نظم مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية ندوة وطنية بعنوان “اللغة والهوية” يوم الخميس 16 دجنبر 2021، في مدرج عبد الله العروي، بكلية العلوم الإنسانية بنمسيك جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وقد مرت الندوة عبر جلستين؛ الجلسة الافتتاحية وبعدها الجلسة العلمية.
بدأت أشغال الندوة بجلسة افتتاحية ترأستها الأستاذة لطيفة لبصير حيث قدمت للندوة بشكل عام وأعطت الكلمة لعميد الكلية الأستاذ الدكتور عبد القادر كنكاي الذي أشاد بالعمل الذي يقوم به المختبر والأنشطة المهمة التي ينظمها في إطار مواضيع متعددة، كما أشار إلى أهمية اللغة وضرورة الاهتمام بها.
انتقل الكلام بعده إلى مدير مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية الأستاذ عبد اللطيف محفوظ لكي يلقي كلمة باسم المختبر، والتي تضمنت شكرا خاصا للعميد عبد القادر كنكاي على كل ما قدمه للمختبر طوال السنوات الفارطة، بالإضافة إلى ذكر فضله في فتح ماستر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية، ومساهمته في إعادة اعتماد مختبر الدكتوراه في السيميائيات.
وأشار الأستاذ عبد اللطيف محفوظ ضمن كلمته إلى عنوان الندوة الذي وإن بدا لقارئه أنه موضوع تمت معالجته مرات عديدة إلا أنه يقبل التجدد في كل مرة، ذلك لأنه موضوع تتقاطع فيه مجالات شتى، إذ يمكن معالجته ثقافيا وسرديا واجتماعيا وسياسيا وأديولوجيا، ثم إن تجديد طرحه يؤدى بالضرورة إلى تجديد فهمه وفهم واستيعاب أسئلته، كما أن مفهوم الهوية نفسه ليس مفهوما ثابتا وإنما يقبل التغير باستمرار. وأضاف كذلك أن موضوع الندوة ” للغة والهوية” مرتبط بشكل أساس بكل ما هو إنساني في اللغة وليس اللغة بوصفها أصواتا، أو وعاء لتمرير المعاني وإنما هي حاملة لوعي إنساني وشحنة عاطفية خاصة.
وفيما بعد، أعطت المسيرة الكلمة للأستاذ رشيد الإدريسي ليلقي كلمة اللجنة العلمية والتي وصف فيها اللغة بأنها قنبلة موقوتة إذا لم يتم مناقشتها بالتزام الحياد والابتعاد عن الانحيازات السياسية حتى لا تتحول (اللغة) إلى أداة للحرب.
وانتقل الأستاذ بعد ذلك إلى ذكر بعض مسوغات اختيار الموضوع؛ من بينها: الاحتفال بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، واعتبار اللغة أداة لممارسة المخاتلة، ثم اعتبار البحث في اللغة فرصة للبحث في علاقاتها مع اللغات الأخرى.
يعود الكلام إلى مسيرة الجلسة الأستاذة لطيفة لبصير مؤكدة على أهمية موضوع الندوة وخصوصا اللغة التي يمكن أن تدرس في كل وقت من عدة جوانب مختلفة، مشيرة كذلك إلى أن عز العرب في عز لغتهم. بعدها تشكر المسيرة الحضور وترفع الجلسة الافتتاحية.
رد الاعتبار للغة العربية
بدأت الجلسة الثانية من الندوة التي ترأسها الأستاذ عبد العلي معزوز حيث رحب بالحضور الكريم، وتحدث بعدها عن السياق العام الذي جاءت هذه الندوة ضمنه، ومن ذلك الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية واعتبار الجامعة موطن اللغة بشكل أكاديمي.
وأشار كذلك في افتتاحية هذه الجلسة إلى مسألة اعتبار اللغة العربية في ما مضى في وضع دوني في علاقاتها باللغات الأخرى، لكن مع مرور الزمن تم رد الاعتبار للغة العربية باعتمادها لدى الأمم المتحدة بوصفها لغة من اللغات الرسمية إلى جانب اللغات العالمية الأخرى. ثم يمرر المسير الكلمة إلى الأستاذ محمد حفيظ للبث في موضوع الندوة من ناحية لسانية بحكم تخصصه في المجال.
