مدخل إلى ظاهرة الخجل

استهلال
تتعدد المدلولات العلمية التي يعرف بها العلماء و الأخصائيون ظاهرة الخجَل(La phobie sociale) وتتباين أيضا. إذ يقول المختص السوري في الطب النفسي د. حسان المالح مستعملا مفهوم الخوف الاجتماعي بدلا عن الخجَل: “إن الخوف الاجتماعي هو من الاضطرابات النفسية المنتشرة”(1)، وتصفه دة. سناء محمد سليمان، أستاذة علم النفس في جامعة عين شمس، بقولها: “كلمة تحمل معاني طيبة ومعاني أخرى مرضية، فالخجَل عندما يكون نوعا من أنواع الحياء يكون مطلوبا على الصعيد الاجتماعي والديني… والخجَل من أكثر الأمراض النفسية انتشارا في العالم”(2).. في حين يقول عنه العالم البريطاني في علم النفس الاجتماعي راي كروزيي(Ray Crosier) : “وليس لكلمة الخجَل معنى دقيق محدد، فهي تتضمّن معاني الحذر والاحتراس والجبن والكف عن السلوك”(3).
أيا يكن المدلول العلمي لمفهوم الخجَل، فنحن إزاء ظاهرة بشرية جد مهمة وجد مركبة، فهي تتعلق بالبعدين الاجتماعي والنفسي اللذين يفصِل – وكما نعلَم – بينهما فاصل معرفي دقيق.
وبهدف أن نفهمَ ظاهرة الخجَل، سنطرق عددا من الموضوعات وثيقة الصلة التي يستحسَن تقسيمها على النحو الآتي :
أولا: الخجَل.. واللامسؤولية
ثانيا: الخجَل العاطفي.. عامل اجتماعي ونفسي
ثالثا: الفردانية
رابعا: العنف الارتدادي وأفق الإجرام (الانتقام)
خامسا: الخجَل.. والعقَد النفسية

أولا: الخجل.. واللامسؤولية
الخجول يستحيل أن يكون مسؤولا عن نفسه، أي أن يلبيَ كل متطلباتها للعيش السليم. كل مسؤوليته أن يؤدي ما هو غريزي من أكل، وشرب، وإخراج ذلك، وما إليه. من الضروري أن نضعه تحت الوصاية الجماعية لنحقق له، بدلا عنه، متطلباته الشخصية، على الأقل، العامة منها كمرافقته لاقتناء ملابس، أو زيارة الطبيب، أو أخذه إلى مدينة أخرى… أما المسؤوليات الدقيقة التي هي لصيقة بالمرء، فلا يستعاض بالوصاية الجماعية عن أدائها شخصيا – وإن حدث ذلك فلا يجاوز حد الدفاع عن المعني ضد اعتداء جسدي أو معنوي – لأنها تعني الفرد بالدرجة الأولى، وتعول على قدرته الخاصة في تنفيذها.
إن من الحتمي أن ينتقل هذا الفرد من إطار الأوصياء (العائلة) إلى الوسَط الخارجي (المجتمع). في هذه الحال، تكون كل هذه المسؤوليات – ومثلما سبقَ – على عاتقه. وأعني بها كل ما هو رمزي تؤديه النفس بفعل الاحتكاك مع المجتمع، وهي: الأمن الشخصي، بصفته أوجب واجبات الذات، والتفاعل مع الآخرين، والتوازن بين الجسد والروح. فالأمن الشخصي هو قدرة الذات على منع الاعتداء (الجسدي والمعنوي) أو التجاوب الحسَن مع الآخرين استنادا إلى عامل مكتسب هو السلطة الاجتماعية – وَتسميها عامة الناس بالهيبة – تشكل مجالا فاصلا بين الذات والآخر. هذا المجال يقيد التعامل الغيري مع الذات بما يجب أن يقال أو ما يجب أن يقام به. (بالفعل، لكل فرد هذه السلطة الاجتماعية التي تمكنه من أمنه الشخصي الذي لا تستقيم الحياة مع المجموع إلا به) والتفاعل مع الآخرين الذي يكون مسؤولية الشخص (في غياب إطار الأوصياء) هو عبارة عن عمليةِ لغوية منفعية بالدرجة الأولى، إن لم نقل أنها كل معنى التفاعل، تنسحب اضطراريا على الشخص المعني، فيكون عليه أن يستعمل اللغة وسيلة لردة فعل مفروضة مرفقة بتوتر يسرع من النطق، فإما أن يسمع ما يقال لشيء من الوضوح، أو لا بفعل اختلاط الألفاظ وامتزاجها. الحقيقة أن الكلام استجابة للغر(طلب معرفة الوقت على سبيل المثَال) يكون النطق فيها آليا لا دخل لإرادة الوعي على مستوى تنظيم الحروف وأدائها للمعنى بطريقة مريحة.
أن يكون النطق آليا فمن المتفهم ألا تسلم أذن السامع من التلعثم الواقع جراء غلبة التوتر.. وإن اللغة، على العيب اللا إرادي، هي الوجه الوحيد للتفاعل الاجتماعي عند الخجول، ولولاها لصح أن نصفه بالفرد المطلق، بمعنى الخارج عن نطاق الجماعة البشرية كلية. وقد تستعمل إرادية أحيانا لهدف من الأهداف، وعلى الشاكلة المقصودة، لكن أمر الفردانية لا يتغير.
بينما عملية التوازن بين الجسد والروح، وهي ضمن الأمن الشخصي، تميز الوجود الحي عن الوجود المعطل ويحظى بها الأشخاص الاجتماعيون، وبها يؤثرون في أوساطهم تحت كل العوامل والأسباب. إنهم أحياء – فوق الحياة الطبيعية – حياة نفسية سليمة.
ننظر إلى الجسد في هذه العملية كشكل طبيعي، وطرف توازن مهم بينه وبين الروح التي تخصّ ثلاثة أشياء :
1 اللسان :إعمال اللغة للتواصل والتفاعل بحرية ووضوح.
2 الجسَد :التصرف إراديا.
3 العقل: الإبقاء على الآراء والقناعات الشخصية ومشاركتها مع الآخرين.

