متحف الروافد دار الباشا.. تحفة معمارية وفنية في قلب مدينة مراكش

في الوهنة الأولى التي يحط فيها الأجنبي قدميه في مراكش، يجذبه سحر المكان، فيبدأ في البحث عن الأماكن التاريخية ليكتشف أسرار المدينة التاريخية، ثم يجد ضالته في أماكن مثل قصر البديع وقصر الباهية ومدرسة بن يوسف ودار الباشا الكلاوي.. يتجول في طقس مشمس، يأكل “الطنجية” ويعيش الأجواء الحميمية للمدينة الحمراء وسط ساحة جامع الفنا. ولعل دار الباشا الكلاوي، التي تقع وسط المدينة القديمة بمراكش من بين أكثر الأماكن التي تجذب السياح، بعد أن تحول جزء منها إلى متحف الروافد – دار الباشا.

يدخل السائح للرياض، للتجول في قاعات المتحف ثم لشرب قهوة في تجربة فريدة من نوعها. عاش فريق جريدة “بيان اليوم”، أيضا، سحر هاته التجربة التي سننقلها للقراء في ربورطاج عن بناية تحمل الكثير من الأسرار بداخلها.

تشرشل وشارلي شابلن في دار الباشا الكلاوي

استقبلت محافظة متحف الروافد – دار الباشا، سليمة أيت مبارك، فريق الجريدة، بغرض تزويدنا بالمعلومات اللازمة حول المتحف، شارحة أن “متحف الروافد دار الباشا، هو متحف تسيره المؤسسة الوطنية للمتاحف، وهي مؤسسة عمومية تسير المتاحف الوطنية في ربوع المملكة، وتنفذ الرؤية الملكية السامية التي تتعلق بتثمين التراث الثقافي ودمقرطة الولوج إلى المؤسسات الثقافية والمؤسسات المتحفية”.

اكتشاف السياح لمعرض لالة السعدي

 

تضيف سليمة: “تم افتتاح المتحف في دجنبر سنة 2017. ويرجع تاريخه إلى بداية القرن العشرين، بناه الباشا التهامي الكلاوي الذي كان باشا على مراكش، وهو مبنى جميل جدا، يحتوي على مرفقين، المرفق الأول يمكن أن نسميه بمرفق الاستقبال، وهو مرفق عمومي عبارة عن رياض، كان يستقبل فيه الباشا الكلاوي ضيوفه، وقد استقبل في هذا الإطار مجموعة من الشخصيات الفنية والثقافية والسياسية الشهيرة في بداية القرن العشرين مثل شارلي شابلن وونستون تشرشل وجوزيفين بيكر. وهناك، أيضا، مرفق خاص، كانت تعيش فيه عائلة التهامي الكلاوي”.

لمسة مغربية وغربية

بنيت الدار، التي تعتبر واحدة من مساكن الباشا التهامي الكلاوي (1878 – 1956)، بين سنتي 1907 و1956، يتوسطها الرياض، الذي يتكون من حديقة مستطيلة الشكل بها نافورة تتموضع بالوسط، وتسمى أيضا بـ “الخصة”، وقد جلب الباشا الكلاوي رخامها من إيطاليا. كما تزين الحديقة أشجار الزنبوع التي تعطي بهجة للمكان. فيما يضفي الزليج الفاسي رونقا خاصا على الرياض، بالإضافة إلى أنواع أخرى منها الزليج الإسباني والزجاج الملون (العراقي). تحيط بالحديقة ستة غرف تشهد على ذوق الباشا الكلاوي ومزجه في البناء بين الثقافة الغربية وهوية العمارة المغربية.

معرض لالة السعدي بمتحف الروافد – دار الباشا

أما زخارف الواجهات الخشبية لقاعات العرض، فجاءت مستلهمة من النهضة الإيطالية “هذا يدل على أن الباشا الكلاوي كان متأثرا بالثقافة المغربية، والهندسة المعمارية المغربية، ولكن، أيضا، كان مهتما بكل ما كان رائجا آنذاك من تعبيرات هندسية غربية. وقد أشرف على عملية البناء التي استغرقت أزيد من 40 سنة، عمال مغاربة. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن المتحف هو فقط جزء من المبنى الأصلي، الذي كان كبيرا لدرجة أنه أعطى تسميته للحي، حي دار الباشا في مراكش”. تذكر سليمة.

