“…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….”.
بيتي وليامز وميريد كوريغان… أمهات من أجل السلام
النضال السلمي الذي أنهى الحرب في ايرلندا الشمالية
السلام والحب المنظم
تروي بيتي وليامز لحظات تأسيسها لحركة “أشخاص السلام” قائلة: “…في مساء العاشر من غشت 1976 بدأنا بالتنظيم للسلام من خلال الكثير من الطاقة والإخلاص لدرجة أن سار معنا (وبعد أربعة أيام فقط من الدعوة) آلاف الأشخاص وكانت المسيرة مخصصة بشكل أساسي نحو طريق فريناغي للمشاركة في جنازة الأطفال الثلاث فقط، لكن ما هي إلا لحظات ودقائق قليلة حتى امتلأت ساحة الكنيسة سانت مايكل (وعلى عكس ما كان متوقعا) وبشكل تدريجي بالمشاركين الذين تدفقوا من كل أنحاء المدينة حيث النساء البروتستانت الوافدات عبر الباصات الصغيرة إلى القسم الكاثوليكي، كان المشهد غريبا ومفاجئا للجميع، فلم يسبق أن حصل أي شي مماثل قبل ذلك في بيلفاست ومنذ الأحداث الدموية عام 1969، حينها انطلقت إلى التصريح بالقول، (بعد أن حدثت بعض الاشتباكات الدموية بين مؤيدي الجيش الايرلندي والمتظاهرين): “لقد حققنا انتصارنا… لقد اخترقناهم …لقد اخترقناهم..”.
وتضيف قائلة: “….كانت تلك المسيرة قد شكلت لنا حجر الزاوية للعديد من المسيرات الأخرى البديلة للمظاهرات العسكرية بعد أن خضناها بطرق ايجابية وبناءة، وانطلقت المتظاهرات إلى الغناء: حين تبتسم العيون الايرلندية علينا الانتصار…. أمسك العالم كله بين يديك، يغنين بالصفارات كعلامة مميزة لهن علما أنها دليل على الوحدة وليس للإنذار حتى نجحت الصفارات الحادة والقوية في مهاجمة الآذان ووصلت صورهن عبر البريد إلى كل أنحاء العالم التي أخذت بعض الصحف تقول “.. ستملك كل امرأة من ايرلندا الشمالية صفارة الإنذار الخاصة بها، وستستخدمها كل امرأة وكل أم للفت الانتباه إلى الرعب الذي يسبب الكثير من المعاناة والمآسي في هذا العالم، حتى أن تلك الصفارات أجبرت نساء لندن على الخروج في مظاهرة عارمة والوقوف أخيرا بساحة ترافالغار اكتوبر 1976 بمشاركة المغنية الأمريكية المعارضة جوتن بايز، وأخذنا نتلقى الرسائل تلو الرسائل بعد أن أثبتنا قوة هذه الحركة التي ضمت في صفوفها طرفي النزاع (الكاثوليك والبروتستانت) وجاء في إحدى هذه الرسائل كلمات تقول فيها: “… في كل مساء نصلي لك يا بيتي فليحميك الله أنت والسيدة الايرلندية الأخرى ويساعدكما، نحتاج فعلا إلى كل شخص قادر وراغب بمساعدة قضيتكم، فعملنا ليس مسألة عاطفية بقدر ما سيكون مسألة فرض ضغط على السياسيين لكي يعودوا إّلى طاولة المفاوضات ويبحثوا معا عن حل سلمي بالحب المنظم وليس بقوة السلاح…”.
أنا خائفة حتى الموت
بتسارع المسيرات والمظاهرات التي أخذت تجوب شوارع بيلفاست، انطلقت الاتهامات تحوم حول بيتي باعتبارها شخصا متواطئا مع البريطانيين في إشارة صريحة للتخطيط للقبض عليها من طرف الجيش الجمهوري الايرلندي الذي لا يتعاطف ولا يتعاطى برحمة مع “الخونة” بقدر ما يتولى قتلهم، وانطلق أحد ضباطه بالقول: “…ستستمر الحرب ولن نسمح لهستيريا حركة السلام بأي ثمن أن تثبطنا، سنقمع كل الجهود المؤدية إلى السلام بواسطة العنف”، كل ذلك مؤازرة بالعديد من التهديدات التي أخذت تتلقاها بيتي وليامز رافضة الاستسلام أو التراجع عن هدفها لتحقيق السلام ووقف غطرسة القوة والسلاح، وفي هذا تقول: “… أنا خائفة حتى الموت من كوني أعاني من قلق مريع، يمكن أن يبقى الإنسان خائفا من دون أن يكون جبانا..”، كما أضافت رفيقتها ميريد كوريغان “..لا أظن أن نسبة خمسة وتسعين بالمائة من الأشخاص هنا يريدون إنهاء المجزرة، لقد خفنا طوال سنوات عدة من التحدّث علنا خشية الانتقام لكننا لم نعد خائفين الآن، وإننا مستعدون للموت إذا كان في وسعنا إنقاذ حياة واحدة بهذه الطريقة، علينا التأكد من أن هؤلاء الأطفال لن ولم يموتوا عبثا..”.