وطرح الأستاذ محمد حفيظ ضمن مداخلته -التي عنونها بـ”الوضع اللغوي بالمغرب بين لغات الهوية والهويات اللغوية”- مجموعة من الأسئلة بخصوص الموضوع، منها: هل نحن أمام لغات كثيرة يمكن اعتبارها كلها لغات ضمن هويتنا الخاصة؟ هل يتعلق الأمر بهوية واحدة أو هويات متعددة؟ لماذا هذا التعدد اللغوي؟ لماذا تموت لغات وتبقى لغات أخرى حية؟ لماذا تتوقف بعض اللغات عن التطور أو تطورها بطيء؟
يشرع الأستاذ في الحديث عن اللغة لسانيا، حيث أشار إلى أن ذلك يفرض الرجوع إلى فيردينالد دوسوسير باستحضار مفاهيمه من صرف وتركيب ودلالة ومعجم، ومن كل ذلك يطرح سؤالا مفاده: هل حينما نتحدث عن اللغة نقول أنها مرتبطة فقط بالمستويات أو المفاهيم السالفة الذكر أم أن الأمر تتدخل فيه مجموعة من القضايا من قبيل (الفكر – الحضارة – المجتمع – العقل – الحرب والسلم…) إلى غير ذلك من القضايا التي تطرح حينما نتحدث عن اللهوية؟.
حاول المتدخل الإجابة على سؤاله بالقول إن موضوع الندوة لا يمكن أن تتم دراسته من وجهة لسانية صرفة لذا لا يمكن أن تختزل في الدرس اللساني فقط وإنما لابد من انفتاحها على كل ما هو أنثروبولوجي وثقافي.
وأضاف في معرض حديثه عن التقابل بين اللغة والهوية، فاللغة ليست هي الهوية فقط وإنما تتدخل في ذلك مجالات أخرى، إن اللغة جزء من الهوية ولا نقول إن اللغة تطابق اللهوية.
يستحضر الأستاذ محمد حفيظ حدثا راهنيا له علاقة بالموضوع ويدخل في باب صنع الصراعات وتأجيجها، ويتعلق الأمر بالتظاهرة الرياضية “كأس العرب”، التي أثارت نقاشا في ما يخص التسمية، حيث أشار بيان أصدرته جمعيات أمازيغية إلى رفضها هذه التسمية العرقية لما فيها من إقصاء للعرقيات الأخرى، ومن ذلك يطرح المتدخل سؤالا مفاده هل كل ما هو عربي ينفي العرقيات الأخرى (الأمازيغية مثلا)؟ ويختم -محاولا الإجابة على السؤال- بالإشارة إلى أن كلمة “عرب” لا تحيل إلى عرق وإنما إلى ثقافة وجغرافيا… كما أن معايير الانتماء لا توجهها اللغة فقط وإنما يدخل في ذلك كل ما هو ثقافي وحضاري وديني وما إلى ذلك.
ترجع الكلمة بعد تدخل الأستاذ محمد حفيظ إلى مسير الجلسة الأستاذ عبدالعلي معزوز حيث حذر من السقوط في مشكل العرقيات أو “الهويات القاتلة”. ويعطي الكلمة بعد ذلك إلى الأستاذ رشيد بن السيد.
لغمة موحدة
يشرع الأستاذ رشيد بن السيد في مداخلته المعنونة بـ “الهوية بين اللغة والخطاب حول اللغة”، إذ أشار إلى مجموعة من الأفكار نورد منها تناوله لموضوع اللغة، حيث أنها ساهمت في إذكاء الانتماء فاللغة أحد أهم الروابط التي تجمع المجتمع وتشكل إحدى المحددات الكبرى للهوية، فاللغة الموحدة تضمن هوية موحدة، فكل الدول وحدت نفسها بلغة موحدة وهي مرآة للبنيات الفكرية السائدة في المجتمع، إن اللغة وعاء للفكر والمعرفة، وقد دأب المفكرون على البحث عن كيفية اشتغال اللغة ووظائفها واجتهد المتخصصون في علوم شتى (الاجتماع – لسانيات…) في ضبط هذه الإشكالات لكي يتم فهم المعايير الثقافية والاجتماعية التي تحكم السلوك اللغوي.
إن جميع الدول تعمل على إذكاء روح الانتماء إلى الهوية الوطنية بالاستناد إلى اللغة، ذلك لأن اللغة ضرورية لتأسيس هوية جماعية وهي أساس التناغم الجماعي الاجتماعي، وتخلق التضامن بين الأجيال السابقة واللاحقة.