تنويع العرض الثقافي والاتصال بالبحث الأنثروبولوجي

بعد الترميم، بدأت المؤسسة الوطنية للمتاحف تنظم مجموعة من المعارض، وقد افتتح المتحف في دجنبر 2017، بمعرض مؤقت تحت عنوان “أماكن مقدسة مشتركة”، وكان بشراكة مع متحف الحضارات المتوسطية بمارسيليا.

تقول أيت مبارك: “كان الهدف من هذا المعرض هو مواكبة الأبحاث الأنثروبولوجية الحديثة التي أحدثت في حوض البحر الأبيض المتوسط، والتي لها علاقة بالتلاقح الثقافي وخصوصا الديني بين الديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. كانت الفكرة هي إبراز الممارسات الدينية المشتركة، والشخصيات المشتركة وأيضا المواقع التي يزورها الأشخاص الذين يؤمنون بالديانات الثلاث”.

بعض الآلات الموسيقية المعروضة

تختار المؤسسة الوطنية للمتاحف تيمات المعارض حسب السياسة التي تنهجها، والتي تهدف إلى تنويع العرض الثقافي، لإعطاء لكل متحف صبغة خاصة به، تميزه عن باقي المتاحف الأخرى، حتى يجد الزوار تنوعا في العرض الثقافي. ويمثل متحف الروافد جميع المشارب التي أغنت الذاكرة والتراث الثقافي المغربي، مثل الرافد الأندلسي، والرافد العربي الإسلامي، والرافد اليهودي، والرافد الإفريقي، والرافد الأمازيغي..

صالات المتحف.. حياة المغاربة عبر التاريخ

يعرض المتحف قطعا للمؤسسة الوطنية للمتاحف، تعود لمتاحف كبرى بالمغرب، مثل متحف البطحاء بفاس ومتحف الأوداية بالرباط، ومتحف باب العقلة في تطوان، ومتحف دار السي سعيد في مراكش.

يتم إغناء صالات العرض بمقاطع فيديو تبين حركية الحرفيين المغاربة. فمثلا يوجد في معرض “فن من نحت الزمن: الخشب بكل أنواعه”، وثائقي من إنتاج القناة الثانية، صور في سنوات التسعينات، يعطي للزائر فكرة عن عملية النحت على الخشب، وهي عملية قديمة جدا، تعكسها القطع المتحفية الموجودة بالمعرض، منها قطع ترجع إلى الفترة الوسيطة، أي القرن الرابع عشر، وأخرى ذات حمولة إثنوغرافية مهمة، يعود معظمها الى الفترة الممتدة من النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

تزخر قاعة العرض بقطع يستعملها المغاربة في معيشهم اليومي، مثل مدقة، تستعمل لتكسير السكر الذي يستعمل في الشاي المغربي (أتاي). وشمعدان ينير المنزل، وهو قطعة فنية نادرة ترجع لمتحف دار السي سعيد، تم إدراجها في لائحة التراث الثقافي المغربي. هناك، أيضا، مقعد للعبة العجلة، تابع للمجموعة المتحفية لمتحف الأوداية بالرباط. يرتبط هذا المقعد بذكرى المولد النبوي، حيث يتم نصب هاته الألعاب للأطفال الصغار في الساحات العمومية بالمغرب مثل ساحة جامع الفنا.
فيما خصصت قاعة أخرى للأكسسوارات النسائية، تحتوي على صناديق للمجوهرات، وأخرى خاصة بالكحل ومشط ومرآة، والكرسي الذي تجلس عليه العروس. أما القاعة الأخرى فهي تحتوي على بعض الآلات الموسيقية وأكسسوارات يلبسها الرجل في حياته اليومية وأثناء ممارسته للتبوريدة..

هناك قاعة مخصصة للدين والعلم، تحتوي على منبر من متحف دار السي سعيد، يرجع إلى القرن التاسع عشر، وتسابيح خاصة بالمتصوفة ولوحة فيها ألفية بن مالك وعقود عدلية، ترجع إلى بداية القرن التاسع عشر بجنوب المغرب.

فنون الخشب بمتحف الروافد – دار الباشا

ومن أقدم القطع في المتحف، أفاريز وعوارض خشبية ترجع إلى القرن الرابع عشر، وتكون في المنازل والمدارس القرآنية القديمة، خصوصا في المدن العتيقة مثل فاس وتطوان والرباط ومراكش.

