بادرت فرق المعارضة بمجلس النواب إلى طلب تشكيل لجنة تقصي الحقائق حول: (واقعة استيراد الغاز الروسي وما ارتبط بها من شكوك بخصوص مدى شفافية العملية وسلامتها ومشروعيتها)، وهو الطلب الذي يستوجب توفير عدد التوقيعات المنصوص عليه في القانون لتأمين تشكيل لجنة التقصي.
السجال الذي أعقب هذه المبادرة ركز على الشكليات والشروط الإجرائية المطلوبة، وشمرت فرق الأغلبية والمدافعين عنها لقطع الطريق على المبادرة، واعتبارها مجرد مزايدة سياسوية من طرف أحزاب المعارضة البرلمانية، وتهجما من لدنها على رئيس الحكومة.
صحيح أن المبادرة من الصعب عليها أن تنجح لأن الفرق الواقفة وراءها لا تتوفر سوى على 63 نائبا من أصل 395، وهي تتطلب انضمام نواب آخرين من المعارضة، وكذلك نواب من الأغلبية، حتى يكتمل العدد المطلوب وتتحقق المستلزمات الشكلية والإجرائية، ولكن أساس المبادرة يكمن في روحها ومضمونها، وفي الموضوع المطلوب تقصي الحقائق بخصوصه.
وهنا كان على أحزاب الأغلبية، وأساسا حزب رئيس الحكومة، التقاط الإشارة، والسعي لإنجاح المبادرة، وربما تحويلها إلى طلب جماعي من كل مكونات مجلس النواب، وذلك، بالضبط، للدفاع عن رئيس الحكومة وإبراء ذمته مما يروج من شبهات.
موضوع استيراد الغاز الروسي والتباسات ذلك، واقتنائه بأسعار رخيصة وبيعه بسعر غالي في المغرب، وشبهات تبييض الأموال والتحايل على القانون، كل هذا تناقلته منصات التواصل الاجتماعي منذ مدة، وتطرقت إليه وسائل الإعلام، ولا طرف أو مؤسسة، مع ذلك، حرك أي متابعة أو تحقيق في الأمر، ولو من باب اعتباره مجرد شائعات أو شبهات، وبقي رئيس الحكومة، وهو فاعل كبير في قطاع المحروقات، هو المتهم الرئيسي في كل الذي يروج، وتتكلم عديد مجالس حديث عن ذلك، ومن ثم كانت مبادرة فرق المعارضة هدية ثمينة لرئيس الحكومة وحزبه وبرلمانييه، وكان عليهم الإمساك بها ودعمها لوضع النقاط على الحروف، ومن أجل البروز في صف الانتصار للشفافية والوضوح.
ليس الأساس اليوم هو الشروط الإجرائية والشكليات القانونية، وليس المهم هو أن المعارضة ستفشل في تشكيل لجنة تقصي الحقائق لأن عدد النواب المطلوب توقيعهم لا يسعفها، ولكن الأكثر أهمية هو أن الأغلبية والحزب الذي يقودها أفلتا فرصة لتأكيد براءتهم من كل ما يروج حول استيراد الغاز الروسي، وأبانا عن خوف واضح من الشفافية ورفض لها.
من جهة أخرى، مبادرة فرق المعارضة كان بالإمكان أن تؤسس للحظة إيجابية في الحوار السياسي الوطني من داخل مؤسسة البرلمان، ويستعيد، بذلك، مجلس النواب مكانته في احتضان الانشغالات الكبرى لبلادنا وشعبنا، وأن تعود بعض الحياة إلى جلسات المؤسسة التشريعية، وأن تستعيد ثقة المجتمع فيها.
لكن مرة أخرى تفشل المحاولة، ويصر البعض على جعل برلماننا يعانق الجمود والرتابة.
حزب رئيس الحكومة يقرر، مرة أخرى، رفض الشفافية والحوار الصريح مع البرلمان، عبر تضييع فرصة التجاوب مع طلب لجنة تقصي الحقائق التي بادرت إليها فرق المعارضة، كما أنه، قبل ذلك، كان تدخل للتهجم على حزب من المعارضة رفع رسالة إلى رئيس الحكومة، وبدل أن يجيب هذا الأخير عن الرسالة الموجهة إليه كلف حزبه بالدخول الشارد على الخط وكيل السباب للحزب الذي وجه الرسالة، وأضاع فرصة أخرى لتكريس حوار سياسي رصين وجدي وعالي الجودة بين رئيس الحكومة والمعارضة.
الواقعتان، وبغض النظر عن السجالات الشكلية والإجرائية العقيمة المتصلة بهما، تكشفان تبرم الحكومة وحزب رئيسها من الحوار الجاد والصريح، كما أنهما معا لا ينشغلان بتاتا بأي شيء له صلة بالتفاعل الإيجابي مع المعارضة أو ترسيخ التعددية وتحفيز النقاش العمومي الحقيقي، وهذا يهدد بتبخيس عمل الأحزاب والبرلمان وتتفيه السياسة بشكل عام، وأيضا توسيع الهوة بين حقائق وانشغالات الواقع وما تقوم به الطبقة السياسية والمؤسسات الوطنية، وبالتالي توسيع دوائر القلق والخيبة واليأس وضعف الثقة والأمل في المستقبل.
أما مبادرة فرق المعارضة بشأن طلب تشكيل لجنة تقصي الحقائق حول استيراد الغاز الروسي، فهي فعل سياسي ومؤسساتي إيجابي، وكان يمكن أن تقدم، لو تحققت، خدمة هامة لصورة بلادنا وللشفافية الاقتصادية، وأيضا لصورة الحكومة ورئيسها.
<محتات الرقاص