ليلى العلوي.. فوتوغرافيا التعدد الثقافي

فوتوغر افيا بعين توثيقية

ليلى العلوي (1982 – 2016) فنانة فوتوغرافية ومصورة الفيديو الفرنسية -المغربية، أقامت بين مراكش وباريس وبيروت، ودشنت مشوار دراستها بالمغرب قبل أن تنتقل إلى نيويورك لخوض تكوين رصين ومعمق في مجال علم الاجتماع والفوتوغرافيا في إحدى كبريات الجامعات. تأثرت أيما تأثر بآراء المفكر والمنظر الأدبي الفلسطيني – الأمريكي إدوارد سعيد الواردة في دراساته ما بعد الكولونيالية، ما نتبينه بجلاء في كتابها الفوتوغرافي “المغاربة” الذي ارتهن في متنه الإبداعي بالفترة القائمة بين عامي 2010 و2014، متضمنا روائعها الطلائعية الكاشفة عن تنوع الإثنيات والمجموعات العرقية التي اتخذت المغرب ملاذا وجوديا ومستقرا أثيرا لها.

استسعفت ليلى العلوي بالوسيط الفوتوغرافي وفن الفيديو للتعبير عن الواقع الاجتماعي والإنساني عبر أعمال بصرية توثيقية تناولت قضايا الهوية والتنوع الثقافي والعنصرية فضلا عن الهجرة بمنطقة البحر الأبيض المتوسط التي تنعت بـ “المقبرة البحرية” ​​أو المتعلقة بما بعد الاستعمار بالديار الفرنسية. في لقطة مأساوية على الطريقة الهوليودية ليلة الاثنين الأسود 15 يناير 2016، اغتيلت على إثر هجوم إرهابي شنيع ومباغت بالعاصمة البوركينابية واغاداغو، إذ اخترقت رصاصتان جسدها وهي منكبة على إنجاز تقرير عن وضعية المرأة وإكراهات عيشها بفضاء أحد المطاعم، وذلك بتكليف من منظمة العفو الدولية. يا له من قدر مأساوي! أن يتزامن عملها الإنساني والحقوقي مع هذا الاكتساح الإرهابي الذي تبناه تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، مخلفا مصرع هذه الفنانة الملتزمة إلى جانب 99 شخصا.

من أنصار قيم التسامح والعيش المشترك

ذاع صيت ليلى العلوي في مختلف الأوساط الدولية، فقد عرفت بتنقلاتها الاستقصائية المتعاقبة بين المغرب ولبنان وفرنسا، منشغلة كثيرا بتسليط الضوء على الحالات الإنسانية الأكثر دلالة وإيحاء. لم تقتصر على تصوير النجوم والمشاهير أمثال النجم البرازيلي نيمار، بل ظلت مهووسة بمقاربة حياة الشرائح الاجتماعية في مقاومتها لكل أشكال الهشاشة واليأس والعدم. استأثر اهتمامها، أيضا، بالتأريخ لشخصيات مغربية نموذجية تنم عن تنوع جذورها المجالية وروافدها الثقافية. سجلت أعمالها الفوتوغرافية ذات النزعة الواقعية النقدية حضورا لافتا في عدة مجلات وصحف عالمية نذكر من بينها نيويورك تايمز، فالفنانة ليلى العلوي تحظى برصيد جمالي حافل بالعديد من المعارض الفردية والجماعية بكل من المغرب وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط، بالإضافة إلى مشاركتها في العديد من الملتقيات الدولية للتصوير الفوتوغرافي، أبرزها “ملتقى آرل الدولي للتصوير الفوتوغرافي”.

في يونيو عام 2017، بادر مجلس الجالية المغربية بالخارج بشراكة مع مؤسسة ليلى العلوي بإقامة معرض تكريمي بمحج رياض الرباط تحت شعار دال على شتى المستويات: “على خطى ليلى العلوي”. ضمَّ هذا المعرض -الحدث مجموعة من سجلاتها الفوتوغرافية التي ناشدت من خلالها قيم التسامح والتعايش والعيش المشترك ونبذ العنف والكراهية والتطرف. إنها أيقونات ميدانية أملتها معايشتها المحايثة وتفاعلها العضوي مع قضاياها المنشودة بموجب ما تقتضيه منهجية “الملاحظة المشاركة” و”المصاحبة التفاعلية” و”التدخل الوظيفي” من منظور الأنثروبولوجيا الثقافية كما نظر إلى ذلك الباحث البولاندي برونسيلاف مالينوفسكي، أحد رواد علم الإنسان التطبيقي.