قوة الفكرة التي حانت ساعتها
كان النداء التلفزي المؤثر الذي بث بعد ساعات قليلة من الحادثة (حادثة مقتل أطفال ماغواير الثلاثة) والداعي إلى التظاهر والاحتجاج السلمي لإنهاء الحرب الأهلية كفيل بإخراج الآلآف إلى الشوارع والالتصاق بالجماهير بعد أن أخذ الجميع يُعلّم أولاده المحبة والأخوة بعيدا عن التعصب الطائفي والديني حيث الكاثوليك والبروتستانت، وشجع على تلك الفكرة وجود الحليف القوي لكل من بيتي وليام وميريد كوريغان الذي تتطابق شخصيته مع شخصيتهما، إنه الصحافي الكاثوليكي كياران ماك كيون ذلك الشاب المناهض للحرب الذي شجعها على تحويل المظاهرات المعنوية إلى مبادرة سلام دائمة.. وفي هذا تروي بيتي وليامز بالقول: “… كانت فكرة حركة أشخاص السلام هي فكرة صديقنا ماك كيون الذي شجعنا على تحويل المغامرات المعنوية إلى حركة سلام دائمة حتى نتفادى التقوقع في زاوية الحركة الأنثوية المنظمة وأطلقنا عليها أشخاص السلام لنضمن انضمام الرجال إليها بعد أن أصبح اللاعنف المطلق هو شعارنا الأول، وبات هدفنا يتمثل في وجوب اختفاء كل الجيوش والوحدات الإرهابية والجيش البريطاني من الشوارع سريعا..”.
تحويل العواطف الى طاقة
“..كانت استراتجيتنا تكمن في تحويل العواطف إلى طاقة قوية تضرب السلاح بالحب والاحترام والمحبة والتآخي، ولعلّ هذا ما جعل الآلآف ينضمون سريعا إلى حركتنا حتى وصل العدد إلى مئة ألف منتم ومشارك من كافة فئات الشعب، ولما كنا ندرك تماما بأن بعض أسباب الحرب الأهلية تُعزى إلى الوضع الاجتماعي المؤلم في ايرلندا الشمالية نتيجة الارتفاع المتزايد في البطالة بين الكاثوليك الأكثر فقرا وظروف العيش المأساوية في المناطق التي أطلقنا عليها أحياء الفقراء في اوروبا، فقد تحوْل التمرّد الأكبر ضد العنف إلى تمرّد ضد الفقر، وبتنا قادرين على إبقاء الحركة بعيدة عن الشوارع حتى لا نصطدم مع المتعطشين إلى الدماء، نحمل شعلة الأمل والمحبة، نطوف بها وبأهدافها حتى وصلنا بها إلى جائزة نوبل التي شككنا في أن تكون قد قدمت فائدة لبلدنا ايرلندا وبتنا نقول حينها: لا …ليس بعد..، لقد منحتمونا جائزة نوبل في وقت مُبكر جدا… لا نستحقها بعد، أرجوكم أن تطرحوا علينا السؤال بعد عشرين عاما…”.
موت حركة السلام
كانت بيرتا وميريد تشدّدان على أهمية الحركة (حركة أشخاص السلام) بكونها أكثر من مجرد إشارة أولية للتوجه نحو السلام وتعزيزه بين شعب ايرلندا الذي أخذ يصارع بعضه البعض، فالسلام بالنسبة لهما أكثر أهمية من أي شي آخر “.. يمكننا القول بأننا حولنا انتباه الأشخاص من العنف إلى السلام حتى بدا العنف يتضاءل بشكل مطرد منذ غشت 1976 نتيجة تحلي الناس بالشجاعة ضد العنف، فالأشخاص الوحيدون القادرون على وقف العنف هم الأشخاص الموجودون هنا عبر العمل من أجل العدالة والحقوق الإنسانية، لقد أيقظنا العواطف وأنشأنا من خلالها حركة السلام التي سريعا ما أخذت بالانهيار نهايات العام 1978 بعد أن قررنا الانسحاب من رئاستها إلى عضوين عاديين رغم ما أدى إليه ذلك من رسالة غير صحيحة “..يقولون إننا انسحبنا من حركة السلام لنُسعد بمالنا، حركة السلام ماتت وأنتم قلتم هذا..”.
فبعد جلسة ليلية لمجلس الأمناء 7 فبراير 1980 انهارت حركة “أشخاص السلام” وهاجرت بيتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية بينما فضلت ميريد كوريغان البقاء في وطنها ملتزمة بالسلام وتزوجت سريعا من أرمل أختها ماغواير وبات اسمها الجديد كوريغان ماغواير وبقيت توجه رسالتها إلى الجيش الايرلندي الذي كان آخرها عام 1993 بعنوان (رؤية جديدة: رسالة مفتوحة للجيش الايرلندي)، دعت فيها إلى تجنب القتل والحروب والتحلّي بالسلام، إضافة إلى مبادرتها (لا تقتل أخاك) التي تهدف إلى إلغاء عقوبة الإعدام ملتزمة بالسلام أكثر من التزامها بالعنف حتى جاء السلام فعلا عام 1994 وتصافح الأعداء الرئيسيون وبدأ شعب ايرلندا يأمل بأن يؤدي اللاعنف المترافق مع جهود مشتركة إلى سلام دائم، خاصة بعد أن وُجهت الأنظار إليها من جديد وتم منح اثنين من مواطنيها جائزة نوبل للسلام (جون هيوم ذو الأصول الكاثوليكية وزعيم حزب العمل الديمقراطي، ودايفيد تريمبل البروتستانتي وزعيم حزب ألستر الوحدوي في ايرلندا..”.
سلسلة من إعداد وتقديم: معادي أسعد صوالحة