مدونة الأخلاقيات القضائية ضرورة واقعية أكثر مما هي مطلب مهني

إذا كان الجسم القضائي في حاجة ماسة إلى معرفة حدود تصرفه بين ما هو مباح وما هو محظور، فإن مدونة القيم والأخلاقيات القضائية حاولت رسم الحدود الفاصلة بين ذلك. لكن هل وفقت في ذلك أم زادت الأمر تعقيدا وغموضا؟ وألا يغنينا الموروث التاريخي لقضائنا الإسلامي عامة والمغربي خاصة عن هذه المدونة؟ طالما لم تأت بجديد حول هذه القيم والأخلاقيات وقامت فقط بتجميع تلك القيم والأخلاقيات وتبويبها؟ وإلى أي حد ساهمت المجالس السابقة في غرسها وتكريسها في الجسم القضائي؟ وألا تتحمل هذه المجالس جزءا من المسؤولية فيما وصل إليه الجسم القضائي من انعدام الثقة فيه، باعتبارها هي من كانت تدير الشأن القضائي عن طريق تعيين المسؤولين القضائيين بالمحاكم، والذين يتولون التدبير الفعلي للمحاكم عن طريق ما يضعونه من برامج و تصورات وتوجهات عبر الجمعيات العمومية للمحاكم؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير سنحاول الإجابة عنه من خلال المحورين التاليين.
المحور الأول نتناول فيه المدونة ضرورة فرضها الواقع وليس مطالبا مهنيا. ونتناول في المحور الثاني دور المجالس السابقة في تكريس القيم والأخلاقيات القضائية.

المحور الأول: المدونة ضرورة فرضتها إكراهات الواقع أكثر مما هي مطلب مهني

إن المراهنة على نبض المجتمع وردوده في تقييم عمل القضاة و مدى التزامهم بالقيم والأخلاقيات القضائية فيه كثير من التجني على القضاة، فبالرغم من الإقرار بوجود بعض الظواهر بالجسم القضائي وفق ما أثبتته العديد من التقارير الوطنية بدءا من تقرير لجنة الانصاف والمصالحة ومرورا بتقرير لجنة إصلاح منظومة العدالة والتقارير الدولية في هذا المجال، إلا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتماد ردود فعل المجتمع كأساس في التقييم بالنظر إلى كون نصف المجتمع أعداء للقاضي وإن عدل، واعتبارا لكون هذا المرتفق ليست له دراية بالقانون وبالكيفية التي يبت بها القضاء في القضايا المعروضة عليه، ولا المساطر المتبعة في ذلك والتي قد تغيب على الممارس، فبالأحرى المرتفق الذي غالبا ما يكون جاهلا بالقانون. ومن تم، فإن أي تقييم لمدى التزام القضاة بتلك القيم ينبغي أن يعتمد بالأساس على دراسات علمية وموضوعية بعيدة كل البعد عن الهواجس الشخصية والانفعالات وردود الأفعال والشعبوية المنتشرة في مختلف وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي سواء بهدف أو بدونه، والتي تسيئ للقضاة وللمؤسسات القضائية أكثر مما تبني. إذ لو كان القضاء بالصورة المتحدث عنها لما احتكم المواطن إليه ولما سجل بالمحاكم العدد المهول من القضايا الذي يتم الإعلان عنه سنويا.
فإذا كانت كل العروض المقدمة من طرف كافة الفعاليات المشاركة في ندوة مدونة الأخلاقيات القضائية المنظمة من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، من منطلق، أن القضاء شأن مجتمعي و أن استقلال القضاء هو حق للمواطن وليس للقاضي، قد أجمعت و أشادت بأن تاريخ قضائنا الإسلامي عامة والمغربي خاصة زاخر بالعديد من القيم و الأخلاقيات؛ وأن العديد من القضاة الأعلام الذين ألفوا مدونات في هذا الباب، وأصبحت تشكل مناهج وسبل يستنير ويهتدي بها القضاة في عملهم اليومي، وظلت منهجا متبعا حتى يومنا هذا، إلا أنه بسبب التحولات التي عرفها ويعرفها المجتمع لم يعد بمقدور الممارس معرفة حدود بعض هذه القيم والأخلاقيات بالنظر لحمولتها ومدلولاتها الفضفاضة والتي أضحت تشكل أساسا لتحريك المتابعة التأديبية بشأن أي سلوك يأتيه القاضي بدعوى خرق واجب التحفظ والتجرد والحياد و وو.
والمدونة بالصورة التي جاءت عليها، قامت بتجميع هذه القيم و الأخلاقيات، وعملت على تبويبها وإعطاء بعض التطبيقات لها، و سهلت على الممارس خاصة المبتدأ التعرف على الالتزامات التي يتعين مراعاتها. لكن ما يؤاخذ عليها أنها لم تحل الإشكال المطروح بل أبقت على نفس الغموض واللبس الذي يكتنف هذه القيم و الأخلاقيات، ولم تحاول إعطاءها مدلولا واضحا ومحددا بحيث يستطيع الممارس معرفة ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به، وزادت الإشكال الذي كان مطروحا استشكالا أكبر، وذلك بعدم أخذها بعين الاعتبار التحولات الفكرية والحقوقية التي عرفها المجتمع المغربي، واعتبرت أن القاضي مستثنى من كل هذه التحولات، ولم تبق له ولو جزءا يسيرا من حياته الشخصية و الخاصة واعتبرت أن كل حياته سواء خلال ممارسته المهنية أو خارجها حياة مهنية وأحاطتها بهالة تلك القيم والأخلاقيات، ولم تقر له بأنه فرد من أفراد المجتمع له ما لهم وعليه ما عليهم، وأن له أسرة لها نفس الحقوق التي تتمتع بها كافة الأسر. ومن تم فهي لم تأت بجديد، وظل الإشكال المطروح قائما في انتظار ما ستفرزه الممارسة العملية لعمل المجلس وستستقر عليه من مدلولات لتلك القيم وحدود كل منها والتي يكاد بعضها يستغرق بقية القيم، ولا تجد فواصل لتمييز بعضها عن البعض الأخر، ويدخل جميع السلوكيات والتصرفات ضمن خانته، واعتبارها ضمن ما هو محظور.