هكذا عكست نماذجها المعروضة واقع المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، واللاجئين السوريين، والعمال الذين طمست آثارهم في الذاكرة، وأطفال الشوارع، والأطفال في وضعية صعبة، والنساء المضطهدات، والأشخاص في عداد المنسيين من الريف وغيرها من المواضيع المثيرة والقضايا الشائكة التي عاشتها وصورتها ليلى العلوي خلال تواجدها بمعظم الأوساط الجغرافية المختلفة، منها طنجة، جنيف، داكار، باريس، ميلانو، تورونتو، بيروت وغيرها من الأصقاع العالمية. كم تفاعل عشاق التصوير الفوتوغرافي ومتتبعي مستجداته ومغامراته مع أعمالها الإبداعية في إطار معرض “المغاربة” الذي احتضنه البيت الأوروبي للفوتوغرافيا بباريس نهاية عام 2015، معرض يمثل مشروعها الأخير قبل وفاتها، ويتمحور حول بورتريهات بمقاييس طبيعية لأشخاص مجهولين ينتمون إلى مختلف الجماعات القبلية والعرقية بالمغرب. أقيم هذا المعرض لأول مرة في يونيو 2019 بالديار الإسبانية، وتحديدا في ضيافة البيت العربي بمدريد، وذلك ضمن فعاليات الدورة الثانية والعشرين لمهرجان “فوتو إسبانيا”: صور فوتوغرافية بليغة من عيون إبداع ليلى العلوي في الفترة الممتدة ما بين عامي 2010 و2014، وهي تجسد بلغة تعبيرية ورمزية في آن معا مشاهد واقعية من وحي الحياة المغربية بحس إبداعي جميل.

على آثار روبير فرانك وريتشارد أفيدون

حول المشروع الفوتوغرافي “المغاربة” الذي خاضت غماره ليلى العلوي بعيدا عن الدائرة الضيقة للرؤية الإثنوغرافية المتشبعة ببقايا الاستعمار، وخارج أقانيم البورتريه الاجتماعي بأبعاده الجغرافية والفولكلورية والغرائبية، كتبت الباحثة الأكاديمية الفرنسية جنفييف غيتيم، أستاذة الفنون التشكيلية بجامعة أورليانز غرونوبل: “يجسد عنوان المعرض ما يشبه الدين حيال الفنان الفوتوغرافي الأمريكي روبير فرانك وكتابه الفوتوغرافي “الأمريكيون” 1958 الذي يقدم صورة ذاتية لأمريكا من خلال رموزها الثقافية من أعلام وسيارات ومطاعم. وتسعى ليلى العلوي بدورها إلى أن توجه نظرة باطنية وناقدة وقريبة وبعيدة وإبداعية وذات اطلاع للمغرب المعاصر وناسه. وشأن فرانك الذي جاب شوارع وأزقة الولايات المتحدة على امتداد سنتين على متن سيارته الفورد العتيقة، فإن ليلى العلوي انطلقت على متن شاحنتها بغاية استكشاف الحقائق المحجوبة للمجتمع المغربي. وشأن فرانك الذي كان سويسريا وأمريكيا، فإن ليلى نهلت من انتمائها المزدوج كي تفسر مكانا جغرافيا وتسبغ على صورها بعدي الإبداع والتوثيق. يجلي إبداعها الفوتوغرافي حقيقة مؤداها أنه لا يسع فهم مرحلة زمنية أو بلاد ما، إلا من خلال الذاكرة. وشأن فرانك في نهاية المطاف فإنها كانت تصور كل يوم ووفق ترتيب في اللقاءات بالناس يعتمد الصدفة. وخلافا لفرانك الذي كان أكثر تركيزه على المشاهد الطبيعية فإن ليلى العلوي ركزت اهتمامها على البورتريه، لتعيد الاعتبار بهذا الصنيع على مرجع أمريكي آخر لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ريتشارد أفيدون الذي مثل مشروعه «الغرب الأمريكي» احتفاء بالمهمشين الذين صوروا بالأبيض والأسود وداخل استوديو قبالة إطار أبيض يلغي أي احتمال للوصل بين الوجوه وسياق خاص. ذهبت ليلى بدورها إلى الأسواق الشعبية لتقترح على المارة تصويرهم قبالة إطار أسود داخل شاحنة حولت إلى استوديو متنقل. يقوم الإطار الأسود بدوره بالعزل، لكن خلافا للأبيض الذي يقصي الوجوه فإن الأسود يقوي من عمق وبريق الألوان، ويكثف من تأثير حضور الأجساد والكثافة المادية للثياب. تتقوى هذه الكثافة أيضا بواسطة استعمال العدسات الضخمة التي تكشف تفاصيل البشرة والثياب. تخلق الخاصية الملموسة والعصية على الوصف لهذه الصور الفوتوغرافية، حالة من المواجهة والتقابل بين الأجساد والوجوه والنظرات، ونظرة الذوات التي جرى تصويرها ونظرات المتلقين. يجري تدعيم هذا البحث عن الحضور باختيار إخراج وطبع هذه الصور باعتماد سلم (أ) الذي يحترم المقاييس والأحجام الطبيعية، من أجل العرض في البيت الأوروبي للفوتوغرافيا.

