برزت للواجهة الإعلامية والمجتمعية في الأيام الأخيرة ملفات فساد ونصب جرى في إطارها اعتقال عدد من الأشخاص ومتابعتهم قضائيا بتهم الفساد الإداري والمالي والنصب والتدليس…
مختلف مجالس الحديث تتداول في هذه الملفات وتفاصيلها، وتتابع أخبارها وتطوراتها، وتتساءل هل الأمر يتعلق فعلا بإرادة حازمة من لدن الدولة لمحاربة الفساد والشطط في استعمال السلطة أم أن كل هذه القرارات هي مجرد حملات ظرفية على غرار أخرى وقعت من قبل؟
لقد جرى توقيف أشخاص، ضمنهم مسؤولين، على خلفية تلاعبات في صفقات لوزارة الصحة، وجرى اعتقال نائب برلماني ورئيس جماعة بمعية شركاء له بتهم اختلاس المال العام والاستيلاء على أراضي وأملاك وخروقات إدارية مختلفة، كما تم اعتقال جراح تجميل وصاحب مصحة خاصة بالدار البيضاء، ومعه متهمون آخرون، بتهم النصب والتدليس والتزوير والاتجار بالبشر، ثم عصابة تمارس الاتجار في الأعضاء البشرية…، وهذه القرارات كلها تبقى إيجابية، وهناك عدد من الضحايا يتطلعون لتطبيق القانون بشأنها، وذلك لإنصافهم، وأيضا من أجل حماية المجتمع وصورة البلاد.
تطرح هذه الملفات المتزامنة هذه الأيام ضرورة أن يسير القضاء إلى النهاية بشأنها، وتطبيق القانون في حق مختلف المتورطين، وذلك حتى لا يتكرر نفس مصير ملفات أخرى أثيرت من قبل، على غرار ملف اختلاس أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مثلا، أو قضايا أخرى كان قد انشغل بها الإعلام لشهور، ثم ما لبثت أن نسيت ولم يعد أحد يتكلم عنها.
ومع ذلك، فإن محاربة الفساد تفرض مقاربة شمولية، يعتبر الجانب القضائي والزجري أحد محاورها فقط، ذلك أن الجانب المؤسساتي يعتبر، بدوره، أساسيًا، حيث لا بد اليوم من تعزيز عمل الهيئة الوطنية للنزاهة ومكافحة الرشوة وتمكينها من شروط العمل والتدخل، كما أن الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، التي أعلن عنها سنة 2016، صار مطلوبا نفض الغبار عنها، والإنكباب على تحيينها وتفعيلها والعمل بها، ومن ثم، فإن إعمال مقتضيات دولة القانون في المجال الاقتصادي، وتطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في حق مختلف المسؤولين والمنتخبين، والقضاء على الريع والمحسوبية، كل هذا من شأنه المساهمة في تغيير العقليات، وإنماء الوعي العام، وبالتالي توفير شروط البيئة المجتمعية المحفزة والداعمة لتحقيق النزاهة.
المدخل القانوني والقضائي يبقى إذن أساسيًا وضروريا لمحاربة الفساد، ولكن أيضا من الضروري تمتين وإعمال المداخل الأخرى: الآليات المؤسساتية، منظومة المساطر والإجراءات، التحسيس والتوعية والتربية وتعبئة المجتمع، وكل ذلك من أجل تقوية محاربة الفساد في الوسط الاقتصادي والمالي، وضمن منظومة التدبير الإداري العمومي، وعلى صعيد الجماعات المحلية…
إن ملفات الفساد المتزامنة هذه الأيام تقدم لنا أيضا دروسا أخرى لا تقل أهمية، ومنها تورط عدد من أباطرة تزوير الانتخابات وشراء الأصوات…
وعندما نضيف إلى ذلك غضب بعض المنتخبين هذه الأيام في جهات مختلفة من مذكرة وزير الداخلية بشأن حالات التنافي لديهم بين عضويتهم في مجالس الجماعات المنتخبة وارتباطهم الشخصي بجمعيات أو مشاريع تمول من الجماعة نفسها التي هم أعضاء فيها، فإن هذا يكشف نوعية هؤلاء المنتخبين، ويفسر حجم المبالغ المالية الخيالية التي صرفت خلال الحملات الانتخابية الماضية لنيل المقعد، والغاية من ذلك، وهو ما يفرض أيضا الالتفات إلى تسرب أباطرة الفساد إلى العمل السياسي والانتخابي، وولوجهم إلى المؤسسات لحماية أنفسهم ومصالحهم الريعية من داخلها.
وعندما يحدث التلكؤ في الإقدام على قرارات أو إهمال مصالح شعبنا، فهنا يكون دور هذه اللوبيات واضحا، وهي التي تضغط وتبتز من أجل عدم المس أو الاقتراب من مصالحها.
منظومة الفساد، تبعا لما سبق، باتت اليوم أخطبوطية ولها امتدادات وعلاقات متشعبة ومركبة، وهو ما يبرر الحاجة إلى توفر إرادة سياسية قوية وواضحة لمحاربتها، ويستوجب إعمال مقاربة شمولية في ذلك، يحضر فيها الجانب القضائي والزجري، وأيضا الجانب المؤسساتي والقانوني والتنظيمي، علاوة على الجانب التأطيري والتنويري والتعبوي والثقافي.
<محتات الرقاص