مناضلات حصلن على نوبل -الحلقة 13 –

 “…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….”. 

ألفا ميردال.. الاستسلام ليس جديراً بالإنسان

المرأة التي بنت الجسور وفتحت الأبواب وأسقطت الطغاة وحصلت على نوبل

“….تكلّم أنت الذي لا تزال لك شفتان…، تكلّم لكي تتحوْل الكلمات إلى شموع، إلى أنهار..، تكلّم فربْما تفتح الكلمات الأبواب المُوصدة وتبني الجسور المُحطّمة….، تكلّم فربْما يُمكن للكلمات أن تُسقط الطغاة….”…

 بهذه الكلمات المُوجزة أخذت الصحف السويدية تنعى السيدة العجوز ووزيرة نزع السلاح الأممية لسنوات طوال ألفا ميردال يوم وفاتها في الأول من فبراير عام 1986 بعد حصولها على جائزة نوبل للسلام قبل ذلك بأربع سنوات.. واشتهرت برفضها منصب مديرة اليونسكو عام 1946 بعد أن لخصّت انطباعاتها وخبراتها في الحياة ضمن كتابها الشهير “الفقراء” الذي حاكت به الواقع الاجتماعي للشعوب الأوروبية الفقيرة خاصة في مسقط رأسها السويد، وعالجت بمنهاج فلسفي واجتماعي مسألة الفقر وكيفيات القضاء على التهميش وإحقاق العدالة الاجتماعية، إضافة إلى المساعي الطويلة التي ناضلت من أجلها لسنوات والكامنة في نزع السلاح التي أوردتها ضمن كتابها الصادر عام 1977 “مناورة قذرة لنزع السلاح”.

نصف العالم

كان الرجال مشغولون إلى حدّ كبير بالتغيير لدرجة أنهم لم يلاحظوا ابنة العشر سنوات المُختبئة كعادتها تحت طاولة صغيرة حيث يجتمع هؤلاء وقد سمّرتها الكلمات التي أخذت تسمعها وتدق آذانها دون فهم الكثير من محتواها ودون فهمها للمناقشات المُفعمة بالحيوية والنشاط حول القيم الاجتماعية والديمقراطية الأساسية والحق في الانتخاب وغيرها من القيم التي أخذ يتداولها الرجال هناك، لكن الشيء الوحيد الذي أدركته حينها هو أن الرجال هم الذين يُشكّلون العالم لا النساء…. عالم يُخطط له ويُحدده نصفه الرجولي فقط، وبالتالي لا يمكن لمثل هذا العالم أن يكون مفيدا للإنسانية جمعاء حسب قولها، وأدركت حينها بأنه ليس بمقدورها أن تجرؤ على الخروج من تحت طاولتها والتدخل في النقاش الدائر… وكلما اجتمع هؤلاء جلست تحت طاولتها الصغيرة وازدادت تصميما على التدخل بشكل فعلي في كل ما يجري في العالم من حولها، وكلما سيكون ذلك ممكنا ستتحدّث بثقة وإقناع وتتدّخل في كل شيء….. لكنها لن تستسلم أبدا…

الاستسلام غير جدير بالإنسان

كانت الطفلة الصغيرة ألفا المولودة في أبسالا بالسويد يوم الواحد والثلاثين من يناير 1902 قد أخذت تعي بجلساتها المُتكرّرة تحت طاولتها الصغيرة بأن العالم سيكون مُقتصرا فقط على الرجال الذين سيحدّدون ملامحه ومستقبله، وبالتالي لا بد لها والنساء من جيلها أن يتشاركن في صناعة هذا العالم حيث الحاضر والمستقبل، وفي هذا تقول ألفا بعد نصف قرن تقريبا وفي خطاب لها في أحد مؤتمرات النساء الأوروبيات: “…كانت النقاشات الدائمة التي تحدث في منزلنا تجعلني أشعر بأن لا مستقبل للنساء في هذا العالم الكبير لشدة إصرار الرجال على فعل كل شيء، لكنني الآن بتُ أعي أمرين اثنين وبشكل أكيد: الأول أننا لن نكسب شيئا إذا قمنا فقط بالالتفاف على المصاعب وتمنينا أن تُحلْ دون أن نفعل شيئا لذلك، والثاني أن هناك دائما شيئا يُمكن أن تقوم به بنفسك، وإذا ما عبّرت عن فكرتي بشكل آخر وبأسلوب غير مُتطلب فإنني سأقول لكل إنسان: تعلّمْ… وحاول دائما أن تكتشف الأكثر…، استمع إلى اقتراحات عديدة ومختلفة وإلا لن يبقى لديك إلا الاستسلام فقط، والاستسلام غير جدير بالإنسان…”.