الفنانة الفوتوغرافية وموضوعها، المتلقي والصورة، المغربي والغربي. كل ذلك في مستوى واحد. وتعرف ليلى العلوي باستحالة التخلص تماما من الرؤية الإثنوغرافية المتشبعة ببقايا الاستعمار. بيد أنها كانت تأمل في أن ينأى موضوعها عن البورتريه الاجتماعي لسياق جغرافي محدد. يتعلق الأمر بأن نخوض من خلال الصورة حوارا يقيم القطيعة مع الرؤية الغربية التي تكثف المسبقات الفلكلورية والغرائبية في خصوص المغاربة. وشأن ريتشارد أفيدون مع شخوصه المهمشة فإن ليلى العلوي تبرز الأناقة والكبرياء والعزة الموجودة بشكل فطري داخل كل فرد. وهي تقر بأنها ليست الوحيدة التي اختارت هذا السبيل الذي يتمثل حسبها في أن يكون رجع صدى للخطوة التصحيحية ما بعد الاستعمارية، التي التزم بها في الوقت الراهن العديد من الفنانين” (مقتطف من نص الأكاديمية الفرنسية جنفييف غيتيم، ترجمة وتقديم عبد المنعم الشنتوف، صحيفة القدس العربي، 14 يوليوز 2022).

انضاف إلى هذا المعرض الاعتباري البارز، معرض فني آخر بعنوان “صنع في الهند” ما بين 19 يناير و19 مارس 2024 برواق كونتينوا الباريسي، انفرد بتقديم سلسلة من الأعمال الفوتوغرافية والبورتريهات الموحية علاوة على عرض أيادي عاملة بأحجام ومقاسات كبيرة بصيغة حصرية، يتعلق الأمر بنساء يشتغلن بمصنع للنسيج التقطتها عدسة الفنانة، بحس فني مرهف، في أعقاب زيارتها لمدينة تشيناي الهندية عام 2014.

اشتغلت ليلى العلوي وفق مسلك علمي محكم على تقاطع الثقافات المغربية والفرنسية والمتوسطية، ملتزمة بمبدأ التوازي بين السرد التسجيلي والبعد الجمالي، حيث بادرت إلى إعداد وإنجاز شريط فيديو يفصح، عبر ثلاث شاشات وعلى خلفية موسيقية تأثيرية، عن بوح مهاجرين غير شرعيين من جنوب الصحراء الإفريقية في مواجهتهم لمتاهات الصحراء والغابة والبحر التي تطبع التخوم الفاصلة بين الجنوب والشمال.

إعداد: عبد الله الشيخ ابراهيم الحيسن

Top