بداية أريد أن أثير ملاحظة أعتبرها أساسية، لا شك أن الكثير منا صادف المرض الخبيث في مسار حياته وعرفه، عرفه من خلال شخص آخر. ولا شك أيضا أن الكثير منا فقد عزيزا عليه بسبب المرض اللعين، لذلك فالكثير منا تلقى عرض “خريف” بكثير من الخصوصية، وربما شكل لديه عزاء أو تكريما أو رسالة حب إلى كل من عاش التجربة أو يعيشها.
إن أول ما يثير القارئ في مواجهته لنص ما، هو العنوان الذي يشكل العتبة الأولى المفضية إلى تخوم المتن، فهو النص الموازي بلغة جيرارد جنيت، لكشف خفايا المتن وأسراره. في هذا السياق يواجهنا عنوان عرض “خريف” الذي جاء في صيغة اسم نكرة، معلقة على إضافة ما. وكأننا أمام سؤال، خريف ماذا؟. لكننا حين نجد أنفسنا وجها لوجه أمام ملصق العرض وعلامته البصرية الأولى، فإننا نعرف أن الأمر يتعلق بخريف امرأة.
تحيل كلمة خريف إلى النهاية، أو بداية النهاية. ففي الخريف تكون التعرية والرحيل والموت، وهذا ما تؤكده العلامة البصرية الأولى التي تظهر امرأة وهي تولي ظهرها للقارئ / المشاهد في مواجهة السواد، وكأنها في بداية رحيلها بعيدا عنا نحو الظلمة والعدم.
تشكل هذه العلامات إذن مداخل لقراءة عرض “خريف” الذي ينفتح على فضاء فارغ إلا من دولاب حديدي أخضر في العمق، وكرسي أبيض ينتصب في الوسط، وأشلاء تغطي مساحة اللعب. تدخل امرأة حاملة ورقة، تتحرك جيئة وذهابا وكأن شيئا ما يزعجها، يقلقها، تحاول النظر إلى الورقة لكنها لا تستطيع، أو بالأحرى لا تصدق ما بها، تكرر المحاولة مرة أخرى قبل أن تواجهها لتعلوها الدهشة الصادمة، ترمي الورقة وتهرب من محتواها، تعاود النظر مرة أخرى للورقة وكأنها تريد التأكد مما فيها، أخيرا تعصرها بين يديها وترميها أرضا، لتستكين إلى نفسها وتنغلق على ذاتها وتبحر في معاناتها عبر متواليات حركية تنطلق من الأعلى وتلتف حول نفسها قبل أن تتمدد على الأرض جثة هامدة، تتكرر الحركات لمرات عدة تقودها إلى حالة من اليأس تسحبها نحو الدولاب الحديدي، تغالب رغبتها لكنها في الأخير تفتحه وتفرغ ما فيه من ملابس. ومعلوم أن الدولاب في العادة هو فضاء لحفظ الملابس التي تمنح للشخص هويته أو تعدده، فهي الذوات أو الشخصيات التي كناها يوما، أو سنكونها مستقبلا. فالملابس الجديدة غالبا ما تنتمي إلى المستقبل وترتبط به. كما أن الدولاب كثيرا ما يرتبط بالسفر وتجهيز الحقيبة. هذا ما تؤكده العبارة التي مافتئت المرأة القرين ترددها.. “بغيت نمشي.. خصني نمشي”. لكنها في كل مرة تتراجع لأنه لا شيء سيتغير سواء رحلت أم بقيت، ولأنها وحيدة.. وحتى لا تدخل في اكتئاب قد يمكّن المرض منها ويعجل برحيلها، فإنها تكون مجبرة الجلوس إلى ذاتها والبوح لها وتعرية واقعها ومعاناتها مع مرضها ومع الشريك الذي تخلى عنها “بغيت ندوي.. خصني ندوي”.
هذه المواجهة مع الذات، التي اتخذت شكل لعبة المرآة، إذ كانت المشاهد الأولى كلها تقريبا تتواجه فيهما المرأتان وكأنهما أمام المرآة حتى أن حركاتهما كانت متعاكسة، (هذه المواجهة) تفضي في الأخير إلى قرار الانسحاب بعد أن أضحت غير قادرة على استيعاب التحولات التي أحدثها المرض بحرمانها أنوثتها، حتى أنها بدأت تشك في كونها امرأة، فالمرض اللعين حرمها بداية نهديها وشعرها ونهاية رحمها، لتفقد بذلك أي مظهر من مظاهر أنوثتها، وأي فرصة لتعيش أمومتها. بل إنه في كل يوم تسقط قطعة من جسدها، أوراقها التي تشكل هويتها. فالمرض الخبيث عجل بخريفها فأسقط أوراقها وعرى واقعها وحياتها ومحيطها، وأعلن بداية النهاية. وما الأشلاء المتناثرة حولها سوى ذاتها المنشطرة والممزقة، إنها أوراقها، بعض من جسدها، من أنوثتها، من ماضيها وحاضرها، إنها بعض منها الذي عبث به المقص الحديدي الذي يحيل على المستشفى والعمليات الجراحية التي تعرضت لها المرأة باستئصال نهديها أولا ورحمها ثانيا. وأيضا يرتبط المقص وعملية التقطيع/ التمزيق بالألم الذي يمزقها بسبب المرض، لهذا جاء المشهد بطيئا ممعنا في ساديته.. وبالنظر إلى حجم الأشلاء المتناثرة حول المرأة، فإننا نقترب أكثر من حجم المعاناة والألم الذي عاشته المريضة وتعيشه.