ثانيا: الخجل العاطفي.. عامل اجتماعي ونفسي
الخجَل إما مرضي ثابت، أو سلوك ظرفي. أما المرضي فلا يستقر في النفس بغير حساسية وجدانية، تبقيه وتحدث آثاره، وتعمقها، والحساسيةُ الوجدانية هي القابلية المكتسبة لتأثر النفس بكل ما هو مؤذ من الناحية الرمزية، وكذلك احتواء هذا الأذى في شكل ردة فعل نفسية خفية، قابلة للمضاعفة أكثر من مرة. فيما الخجل، كسلوك ظرفي، فمن المعتاد عند المجموع، بفعل أن الشخص، في تفاعله الاجتماعي مع الآخرين، لا بد من ألا يحتوي بما له من سلطة اجتماعية (الهيْبَة) موقفا من المواقف، فيقومَ بفعل لا إرادي، فعل دفاعي، على الأقل، للتخفيف منه كالتبسم المفاجئ، أو تخليل الأصابع، وما إلى ذلك من الأفعال الدفاعية. وكل من الصنفين غير نافع، وعجز في الذات، مع اختلاف الدرجة، وسعة الرقعة بينهما.
إن الحساسية الوجدانية نتيجة مباشرة للفراغ أو النقص العاطفي. هذا الاختلال يعود إلى أداء دور الأمومة – بشكل غير كافٍ – ما يعني عدم تقديم العناية الوجدانية – وهي أهم ما يحتاجه الطفل قبل الغِذاء في مراحله الأولى التي يرتبط فيها بأمه ارتباطا لا يكون من بعد أبدا – كما يلزَم تقديمها. الأمر الذي يسبب قدرا كبيرا جدا من العاطفة.
العاطفة الزائدة تفضي إلى تغليب المشاعر على القيام بالتصرف المناسِب وفق المطلوب داخل المجموع. إذن، فالشخصية لا تكون متوازنة، ولا تفاعلية على السواء.
أيضا، فالإرادة الفردية، بهذا النوع من العاطفة، تنتفي لصالح إرادة الآخرين على مستوى اللغة والسلوك وتدفق الأحاسيس والفِكر.
بإلغاء الإرادة الفردية، يتمّ اللجوء إلى السلوك الدفاعي بغية إبقاء الذات بعيدة عن ضغط خارجي لجهة ما خوفا من مظاهر الخضوع وتحاشيا للآثار النفسية المحتَمَلة.
هل تتسرب العاطفة الشخصية أم تقف ضدها القوة الضاغطة؟
فعلا، تتسرب العاطفة الشخصيّة في أحايين معينة في شكل، ربما، يصح أن يكون الشكل العام لهذا التصريف لكثرة تكرره. وهو البكاء كفعل يعكس مشاعر الألم. البكاء سلوك جسماني. غالب ما يعبر عنه أحاسيس سلبية.
إلى جانب ذلك، بالإمكان تسريب إحساس بهدف تعطيل إحساس آخر كالخوف ضد الحزن (تصادم العواطف).
ومن الجيد أن نحاول التمييز بين مصطلحي السلوكات الدفاعية، وغير الدفاعية، لأجل معرفة مدى الخطر فيهما.. فالأول هدفه الهروب من الآخر بالوسائل السلوكية الممكنة، بقصد تجنب أي تهديد أو أثر. إضافة إلى أنه يعد – إلى حد ما – واقيا، غير مضمون النجاعة، وعاملا لتعزيز النزعة الفردانية. وليس بإمكانه تعويض الحاجة إلى المجتمع، أو الحياة البشرية المعتدلة. وبالنسبة للثاني، فأكثر خطرا.
من المؤكد، أن سلوكا كهذا – وأكاد أقطع بأنه البكاء عامة – يؤسس لأرضية تستقبل أشكالا من العنف الخارجي، وتجعلها أمراضا أو اختلالات قابلة للحياة، والاستدامة على مدى أطول. كما تؤدي إلى مآلات حياتية عدة.