المحور الثاني: المجالس القضائية السابقة ودورها في تكريس القيم والأخلاقيات القضائية

فإذا كان من بين أدوار المجلس الأعلى للسلطة القضائية تدبير الوضعية الفردية للقضاة من تعين لهم في مناصبهم القضائية بين قضاة للنيابة العامة وقضاء للموضوع وتعيين لهم بمناصب المسؤولية. فإنه قبل هذا وذاك، فإن الجهة المشرفة على مباراة الملحقين ينبغي عليها القيام بما يكفي من الأبحاث والتحريات حول سيرة الملحقين الذين اجتازوا المباراة، وحول ظروفهم الاجتماعية والنفسية. وعلى أن تقوم إدارة المعهد العالي للقضاء بعد ولوجهم إليه بتلقينهم القيم والأخلاقيات القضائية بالحد الكافي الذي يؤهلهم لأن يكونوا في مستوى القاضي الذي يريده المجتمع وبالشكل الذي يحول دون وقوعه في المحظور، ومحاولة تغيير بعض الحمولات الفكرية والنظرة الخاطئة لبعض الأمور التي تهم الشأن القضائي لديهم أوعلى الأقل سقلها بالشكل الذي يجعل منهم قضاة للمستقبل بحمولة القاضي الذي يرتديه المجتمع.
وهذا لن يتحقق، إلا بوضع برنامج متكامل قادرعلى أن يعطينا قاضيا بالمواصفات التي نرغب فيها، قاضيا بضمير حي ويقظ ومسؤول بهدف خلق وإرساء عدالة مواطنة قادرة على الانصاف.
وبعد هذا الدور، يأتي دور المجلس الذي يرسم الخريطة القضائية بتوزيع القضاة وفق حاجيات كل محكمة عن طريق مختلف التعيينات التي يقوم بها، هذه الآلية التي بواسطتها يديرالمرفق القضائي بطريقة مباشرة أو غير مباشر، ومن تم فعليه الاحتكام للمبادئ التي تحكم سير المرفق العمومي، والتي من بينها مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب اعتمادا على معايير الكفاءة المهنية والاستقامة والنزاهة والاستقلالية والجرأة وغيرها من المعايير، وبهكذا منهج يمكننا إحداث التغيير المنشود، وبدونه لا يمكن تغييرالواقع في شيئ مهما اجتهدنا في تجويد النصوص القانونية المؤطرة للعدالة وتوجيه الكتب والمناشير ، ولذلك فنجاح أي مرفق عمومي رهين بأهلية واستحقاق ذلك الشخص لذلك المنصب والإشراف على ذلك المرفق دون محاباة أو مجاملة أو محسوبية أوزبونية. كما أن المجلس بإحجامه عن نشر قراراته في المجال التأديبي ساهم بشكل أو بآخر في تكريس هذا الغموض الذي يكتنف هذه القيم، إذ لو قام بنشر قراراته لحد من إتيان العديد من السلوكات التي يعتبرها خرقا لهذه القيم والأخلاقيات، ولشكلت فواصل بين ما هو مباح وما هو محظور على القضاة ولعملوا بمقتضاها تجنبا المساءلة.
وفي الأخير، نتمنى أن تشكل هذه المدونة بعد أخذها بعين الاعتبار جميع الملاحظات المثارة بشأنها من لدن الممارسين الذين خبروا الإكراهات التي تواجههم في عملهم اليومي، وملاحظات باقي الجمعيات المهنية العاملة في المجال، وباقي الهيئات الحقوقية و المدنية المهتمة بحقوق الإنسان تجسيدا للمقاربة التشاركية وإن جاءت متأخرة بعد إقرار المدونة لتفادي ما شابها من قصور حدثا فارقا بين عهدين ما قبل المدونة وما بعدها، وإطارا مرجعيا للسلوك القضائي، وسبيلا لإحداث التغيير المأمول في الجسم القضائي، وأداة لتحقيق الانصاف لجميع أفراد المجتمع بمن فيهم القضاة أنفسهم، وبالموازاة مع ذلك، يتعين وضع مدونات للسلوك يخضع لها باقي أطراف منظومة العدالة كل فيما يخصه، على اعتبار أن العمل القضائي هو سلسلة تجمع عمل باقي أطراف المنظومة، وأن أي إخلال في عمل أية حلقة من حلقاتها يرتد و ينعكس سلبا على العمل القضائي الذي يشكل جوهر الإصلاح المنشود والذي لم يتم الخوض فيه بعد.

 بقلم: ذ.المصطفى العضراوي

نائب رئيس المكتب الجهوي لنادي قضاة المغرب بالرباط

Related posts

Top