شهدت فرنسا في الفترة الأخيرة نقاشا على الصعيد الإعلامي والسياسي لحيثيات وتفاصيل مسلسل دخول فاعلين اقتصاديين لرأسمال صحيفة (لوموند)، وقد انتهت العملية منذ أيام باختيار ثلاثي يضم اثنين يعرفان بميولاتهما اليسارية، وذلك بالرغم من دخول رئيس الجمهورية نفسه على الخط وتفضيله لمرشحين آخرين من خندق اليمين الفرنسي. الاهتمام العمومي في فرنسا بمستقبل الصحيفة، يكشف، برغم كل الخلفيات الأخرى، عن حرص حضاري على أحد عناوين صورة البلد، لأن الأمر يتعلق بواحدة من أكبر صحف فرنسا وأعرقها، والتي تحظى بتقدير نخب واسعة في فرنسا وفي بقية البلدان الفرانكفونية، وسجل الكثيرون في فرنسا أن الخطوة التي أقدمت عليها الصحيفة تعتبر «نقطة تحول تاريخية» في شركة يملكها الصحفيون العاملون بها على مدى 60 عاما.
الدرس هنا لا يقتصر فقط على الاهتمام الشعبي، والمواكبة الإعلامية والسياسية لكل مراحل المسلسل الذي عاشته الصحيفة طيلة شهور، إنما أيضا في إقبال رجال أعمال ومؤسسات اقتصادية وصناعية على الاستثمار في قطاع الصحافة المكتوبة، وذلك وفق قواعد تعاقدية واضحة، بما فيها الحرص على استقلالية الصحيفة.
اليوم، ونحن نشهد في المغرب كثير كلام عن الإصلاح وعن تأهيل المقاولة الصحفية يجدر بنا كلنا أن نتأمل في هذا الدرس الفرنسي.
المناقشات وأيضا المطالب ذات الصلة بإصلاح قطاع الصحافة في بلادنا تتركز في جانبين كبيرين يرتبطان بالمحور القانوني والتنظيمي وأيضا بالمحور الخاص بالمقاولة وضرورة تأهيلها وهيكلتها ودعمها.
واليوم، وحيث أن الصحافة هي المجال الحيوي للديمقراطية، فإن إنجاح ورش إصلاح وتأهيل صحافتنا مرتبط أساسا بخطوات وإشارات من الدولة إن على المستوى السياسي والتشريعي، أو على مستوى برامج جوهرية تروم النهوض بالمقاولات الصحفية التي تريد فعلا هيكلة بنياتها وعصرنة عملها.
إن قضايا مثل: التمويل، التكوين، المديونية، تنظيم سوق الإشهار، تكاليف التوزيع والطباعة، العلاقة مع الأبناك، الالتزامات الاجتماعية تجاه الصحفيين…، كلها محاور يجب تضمينها في مسلسل الإصلاح والتأهيل، وفي إستراتيجية شمولية تعلنها الدولة للنهوض بالقطاع.
اليوم لا يمكن أن ننجح في إعادة الاعتبار للسياسة، وفي تأهيل الحقل الحزبي، وفي جعل الانتخابات والفعل السياسي مجالين جاذبين لاهتمام المغاربة، من دون صحف سياسية رصينة تواكب هذه المسلسلات الإصلاحية وتفعل في دينامياتها.
اليوم أيضا من غير المقبول الاستمرار في لعبة الغموض ضمن هذا القطاع، خصوصا على صعيد إنشاء صحف وإغداق التمويلات على أخرى وتوزيع الإشهار بعقلية ريعية، وعندما ينفلت «العقال»، نكون قد قدمنا للبلاد صحفا تحيى بـ»الدوباج» وتعرض منظومات تحريرية تقوم على الشتائم وعلى تبسيطية المتابعة والتحليل، من دون أية جدية فكرية أوسياسية أو مهنية.
مغرب اليوم يستحق أحسن من هذا بكثير…