أولا: الاختلالات
1 الإثارة :جلب انتباه الآخرين واهتمامهم عن طريق فعل أي شيء جيد من شأنه تحقيق ذلك (قراءة كتاب مثلا).
2 التناوب: تناوب الشعور بالهزيمة والانفعال الفجاني في النفس نتيجة للعنف.

ثانيا: المآلات
1 الانهزامية: تقبل الوضع القائم والاستسلام له (الدونية، العدَم، القمع…).
2 الفشَل :وقوف سقف الأهداف عند المطالب الضرورية للحياة (أكل، شرب، ملبَس، عمَل) وانتفاء الطموحات الكبيرة.
3 الصبيانيّة :معاملة الفرد كالطفل دون مراعاة لسن أو لشيء آخر دونه (الدلال مثلا).
4 الحِصار: الوقوع بين العنف المجتمعي، والخوف من الموت (الانتحار).
5 الجنون: الفقدان النسبي للوعي.

ثالثا: الأمراض
1 الوحدة :الانغلاق الإجباري على النفس.
2 الاكتئاب :السوداوية (حزن، انكسار، تشاؤم، انفراد).

ثالثا: الفردانية
الخجَل، بطبيعته، ينبني على النزعة الفردانية ويلازمها مع العلم أن هاته النزعة ليست دخيلة على السلوك البشري، أو مقصورة على المرضى(4)؛ لأنها ميل سوي لكن بمقادير متفاوتة بين فئة وفئة، ولأن البحث بين الفينة والأخرى عن شيء من الذاتية، بما فيها من تأمل وتحرر وانطواء وسكون مطلب نفسي مهم ينأى بالفرد قدر المستطاع عن فطرة الاجتماع بكامل مظاهرها.
فردانية الخجَل هي بمقدار لا تطيقه الطبيعة البشرية، يستقر به كل من الصمت والانزواء على أنهما ديدن معهود في الأفعال عموما.
الصمت يعدو توقف الفرد عن الكلام إلى الإلغاء الواعي، واللا إرادي لأسمى وظائف اللغة، وهي التعبير، وبهذا الإلغاء فالذات تضع نفسها على الهامش وجوديا، وكأنها دخيلة على الجماعة.
إن احتمال الصمت في أول الأمر عملية ممكنة، إلا أن استمرار ذلك، مع مرور الوقت، يصبح صعبا جدّا. ذلك أنّ الفرد(5) يعي ضرورة الانصراف عن عزلته التعبيرية بهدف التحقيق العملي لذاته عبر إشراك آرائها وقناعاتها وأهدافها وسماتها، كما يفعل جل الآخرين.
بالطبع، فالعائق أمام هذا التحرر موجود ومتين إلى حد تفشل معه المحاولات، أو لا تحدث في الأصل. إن ما يعيق هذه العملية هو ذات السبب الذي يدفع بالنفس إلى الصمت وإلى الانزواء، أعني الخوف الذي يهمنا أن نتعرفَ إليه عن كثب؛ لأنه الفاعل الأساس في منظومة الخجَل ككل.
إن الخوف(La phobie) ، في حقيقته، عجز عن المضي قدما. عجز لا يفسره عنف أو صدام بالمجهول – كما الأمر عند أغلبية الناس – وإنما يفسره انتقاله وراثيا على هيئة مورث صفاتي(Un gène) ، من أحد الأبوين، وبالأخص الأم التي تتسم بمقدار كبير من الحس الوجداني.
من غير اليسير أن نعلل الخوف، ومن ثم الخجَل، بغير نظام توارث الصفات. كما يبدو صعبا أن ينقل الأب هكذا أمر إلى سلالته، ولو مع تواجد ما يمكن أن نسميه بعامل التوريث أو الحيوانات المنوية (Les spermatozoides) لأن النفسية الذكرية غالبا ما تميل إلى القوة والثقة. على النقيض من النفسية الأنثوية. لهذا، فالأم من الممكن اعتبارها ناقلا رئيسا للرهاب (الخوف).