أول وزيرة أممية لنزع السلاح

 

ألفا ميردال

لم يكن (ألبرت ريمر) الخبير الاستثنائي في عالم التكنولوجيا والذي يناقش مع بعض الرجال مستقبل العالم وحاضره يعي جيدا بأن ابنته الصغيرة التي تجلس تحت الطاولة ومنحها اسما ذكوريا تيمّنا بالرجل الذي اخترع الميكرفون العامل على الكربون عام 1976 والفونوغراف عام 1877 وأول مولد يدار بالبخار لإنتاج التيار الكهربائي عام 1881 ألا وهو (توماس ألفا أديسون)، لم يكن يعي بأن ابنته الصغيرة ستنال سريعا شهرة متجانسة مع شهرة مخترع المصباح الكهربائي وتصبح أول وزيرة سويدية تدعو لنزع السلاح في العالم وتحصل معها على جائزة نوبل للسلام عام 1982 رفقة المكيسكي (الفونسو روبليس) بعد أن عُدّت المرأة الأولى والوحيدة التي شغلت مهام سياسية عالية في منظمة الأمم المتحدة وسافرت معها إلى قارات ثلاثة قبل أن يظهر عليها المرض وتأخذ ساعات يائسة وطويلة لتمسك قلمها بيدها المرتعشة وتشكّل عشر كلمات فقط وهي تتحّرك بصعوبة في آخر مقابلة لها عام 1984 بمناسبة افتتاح مؤتمر ستوكهولم للسلام: “لا يزال باستطاعتي التعبير والكتابة، والأمر يتطلب فقط وقتا أطول..”، وهو وقت لم يطل كثيرا بعد أن دخلت في صمتها الطويل ولم تتمكّن العمليات الجراحية العديدة من إيقاف الورم الذي أصيب به دماغها وفقدت معه القدرة على النطق وأفقدها قدرتها على الدفاع عن الموضوعات التي طالما اعتبرتها هامة في حياتها وترحل سريعا بتاريخ الأول من فبراير عام 1986…

يمكن للكلمات أن تتحوْل إلى شموس

كان معنى الكلمة والقدرة على التعلّم والتفكير والكلام والالتزام المُستمر بالحرّية هي الخطوط الحمراء التي حكمت حياة (ألفا ميردال) ومنذ سنوات الطفولة، ويبدو ذلك واضحا في الرسائل العديدة التي أخذت تكتبها للأشخاص المُهمين في حياتها وفي خطاباتها الحماسية خلال عملها في منظمة الأمم المتحدة (اليونسكو) كوزيرة لنزع السلاح عام 1951، وكذلك في جلّ كتاباتها ومؤلفاتها التي من أشهرها كتابها المعنون “مسؤوليتنا تجاه الفقراء” عام 1961، إضافة الى الكتب التي تشاركت فيها مع زوجها غونار “أزمات في قضايا الشعوب” 1934، “اتصال مباشر بأمريكا” 1940، و”الدور المزدوج للنساء في العائلة والعمل” عام 1947″، وهي الكتب التي عمدت إلى تأليف البعض منها سنوات عملها كسفيرة للسويد بالهند والتقائها بجواهر لأل نهرو وتأثرها بأفكاره ومبادئه السلمية وأسلوبه الخاص، وفي هذا تروي شقيقتها بالقول: “كان شغف ألفا بالكلمة المكتوبة قد بدأ منذ الصغر رغم أنه لم يكن من السهل تلبية حاجتها إلى الكتب لقراءتها، إذ أن عائلتي لم تكن تملك المال الكافي لشرائها من جهة، كما أن والدتي كانت تعارض جلب الكتب للمنزل نظير هوسها الشديد وخوفها من البكتيريا التي قد تلتصق بالكتب، وهي أمور لم تقف حائلا دون ألفا وطموحاتها، كانت تقرأ كثيرا ولم يكن لها خيار غير شراء كتب أميل زولا وآرثر شوبنهاور وستوارث ميل واوغست شتريندبرغ وغيرهم، حتى أنني كنت أقوم بمهامها المنزلية والأعمال المنوطة بها حتى تتمكّن من القراءة في باحة المنزل الخارجية دون أن يزعجها أحد، ولعلّ مثل هذه القراءات المجدية هي التي جعلتها فيما بعد تحتل مناصب عالية ومهمة حيث عملها في منظمة الأمم المتحدة (اليونسكو) كوزيرة لنزع السلاح وصياغتها للحجج الذكية في العديد من الكتب التي قامت بتأليفها دون أن تعيقها الانتقادات ودون أن تقف حائلا وتحقيق مهمتها وهدفها ألا وهو النزع الشامل والكامل للأسلحة النووية حول العالم، وباختصار شديد لقد كان لكلماتها التأثير الكبير الذي تريده وأرادته على الدوام رغم أنها لم تكن تصيب الهدف المباشر منها في أحيان كثيرة….”.