إن العلاقة بين اللغة والهوية معقدة لأنها ليست استعمالا فقط بل إنها كل مرتبط ومركب ومعقد ورغم أن هناك لغة مشتركة إلا أن هناك اختلافا في العادات والتقاليد. ولفهم كيفية تشكل الهوية الجماعية لابد من فهم طريقة تداول واستعمال هذه اللغة ومعاني كلماتها ، فاللغة ترتبط بالشروط الاجتماعية لإنتاج الأفكار وتداولها، ولذلك لابد من التمييز بين المفاهيم (الكفاءة الوضعياتية والخطابية والدلالية والسيميولسانية) فهذه الكفاءات هي التي تفرض استعمال الكلمات بطريقة معينة، هذا إضافة إلى أن هوية المخاطب هي التي تحدد طبيعة الكلام، والاستناد إلى هذه السياقات الثقافية تختلف من مجتمع لآخر.
بعد أن ختم الأستاذ رشيد بن السيد مداخلته يتوجه رئيس الجلسة ويعطي الكلمة للأستاذ سعيد أصيل الذي عنون مداخلته بـ “تحديات التعدد اللغوي والهوية في المغرب: ملاحظات نقدية”.
وأشار في مستهل حديثه إلى اللغة باعتبارها وعاء للفكر وأداة للتواصل والحلم، ثم ذكر بعد ذلك بعض التحديات التي اصبح المغرب يعيشها في ما يتعلق بمشكل التعدد اللغوي، إذ اعتبره مشكلا مفتعلا لإلهاء الشعوب عن مشاكل أهم، إضافة إلى أن مشكل التعدد اللغوي له تأثير على اللغة الأم (اللغة العربية)، وحينما تستهدف اللغة في المغرب من قبل جهات معينة، فذلك استهداف للهوية المغربية بشكل مباشر، وقد أرجع المتدخل أسباب مشكل التعدد اللغوي إلى الاهتمام بلغات أخرى غير اللغة الأم، ثم محاولة إقصاء تدريس اللغة العربية في المعاهد العليا رغم تنصيص دفتر التحملات المغربي على تدريسها إلى جانب اللغات الأجنبية، ثم ما يتعلق بالاستعمار الفرنسي الذي أرسى وما يزال أسس لغته في البلاد.
ترجع الكلمة إلى رئيس الجلسة حيث ذكر بعض التعقيبات على مداخلة الأستاذ أصيل، إذ أشاد بالهم التأصيلي الذي يحمله المتدخل وهم المحافظة على اللغة في أصالتها. كما شبه مجال اللغات المستعملة بسوق اللغويات الذي تعرض فيه كل لغة مميزاتها، فاللغة الأغرى والأقوى هي التي تفرض نفسها على المتكلمين. بعد ذلك يعطي رئيس الجلسة الكلمة للمتدخل الأخير الأستاذ رشيد الإدريسي.
عنون الأستاذ رشيد الإدريسي مداخلته بـ “اللغة والهوية في الحالات القصوى” وقصد بالحالات القصوى تلك الحالات التي تتم فيها سيطرة اللغات على المجتمعات (الفرنسية بالنسبة للمغرب). وأشار أن مبدأ الانفتاح على اللغات الأخرى أمر واجب ولا يمكن التنازل عنه لكن أن لا يكون على حساب اللغة الأم وأن لا يتم إقصاؤها، فاللغة العربية تم سجنها في المعبد وأغلق في وجهها مجال الإنتاج المعرفي كي لا تتطور وتطور مصطلحات جديدة، بالإضافة إلى استهدافها من خلال قضية الهوية، هذا فضلا عن ربط اللغة العربية بقيم سلبية، بل إن الهجوم على اللغة العربية يأتيها أحيانا من متكلميها أي من العالم العربي، لذلك أكد الأستاذ رشيد الإدريسي على ضرورة مواجهة الخطاب السلبي حول اللغة وليس اللغات في حد ذاتها.
في الأخير فتح رئيس الجلسة الأستاذ عبد العلي معزوز باب المناقشة حيث طرح الحضور مجموعة من الأسئلة تضمنت الإشارة إلى ما يتعلق بإشكالية الترجمة إلى العربية ومسألة إمكانات تطوير اللغة العربية لتكون في مصاف اللغات العالمية المتقدمة.
عبد الرحمان أوسليمان