غير أن انتقال هذا الأمر من الأب يظل احتمالية قائمة استنادا إلى اختلاف البناء النفسي بين الذكور أنفسهم.

وبما أن الخوف الذي يخالج الفرد غير طبيعي، فالأمن أو الاستقرار النفسي في الأماكن العمومية المكتظة ينعدم مما يرفع إلى حد كبير من سرعة خفقان القلب على غرار ما يحصل عند وجود دوافع تخويف حقيقية. فيما لايشتد الخفقان، أو التوتر في أماكن خالية تماما أو أقل ازدحاما بالعامة، بسبب إفساح مجال من الارتياح والانعتاق.
هذا الخوف سيمنع، بقوة، الخروج من دائرة الوصاية الجماعية إلى الاعتماد على النفس عن طريق توظيف الاعتقاد المترسخ بخطورة الأفعال الفردية وفشلها. ناهيك عما يقع فيه الذهن من عدم الارتياح للمستقبل (تساؤلات القلق).
إضافة إلى صعوبة الأفعال الفردية بفعل المخاوف النفسية، يصل الفرد إلى حالة العبودية الاجتماعية. فيسهل استغلاله لأكثر من غرَض من طرف أشخاص انتهازيين، ينتمون إلى أشد الفئات فقرا وأكثرها تهميشا، ولا قبل لهم بالأخلاق.
الأفعال التي تؤدى لصالح هؤلاء الاستغلاليين (أو الأسياد) تنفذ بشكل آلي دون أدنى اعتراض على شاكلة تفاعل الأطفال المتقدمين سنا مع ما يوجه إليهم من أوامر من الوسط المحيط.
وبالرغم من المساوئ التي بيناها، فإن الفردانية لها وجه إيجابي يتمثل في إتاحة الفرصة ذهنيا وزمانيا للتعلم والابتكار، وبناء فِكر شخصي متكامل مستقل، خاصة، بالمطالعة والكتابة.
إن الفرداني يستبدل الذكاء المعرفي الثاقب باجتماع لا جدوى منه في أغلب الأحايين. ذكاؤه هذا يمنحه المقدرة على تشكيل كل ملامح شخصيته الباطنة، إذ يؤسس لمواقفه السياسية والاجتماعية والفكرية ولنسقه الأخلاقي أيضا، وحتى لأسلوب التحاور والتناقش.
يظهر أن الفردانية تفضي إلى التناقض عند الشخص الواحد، فمن جهة هو ذو بنية نفسية هشة تعرضه للوصاية والاستعباد والتوتر، ومن جهة أخرى ذو بناء فكري وأخلاقي متين.
الشخصية الباطنة مهمة جدا بالنسبة للمجتمع، خصوصا في ظل الاستبداد لأنها تدل على وعي يقِظ. لكن من الناحية النظرية فقط، ومن الناحية التطبيقية فلا.
يتبنى الفرد داخل مجتمع الشمولية فِكر المناوأة السياسية، والحلم بالتغيير الجذري صوب قيم العدل والحرية والحقوق المدنية المتساوية في الخفاء. ويصِح القول هنا إن الفرد في حالة ثورية خامدة لا جدوى عملية منها.
وإذا انعدم الذكاء المعرفي، فإن الفرد لا يستفيد من فردانيته شيئا ولا يؤسس لشخصية خفية، متكاملة الأركان، ولا يستقل بنفسه فكريا عن غيره. لا يستفيد سوى ديمومة النبذ.