 

وتكتب (الفا ميردال) في بداية سيرتها الذاتية: “….غريب أن أعود اليوم فقط إلى ما كان مُهما في طفولتي التي كنت أعي فيها تماما أنني فتاة، كنت أتمنى أن أكون صبيّا رغم أنني لم أكن في يوم من الأيام أشبه الرجال في ملابسي وتصرفاتي، كما كنت أعتقد بأن كوني فتاة سيُشكل عائقا اجتماعيا حيث السويد في ذلك الوقت التي لم تكن تسمح للفتاة أن تذهب إلى المدرسة حتى الصف السابع فقط…، لكن محاوراتي مع والدي العضو في حزب الرايشتاد الاجتماعي الديمقراطي والمُعجب الكبير بأفكار جان جاك روسو نجحت في إقناعه وإقناع السلطات التعليمية بتنظيم صفوف المدرسة الثانوية للفتيات التي بتُ معها شغوفة بالكلمة والتعلم والتعليم، وألفت كتباً هامة من خلالها ووضعت عبرها هدفي الخاص وهو نزع السلاح من هذا العالم الموحش، وأذكر جيدا التجاهل الكبير لاقتراحاتي بنزع السلاح من طرف العديدين أثناء حصولي وزوجي غونار عام 1970 على جائزة السلام من جمعية تجار الكتاب الألماني التي اخترت فيها كلماتي بواقعية عالية وبتُ أقول حينها: نريد أن نعتقد بشدّة أن كل إنسان في أعماقه يريد السلام على هذه الأرض، لكن هذا التقدير هو عرضة للعديد من التحدّيات والمتاعب، لذلك أعتقد بأن النداءات الكثيرة مثل (نريد السلام) لن يكون لها أي تأثير في أصحاب القرار في الدول المختلفة، وبالتالي سأعبر لكم عن أفكاري بكلمات قاسية بعض الشيء… سأقول لكم بأن اتخاذ مثل هذه الإجراءات لنزع السلاح يُشكل بالدرجة الأولى علاجا لعضلات مناصري نزع الأسلحة، وإذا كان العديد منهم يتجاهلون ويرفضون مثل هذه الاقتراحات إلا أنني لن أستسلم أبدا في تحقيق أهدافي ….”.

الأوراق الثلاثة

وتضيف (ألفا ميردال) بالقول: “… إلى جانب شغفي الكبير بالكلمة ومشواري المهني الطويل كانت هناك رمزية أخرى أميل إلى تحقيقها من خلال أوراق ثلاثة متلاصقة، وهي تشكيل ثنائي رائع مع رجل أحبّه، أن يكون لي أولاد وعائلة، أن أقوم بإنجاز أو تغيير شيء بالتعاون مع الآخرين، وانطلقت سريعا إلى تحقيقها عندما وجدت وأنا في السابعة عشر ربيعا ورقتي الأولى في غونار ميردال الذي شاركته حبي اللامتناهي ودامت علاقتي به تسعة وستين عاما بالرغم من فترات عملي التي عشتها في قارات ثلاثة حيث أمريكا وباريس والهند، كما أن غونار كان عنصرا هاما في ورقتي الثانية (تشكيل عائلة وأبناء) وورقتي الثالثة (إنجاز عمل بالتعاون مع الآخرين) بعد أن شاركني فيها ونجحنا في صياغة أولى مؤلفاتنا التي حملت اسم “الأزمة في المنطقة الديمغرافية” الذي صدر عام 1934 وتسبّب في جلبة وصخب كبير بشتى أرجاء السويد بعد أن ذكّر هذا الكتاب (عدّ بمثابة تأسيس لرفاهية الدولة السويدية) بالأوضاع المعيشية المتردّية للأطفال والعائلات السويسرية ومطالبتة ببرامج صديقة للعائلة ومخصصات للأولاد ومساعدات في الإيجار ومدارس مجانية، إضافة إلى تناوله لموضوعات حساسة كالإجهاض مثلا حتى أصبحنا لا نستسلم للمعايير التقليدية في المجتمع، وأصبح مثل هذا الكتاب مفتاحا لأبواب جديدة في حياتنا المهنية حيث شغل زوجي العديد من المناصب واستقر في جينيف (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا) وفضلته على عائلتي (كاج وسيسيليا) اللذين لم أتقرب منهما إلا في الثلث الأخير من حياتي المهنية بعد التحاقي بزوجي بعد عودتي من رحلة عملي بالهند عام 1956 واستطعت من خلالها بناء جسور من المحبة والاحترام بين الشعوب تحت مظلة الأمم المتحدة بعد أن تأثرت كثيرا بجواهر لال نهرو الذي كان لأفكاره دور كبير في صياغتي لكتابي “مناورة قذرة لنزع السلاح” عام 1975 وجعلت كلماته تبتعد عن النمط الكلاسيكي وتقترب من الواقعية حيث التسلح القليل والدعوات المباشرة لكافة الدول لتتخلى عن السلاح النووي في مسعى أخلاقي وعقلاني في آن واحد نظير إيماني الكبير بأن الكلمات قد تستطيع أن تسقط الطغاة الذين يُكدّسون الأسلحة ويدافعون عن الإنتاج الضخم لوسائل التدمير بحجة حماية بلادهم، وهي دعوات كنت قد ختمتها في خطابي الأخير بالأمم المتحدة وبصورة براغماتية وواقعية وتحت عنوان “ضمير حركة نزع السلاح”، وحينها فقط استطردت بالقول: اسمحوا لي أن أنهي هذا العرض الرسمي بسؤال مُوجْه إلى زملائي: متى سنشهد مبادرات جدّية باتجاه نزع السلاح ؟؟…”.

