“مرض” الشريك الأكبر وعدوى الضفتين

لا تريد أوروبا أن تبقى الشريك الأصغر مع الأخ الأكبر… تشكو من أن “أميركا أولا” لاستعادة “عظمتها” شعار وسياسة يكادان لا يعنيان سواها، لولا التراجع عن ركائز النظام العالمي، الذي أرسي بعد الحرب العالمية الثانية، وأبرزها ضمان القوة العظمى الولايات المتحدة الأمن الأوروبي.
يشكو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقدان العدالة ما دامت أميركا دونالد ترامب التي استعادت مقولة القارة العجوز، تصر على الاستعلاء، كلما تذكرت أن على الضفة الأخرى للأطلسي شريكا أهملته، متفردة بنهجها في إدارة الأزمات الدولية. بل تذكرته لتشمله بحروب ترامب التجارية، من دون أي رادع.
لكن شكوى ألمانيا بلسان رئيسها فرانك فالتر شتاينماير، تجسد للمرة الأولى وبكل جرأة أصل العلة، ليس في اختلال العلاقة مع واشنطن فحسب، بل كذلك في الاقتراب من انهيار النظام العالمي، تحت وطأة “زخم مدمر” في السياسات الدولية نتيجة الانحياز إلى المصالح الخاصة.
كل ذلك الصخب الذي حاول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو التصدي له في مؤتمر الأمن في ميونيخ، يعيد إشكالات العلاقة بين الشريكين إلى مصاف الأزمات الكبرى الصامتة، يثبت مرة أخرى أن ألمانيا الثنائي شتاينماير – المستشارة أنجيلا ميركل تكاد تتفرد بصدارة الدفاع الأوروبي عن سياسة أخلاقية، افتقدها العالم في إدارة دفته. وإلا ما الذي مدد عمر المأساة السورية وحروب ليبيا واليمن؟ وما الذي خطف مجلس الأمن، سوى توحش يحيله بومبيو على السعي الروسي – الصيني إلى إمبراطوريات، لا رادع فيها لإبادة البشر، ولا هوادة في تحطيم كيانات دول بصراعات الميليشيات الجوالة؟
منذ بدء عهد ترامب، سعى سيد البيت الأبيض بإلحاح إلى تغييب الدور الأوروبي على الساحة الدولية، وأمعن في التفرد بقرارات من دون التشاور مع الشريك الأول على الضفة الأوروبية للأطلسي. الأمثلة صارخة بدءا من تجميد الملف الكوري الشمالي من دون اتفاق حاسم للشروع في تدمير الترسانة النووية لبيونغيانغ، مرورا بالمحنة السورية التي بدا أن ترامب فوض إدارتها إلى “العدو” الروسي بالكامل، وفشل مرات في تعطيل عصا الفيتو الذي لم يتخل عنه الكرملين منذ سنوات… مرورا بانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران، إلى الانفراد بإعلان “صفقة القرن” لفرض ما يظن الرئيس الأميركي أنه سينهي قضية فلسطين، ومرة أخرى من دون أي حوار مع الأوروبيين.
ولعل الإنجاز الوحيد الذي يسجل لترامب أنه اهتدى إلى سياسة أقصى العقوبات ليكبل النظام الإيراني وبرامجه في زرع الميليشيات في “إمبراطورية طهران – بغداد دمشق – بيروت”، رغم أن المواجهة الأميركية – الإيرانية ما زالت في بداياتها.
يدرك نظام المرشد علي خامنئي أن أقصى ما يطمح إليه ترامب هو أن يسجل إنجازا باتفاق جديد مع طهران، يبقى ضمن دائرة الشكوك أن يأتي فعلا لمصلحة الشعب الإيراني وشعوب المنطقة، خصوصا في الخليج.
كل ما سعى إليه بومبيو في مؤتمر ميونيخ هو أن يبدد مفاعيل إدانة شتاينماير للأنانية الأميركية التي طغت “على حساب الجيران والشركاء”، وتنديده بنهج “استعادة العظمة” الذي انقلب انكفاء لمصلحة الولايات المتحدة.
أما دعوة ماكرون أوروبا إلى تقرير مصيرها والإمساك بالمبادرة لأن “الغرب ضعيف”، فلم تخف ما لم يقله عن فقدان الثقة بالشراكة الأوروبية – الأميركية ما دامت على حالها، وعن الخلافات المتراكمة بين الأوروبيين.
أقصى ما استطاع استحضاره بومبيو لتخفيف عزلة أميركية في المؤتمر هو حشد خطابي وراء عمل “مشترك لمواجهة تهديدات تشكلها طموحات روسيا التوسعية وتعزيز الصين وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي، وحملات الإرهاب التي تقودها إيران عبر خوضها حروبا بالوكالة في الشرق الأوسط”.
لكن الخطاب شيء والفعل أمر آخر، على الأقل لأن واشنطن لم تراع في حرب ترامب التجارية الشعواء على الاتحاد الأوروبي مقتضيات الشراكة، فيما تطلب حضوره أينما تشاء في ساحات الصراعات حين تفرض ذلك سياسة صفر خسائر.
هي فوضى في ما بقي من نظام عالمي تريده إدارة ترامب على قاعدة المنافع الأميركية أولا، ويريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمواصفات أحلامه لاستعادة الإمبراطورية. تكفي أرقام مبيعات السلاح في العالم و”ازدهارها” للدلالة على سقوط أخلاقيات السياسة… بل هي سقطت منذ سنوات على الأرض السورية.
صحيح أن إدارة ترامب تمكنت من تصفية عراب الميليشيات في المنطقة قاسم سليماني، لكن المواجهة مع إيران ما زالت فصولها طويلة، وصحيح أن واشنطن ألحقت، بالتعاون مع التحالف الدولي، هزيمة بتنظيم “داعش”، لكن خطره لم ينته. أما استعداد البيت الأبيض لاتفاق مع حركة “طالبان ” فيطرح حتما السؤال عن جدوى حرب في أفغانستان يصعب إحصاء ضحاياها وخسائرها.
هي فوضى ربما لم يكذب الرئيس الروسي حين لمح إلى اعتبارها نهاية لنظام حكم العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ مؤتمر يالطا. وفيما تكتفي الولايات المتحدة بالتنديد بسياسة التمدد الإمبراطوري الروسي، يستمرئ الكرملين تسجيل النقاط في المرمى الأميركي، والعرب يدفعون الثمن.
كان شتاينماير الأكثر جرأة بين القادة الأوروبيين في تشخيص “المرض” الأميركي الراهن الذي تبدت أعراضه في ساحات عديدة في العالم، من شبه جزيرة القرم إلى سوريا وليبيا. والأكيد أن انقسام الأوروبيين، الذي يطاول أيضا أزمة هوية، لا يعفي أميركا ترامب ولا الإدارة التي سبقته من وصمة الأنانية التي لم تشهد مثلها “حامية الديمقراطيات “الغربية، وعدالة تقرير المصير.

> زهير قصيباتي كاتب وصحفي لبناني

Related posts

Top