رابعا: العنف الارتدادي وأفق الإجرام (الانتقام)
إن هشاشة البناء النفسي (الخوف) عند الخجولين تحول دون الدفاع عن النفس أمام العنف الخارجي، اللفظي والجسماني، ما يتيح تقبل الاعتداء بل ومهادنة المعتدين كأن لا ظلم يمارسونه.
ويترجم هذا الاعتداء إلى ألم نفسي في زمان ومكان معينين دون النظر إلى ما هو أبعد من ذلك أول الأمر. ولا يتحول (أي الألم النفسي) إلى فكرة قارة إلا بعد تراكمه مع مرور الزمن وطول العهد.

بفعل التراكم ألما وزمانا تنشأ أمور سلبية مثل الإحباط، والتشاؤم من المستقبل الشخصي، والإحساس بتدني قيمة النفس في المجتمع وهو أهم هذه السلبيات.
تنجم عما سبق ذكره من نتائج التراكم درجة شديدة من العصبية. فينفعل الفرد إثر كل سلوك من شأنه أن يحقق الانفعال ولو كان بسيطا بطريقة تخرج عن الحد المطلوب.
إن تفريغ العصبية لا يتم ضد المعتدين إطلاقا بل ضد إطار الأوصياء الذين لا يحول بينهم وبين هذا العنف عائق نفسي (الخوف) على خلاف الغرباء.
وكلما انحسرت المسافة العمرية بين الفرد وطرف آخر من دائرة الأسرة أو الوسط الخارجي، نجد أن ممارسة القوة تتعزز أكثر وأكثر، وأحيانا بشكل شاذ ضد فئة أصغر سنا وأعمق استجابة (الأطفال).
إذن، فهاته العصبية تدفع إلى العنف النفسي الممكن كسلوك ارتدادي عند توفر الذرائع ولو على بساطتها.
ومع استمرارية استقبال العنف المجتمعي اللانهائي حتى في ظل سيادة الألم والنظرة الحياتية السوداء، تتشكل فكرة معاداة الآخر التي تشجع على التفكير في الثأر للنفس بطرائق أشد إيلاما كالقتل.
معاداة الآخر، بوصفها ذلك الحقد المحرض على العنف، لا تظل سوى ردة فعل غير ذات قابلية للاستمرار، وغير مؤهلة لتنفيذ انتقامها.
في هذه الحالة، يصبح الفرد بين أمرين اثنين أولهما انتحار يرى فيه حلا مثاليا ونهائيا للعنف المجتمعي بما يتركه من ألم عميق، ولا سبيل إليه، فخشية الموت أقوى انغرازا في نفسيته، وثانيهما جنون له إمكانية كبيرة نتيجة للصراعات النفسية وتزايد الألم، واستقبال العنف وتقبله، واحتمالية استنفاد جاهزية التحمل.
ثم إن استحالة تحول العنف الارتدادي إلى دافع قوي إلى ممارسة الجريمة(Le crime) ثأرا من الآخرين – مثلما سبق الإيضاح – بعلة العجز الداخلي لا يعني أن تصريف العنف المجتمعي، بصفة ملموسة، غير ممكن. لكن ذلك لن يقع إلا في شكل انفعال انفجاري مباشر أمام اعتداء بعينه.
إن أفق الإجرام، أي استعمال القوة المضادة بشكل مستمر في انتهاك للمحظور قانونيا وأخلاقيا، لا يوجد في ظل شخصية سمتاها المهمتان العجز والجبن. وقد أسلفنا أن العنف الارتدادي بالإمكان تفريغه دفعة واحدة في سياق معين في شكل انفجار نفسي شديد.

