتريهات وأجساد مغايرة ومختلفة تتجاوز سماتها الفيزيولوجية المألوفة لتصير بنيات وهيئات جسمانية “بهلوانية” تتراقص على إيقاع خبرة تلوينية وافية تمتد لسنوات من البحث والاشتغال الصباغي الجاد والعميق في حضرة الصمت بعيداً عن الضوضاء والشهرة المجانية التي يلهث وراء تحقيقها كثيرون من أشباه الفنانين مغربيّاً وعربيّاً.
وأضاف الحَيْسن، في شهادة أدلى بها لبيان اليوم، أن الفنان طلال يختار بورتريهاته ويغترفها من صميم قناعاته ومن رغبته في تصوير ما يريد بأيسر الخطوط وأوجز الصبغات دون إيغال في التعقيد والتكثيف. هو بهذا المنجز التصويري يرسم كما يعيش إنسانا هادئا ومبدعا صموتا، لا يتحدث كثيرا، ولكنه يقول أشياء كثيرة ينطق بها رسمه وفنه. وبهذه البورتريهات التعبيرية، يكون قد بصم التشكيل المغربي والعربي بتجربة تصويرية متفردة لها وضعها الخاص.. ولها نواميسها الجمالية الخاصة، حيث تتوارد الأصباغ وتتألسن الخطوط الوادعة والمنثالة على إيقاع لمسات واثقة لفرشاة مقدرة ومشبعة تنهض على خبرة صباغية وافية. بورتريهات رومانسية توزع رسائل الحب بجانب أجساد متماهية ترسم في إيماءاتها حركات بدنية ممتدة تكاد لا تنتهي، ملتفة ومختفية داخل أردية مخططة مستعارة من عوالم كرنفالية.
وتجمع هذه الشهادات وشهادات أخرى، أن الفنان حسين طلال يظل يمثل بتجربة التصويرية مبدعاً نموذجيا يحتل مكانة رفيعة واستثنائية داخل وجداننا الجمالي المشترك بفعل إنتاجه الراقي وجذوره الثقافية التي تفيض بالكثير من المعاني والقيم الإنسانية النبيلة..
وبرحيله المفاجئ، والصادم، تكون الساحة التشكيلية العربية والمغربية قد فقدت واحدا من أبرز أقطابها، مبدعا خلاقا.. وإنسانا ودودا يفيض بالكثير من النبل ودماثة الخلق.
هو هكذا الموت، الأجل المحتوم، يغيب عنا مرة أخرى واحدا من المبدعين الذين نحبهم في فنهم وإنسانيتهم..

رحم الله أخانا المبدع حسين طلال ولترقد روحه في سلام..

إعداد: الحسين الشعبي

Related posts

Top