مقدسات ومحرمات وحروب.. ألغاز الثقافة -الحلقة 9-

يتناول كتاب «مقدسات ومحرمات وحروب: ألغاز ثقافية» لـمؤلفه «مارفين هاريس» بعض من الأعراف المحيرة بين الشعوب الأمية أو البدائية، والتي تبدو ألغازا عصية على الحل، بل وتحيل على الجهل والخوف والتناقض كعناصر أساسية تشكل الوعي اليومي.
امتناع الهندوس عن أكل لحم الأبقار، أو كره اليهود، والمسلمين، أو لماذا يؤمن بعض الناس بالمخلصين بينما يؤمن آخرون بالساحرات، هي صورة في ما لا يعد ولا يحصى من أوهام مكتسبة واسعة، تعزز قناعتنا الأعمق بالكيفية التي يتحتم من خلالها أن يتصرف وفقها أناس بعقلياتهم الشرقية المبهمة.
بيان اليوم تقدم لقرائها بعض من هذا الإصدار الممتع ضمن حلقات رمضانية.

البقرة الأم

الهند تحقق استخدامًا أكثر كفاءة لماشيتها مما تحققه الولايات المتحدة

ضمن نظام بيئي منخفض الطاقة لا يتيح إلا حيزًا محدودًا من الهدر والثواني. ويسهم حب البقرة في المرونة التكيفية للسكان من خلال الاحتفاظ مؤقتا بالحيوانات الظامئة العقيمة، لكن المفيدة بتثبيط نمو صناعة تعليب العجل مكلفة الطاقة، بحماية الماشية التي يتم تسمينها في الأملاك العامة أو على نفقة ملاك الأراضي، وبالحفاظ على إمكان تعافي الماشية في أثناء فترات الجفاف والمجاعات. وكما في أي نظام طبيعي أو صناعي، ستحدث كبوة أو تأكل أو هدر مرتبط بهذه التفاعلات المعقدة يشترك فيها نصف مليار من البشر والحيوان والأرض والعمل والاقتصاد السياسي والتربة والمناخ. يدّعي المتحمسون للذبح أن التقليد الديني القاضي بترك الأبقار تتكاثر بشكل عشوائي ومن ثم تقليص أعدادها بالإهمال والتجويع هو تبديد وغير ذي جدوى. لا أشك في صحة ذلك، لكن بمعنى ضيق ثانوي وحسب فالتوفير الذي يمكن أن ينجزه مهندس زراعي من طريق التخلص من عدد غير معلوم من الحيوانات عديمة الجدوى بالمطلق يجب أن يكون متوازنا مع الخسائر الكارثية للفلاحين الهامشيين خصوصا في أوقات الجفاف والمجاعات، في حال توقف حب البقرة عن أن يكون واجبًا مقدسًا.
حيث التعبئة الفاعلة لكل نشاط بشري تعتمد على القبول بالتسليم سيكولوجيا باليقينيات والمذاهب القهرية علينا أن نتوقع أن تلك النظم الاقتصادية ستكون دائما عرضة لأن تتراوح دون مؤشرات الكفاءة المثلى وفوقها. لكن الافتراض أن النظام بأكمله يمكن أن يكون معدا للأداء على نحو أفضل عن طريق مهاجمة وعيه بكل بساطة لهو أمر ساذج وخطر. يمكن تحقيق الارتقاء بالجوانب الرئيسة في النظام الراهن بضبط عدد سكان الهند، وبجعل مزيد من الأرض والماء والثيران وجواميس الماء متوافرة لعدد أكثر من البشر وفق أسس أكثر إنصافًا. إن البديل هو تحطيم النظام الحالي واستبداله بمجموعة جديدة كليا من العلاقات الأيديولوجية والاقتصادية السياسية والتكنولوجية والديموغرافية – كنظام جديد بالكامل. لا شك في أن الهندوسية قوة محافظة وتشكل أحد العوامل التي تزيد الصعوبة على خبراء «التنمية» ووكلاء «العصرنة» في أن يحطموا النظام القديم ويستبدلوه بمجمع زراعي وصناعي ذي طاقة عالية. لكن إذا ظننتم أن المجمع الزراعي والصناعي ذا الطاقة العالية سيكون بالضرورة أكثر «جذرية» أو «كفاءة» من النظام السائد الآن، فعليكم أن تتناسوا ذلك. على عكس التوقعات تبيّن دراسات تعنى بأكلاف الطاقة وعوائدها أن الهند تحقق استخدامًا أكثر كفاءة لماشيتها مما تحققه الولايات المتحدة. ففي مقاطعة سنغور غرب البنغال اكتشف أو دندهال أن إجمالي كفاءة الطاقة للماشية بما هي مجموع السعرات الحرارية المفيدة المنتجة سنويا مقسمة على مجموع السعرات الحرارية التي يتم استهلاكها خلال الفترة ذاتها، بلغ 17 في المئة. هذا يضاهي أقل من 4 في المئة من إجمالي كفاءة الطاقة لقطيع العجول الأميركي الذي يُربى على أراضي المنطقة الغربية. وكما يقول أودندهال، إن الكفاءة العالية نسبيا لتوليفة الماشية الهندية تتحقق ليس لأن الحيوانات في حد ذاتها منتجة، بل بسبب الاستغلال الدقيق للمنتج من الناس: «القرويون نفعيون ولا شيء يُهدر».
إن الهدر مظهر من «مظاهر البزنس» الزراعي أكثر مما هو في اقتصاديات الفلاح التقليدية. ففي ظل النظام الحديث للإنتاج المؤتمت للعجل المسمن حقليًا في الولايات المتحدة، على سبيل المثال لا يذهب روث الماشية من دون استخدام وحسب بل يُترك فيلوّث المياه الجوفية على امتداد مساحات شاسعة ويسهم في تلويث بيئة الأنهار والبحيرات المجاورة.
لا يأتي المستوى الأرفع من العيش الذي تنعم به الأمم الصناعية من خلال الكفاءة الإنتاجية، بل من الزيادة الهائلة الشمولية في كمية الطاقة المتوافرة للشخص الواحد. ففي عام 1970 استخدمت الولايات المتحدة معادلا طاقيا بلغ اثني عشر طنًّا من الفحم للفرد الواحد، بينما كان الرقم المقابل للهند خمسة أطنان للفرد الواحد. أما الطريقة التي استهلكت فيها هذه الطاقة فقد تضمنت من الفرد في الولايات المتحدة يفوق كثيرًا ما يهدره الفرد الهندي. أن السيارات والطائرات أسرع من مركبات الثيران، إلا أنها لا تستخدم طاقة أكثر كفاءة في واقع الأمر، يُحرق من السعرات في حرارة عديمة الفائدة ودخان خلال يوم واحد من الاختناقات المرورية في الولايات المتحدة أكثر

< إعداد: ايت اومزيد سعيد

Related posts

Top