معروف أن المرض، وخاصة النوع الذي ترتبط نهاياته بالرحيل، يجعل المريض وجها لوجه في مواجهة الموت، مما يعمق إحساسه بالوحدة، الشيء الذي يجعله في حاجة ماسة لمن يسانده ويدعمه، ويساعده على تجاوز حالات الاكتئاب المصاحبة للمرض. غير أن المرأة تجد نفسها وحيدة بعد أن تخلى عنها أقرب الناس إليها، شريكها الذي لم يكن في مستوى اللحظة. ففي الوقت الذي كانت المرأة تحتاج إلى الحب لتجاوز معاناتها، كان الشريك يمارس معها ما يمليه عليه واجبه كشريك. وأحيانا كثيرة كان يرقص على جراحاتها ومعاناتها، ما عمق إحساسها بالوحدة ودفعها إلى أن تختار الرحيل الطوعي. ففي أحد المشاهد القوية، والمرأة تفرغ ما في جوفها، كان الشريك ينظف قيأها متأففا، دون أن يهتم بزوجته التي تحتاجه أكثر ليمسح عنها تعبها ويخفف عنها ألمها، تتوالى عملية القيء وينسحب الشريك ليترك المرأة تغرق في نتانتها التي جعلتها تحس بالعجز وتفقد أيضا الإحساس بإنسانيتها مما حدا بها إلى التفكير في الانتحار عبر تحويل ورق المرحاض الذي كانت تمسح به النتانة العالقة بها إلى حبل مشنقة.
إن الرحيل هنا، ورغم أنه قد يبدو بسبب المرض، إلا أنه في الحقيقة كان اختيارا. فالمرض جعل المرأة تكتشف حقيقتها، وحقيقة العالم المحيط بها، وتكتشف معه زيف العلاقات الإنسانية مما حدا بها إلى التفكير دوما في الرحيل “بغيت نمشي.. خصني نمشي” والتي لا تعني في آخر المطاف سوى الرغبة في الموت الذي يشكل في حالتها الحرية والخلاص.
وفعلا ترحل المرأة، وترحل معها معاناتها، ويبقى الشريك وحيدا في مواجهة الفراغ، ويبقى الدولاب الحديدي البارد أشبه بقبر بارد.
على مستوى الاختيارات الجمالية للعرض، اختارت المخرجة أسماء هوري اعتماد ممثلتين للعب نفس شخصية المرأة المريضة بغية تنويع الأشكال التعبيرية ما بين التمثيل والرقص التعبيري مع الاقتصاد أكثر في اللغة المنطوقة وفسح المجال أكبر للجسد للتعبير عن معاناة المريضة. ويمكن أن نجزم أن الاختيار الجمالي هذا فرضته طبيعة النص الأصلي الذي استدعى تدخل الدراماتورج لمسرحة النص وإبعاده ما أمكن عن بنائه السردي لصالح بناء درامي ينتصر للفعل بدل السرد. من هنا كان الاعتماد على الرقص التعبيري لتكسير الطابع السردي للنص، وهو اختيار كان له في اعتقادنا الكثير من مبرراته الجمالية خاصة وأن المرأة، ولأنها وحيدة، فرضت عليها وحدتها الدخول في حوار ذاتي/ داخلي دفعها إلى البوح. كما أن التعدد أعطاها فرصة لاستحضار شخصية الزوج من خلال بدلته الدالة عليه. كما واصلت المخرجة أسماء هوري اختياراتها على مستوى التأليف الموسيقى واعتماد العزف الحي الذي يمنح للمشاهد تأثيراته المباشرة إذ تتحول إلى ما يشبه روح المشاهد وأوكسجينها.
عموما كانت هذه التجربة إضافة نوعية في مسار فرقة مسرح أنفاس وإلى ربيرتوار المخرجة أسماء هوري التي لا تنتصر لشكل تعبيري محدد بقدر ما تتعامل مع كل تجربة حسب خصوصياتها واختياراتها الجمالية.
بقلم: محسن زروال