خامسا: الخجل.. والعقد النفسية
يقول د. يوسف خالد فؤاد حسن الأخصائي الكويتي في الطب النفسي معرفا مصطلح العقَد النفسية(Les Complexes psychologiques) “نمط معين للأفكار والمشاعر والسلوكيات نابع من مصدر غير سوي، إما من صدمة نفسية وإما انفعال كبت، أو تجربة تتحكم فيك بشكل غير واع”(6).

إذا كانت العقدة النفسية – وفق ما قدمناه – نتاجا لجوانب سلبية ممكنة من الحياة الاجتماعية، فالخجَل عامل استقبال لكل التجليات الحياتية السلبية على هيئة انعكاسات وجدانية تتم مراكمتها، داخليا، في الزمان والمدى.

وبما أن هذا الخجل يفسح المجال للألم(la douleur) ، ففرص نشأة عقد نفسية وحتى استمرارها لزمن أطول فرَص وفيرة. لكن ما الشكل الممكن للعقَد هنا؟
أظن أن الأصل الأساس لنشأة عقدة نفسية لدى الخجولين، هو الكلمة على اعتبار أن الوسط الخارجي (المهمش) يرفض خصائص العجز والجبن والصمت إن اختص بها بعض من ينتمي إليه، ويعدها عيوبا لا مكان لها. لذلك، يمارس عليهم عنفا معنويا مصوغا في قالب الكلمة من قبيل: (أيها الساذج)، أو (أنت جبان).
وبشكل آلي ومباشر، فالكلمة تنشأ تبعا لها القابلية النفسية لسلوك جديد، هو في حقيقته، عبارة عن ردة فعل مستمرة تحصل كلما عاد الفكر بالنفس إلى هاته الكلمة عند تلقيها أول مرة، أو ذكرها غيره قصد التعيير أو الانتقاص.
يأخذ سلوك الاستجابة وجهين أولهما الانفعال الشديد الذي قد يصل إلى حد تعنيف الآخر ماديا، وثانيهما ما أسميناه سابقا بالتناوب..

ختاما
لا أدعي أن ما قدمته هنا استوفى ظاهرة الخجل من كل جوانبها. فإنما هو مدخل متواضع يحاول فهم الظاهرة ملقيا الضوء على أهم أبعادها، ساعيا إلى تحليلها ما أمكن التحليل. ولقد خلُصت إلى أن الخجل لا يكفي التعامل معه من الداخل في إيجاد الحلول، بل لا بد من أن ندرك ونحن نسعى لحل هذه المشكلة أن إعطاء مساحة من التعبير والتفاعل من قبل الوسط الاجتماعي مسألة ضرورية لتجاوز الأمر نهائيا. إلا أن هذا المطلب يستحيل تحققه إذا كان المجتمع لا أخلاقيا. الشيء الذي يسهم أساسا في بقاء الخجل واستفحاله لأجيال وأجيال.

******************************
الهوامش :

1- الخوف الاجتماعي (الخجَل) د. حسان المالح، ط2. 1993م، ص 15، دار الإشراقات، دمشق – سوريا.
2- مشكلة الخجل الاجتماعي (لدى الصغار والمراهقين) د. سناء محمد سليمان، ص 15، بتصرف، عالم الكتب، سلسلة”ثقافة سيكولوجية للجميع” (ك ، 28).
3- الخجَل، راي كروزيي(Ray Crosier) ، ترجمة أ. د. معتز سيد عبد الله، ص 23، بتصرف، المجلس الوطني للثقافة والفنون، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2009م.
4- أي مرضى الخجل.
5- أعني به خصوصا الخجول.
6- عقدك النفسية سجنك الأبدي، د. يوسف خالد فؤاد حسن، ص 12، عصير الكتب، مصر، 2021م.

بقلم: حسن الإلياسي

Related posts

Top