أما القاعة الأخيرة فقد خصصت لفن الخشب بالمناطق القروية، مثل أبواب الإكودار أو المخازن الجماعية التي ترجع لمتحف دار السي سعيد. وتبنى الإكودار فوق مرتفعات، وتمتلك كل عائلة بالقبيلة غرفة خاصة بها في هاته المخازن، أو “البنوك الأولى” كما أسماها أندري آدم، تكون مفاتيحها عند أب الأسرة وأمين الإكودار. هناك، أيضا، صناديق لها نفس خصائص الإكودار، إذ يتم فيها تخزين كل ما له قيمة، لكن بأحجام أصغر.

تعكس القطع الخشبية التي يعرضها المتحف، تطور الخشب عبر التاريخ، مرورا بالنحت على الخشب إلى الصباغة على الخشب، ابتداء من القرن الثامن عشر. ويتم الاعتناء بها بشكل دائم للحفاظ عليها.

تقول سليمة: “بما أن الخشب مادة عضوية، فإن لديه ارتباطا وثيقا بالطبيعة، لهذا لا تؤثر عليه الطبيعة كثيرا. لكن تتخذ إدارة المتحف إجراءات وقائية مثل إبعاده عن الإضاءة الكثيفة والغبار، والماء، نفس الشيء بالنسبة للملابس والمخطوطات.. إذ يتم أخذ كل هاته العوامل بعين الاعتبار في قاعات العرض، وكذلك في القاعات التي توضع فيها القطع التي لا تعرض”.

حمام عائلي

بنى الباشا الكلاوي الحمام سنة 1336 هجرية، بينما بني الرياض عام 1328، كما هو موثق على الحوائط، مما يعني أن الحمام بني بعد الرياض. وقد زين برخام إيطالي يسر الناظرين. ويحتوي الحمام على ثلاث قاعات، تبدأ بالأكثر برودا وتنتهي بالقاعة الساخنة، كما هو الشأن في تصميم الحمامات المغربية العمومية التقليدية. هناك أيضا قاعة تجلس فيها العائلة للاستراحة بعد الاستحمام لشرب الشاي وأكل الحلوى المغربية.

                                                                                                                                                       **************

معرض لالة السعدي.. المرئي المكشوف

تحتضن “الدويرية” وهي عبارة عن فضاء خاص بالنساء بدار الباشا الكلاوي، معرضا مؤقتا تحت عنوان “لالة السعدي.. المرئي المكشوف”، بدأ من 30 من شهر شتنبر 2024 إلى غاية 23 من مارس 2025.

وتسلط لالة السعدي في سلسلة “حريم” الضوء، على البنيات الاجتماعية والتاريخية المعقدة التي تحيط بمفهوم الحريم كفضاء خاص بالنساء في العالم الإسلامي. ويحتفي المعرض بأعمال الفنانة التي تتناول موضوعات الهوية والتاريخ الثقافي.. من خلال إبراز فن العمارة الذي يتميز بزخارف هندسية ونباتية ونساء ترتدين قفاطين مغربية في تناغم مع الزخارف المحيطة بها. وتدعو السعدي الزوار، لتأمل المرأة في أعمالها، من خلال عدستها الفنية التي تقدم قراءات جديدة لحياة المرأة ودورها في هاته البيئات المنعزلة.

جدير بالذكر أن لالة السعدي هي فنانة مغربية تعيش بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وقد درست الرسم في باريس بمدرسة الفنون الجميلة، كما حصلت على الماستر في الفنون الجميلة من مدرسة متحف الفنون الجميلة بجامعة تافتس ببوسطن سنة 2003. وقد عرضت أعمالها بالعديد من المدن الأمريكية والبلدان الأوربية والعربية، وتمزج أعمالها بين الخط العربي وعدة تمثيلات للأشكال الأنثوية.

تقول السعدي: “توثق أعمالي تجربتي كامرأة عربية نشأت في الثقافة الإسلامية التي أراها اليوم من زاوية مختلفة تماما، إنها قصة بحثي عن صوت الفنانة الفريد الذي بداخلي، وليست محاولة لوضع نفسي كضحية، فهذا قد يحرمني من التعبير عن تعقيد المواضيع التي أعالجها”.

مبعوثا بيان اليوم إلى مراكش

ربورطاج: سارة صبري

تصوير: أحمد عقيل مكاو

Top