تاريخ الفرص الضائعة

كانت ألفا  قد أخذت تكرّس حياتها من خلال مهمتها الأممية نحو غاية وحيدة ألا وهي نزع السلاح وأطلقت لهذه الغاية وهذا المجهود مصطلح (تاريخ الفرص الضائعة) في إشارة مباشرة إلى الأوقات التاريخية التي حصلت فيها تغييرات إيجابية في المناخ السياسي العالمي وفي هذا تقول “…. السلام يعني الانتصار للجميع وليس هناك أي انتصار آخر…”،  وتضيف في كلمتها لحظات نيلها جائزة الجمعية الألمانية لتجار الكتب عام 1970 وفي معرض حديثها عن الفرص الضائعة “…. من واجبنا أن نحذر القوي والعظيم، ومن واجبنا أن نتصرف بلباقة وأدب، من واجبنا أن نقبل بمسؤوليتنا حتى لا يكون هناك بعد اليوم فرص ضائعة، فرص تاريخية تفلت من أيدينا، إن مهمتنا هي إيجاد السلام…، السلام الذي يحقق العدالة والرخاء للجميع”، وهي كلمات بقيت تتسلّح بها ألفا حتى تقاعدها من مهامها النبيلة عام 1974 دون غياب بصمتها على الفكر السياسي في مسائل نزع السلاح حتى أصبحت بعد عام فقط (عام 1975) بمثابة القوة المحركة وراء مؤتمر الأمن والتعاون في اوروبا وتنال بعد حين جائزة نوبل للسلام عام 1982 بعد أن قدمت حينها شاحبة الوجه ومرهقة وبدت عليها علامات تقدّم انسداد الشرايين وعضلة القلب وبدايات الجلطة التي أصابت الدماغ خاصة بعد استعانتها بعصا خاصة لصعود الدرجات المؤدية إلى المنبر…

الصمت الأبدي

جواهر لال نهرو الأب الروحي لألفا ميردال

تروي الأبنة الكبرى لألفا ميردال (كاج) في كتابها الخاص عن والدتها بالقول “…. بعد تقاعد والدتي عن مهامها في المنظمة الأممية بقليل أخذ المرض يصيب دماغها الفكري الكبير حتى أصبحت غير قادرة على اختيار الكلمات والمعاني، وعندما جيئت لاستلام جائزة نوبل في الحادي عشر من ديسمبر 1982 كان الجميع قد أخذ يتساءل: هل ستستطيع رفع صوتها من جديد والتحدّث إلى الجمهور رفيع المستوى، لكنها فعلت ذلك في تحدّ كبير للمرض….، كانت تصعد المنبر بثبات وتنظر إلى أرجاء القاعة التي امتلأت حتى المقعد الأخير وبدأت تقول كلماتها الأولى بتردّد وبصوت منخفض دون أن تفقد حسّها لكل ما هو عملي: اسمحوا لي أن أشير ليس فقط إلى موضوع نزع السلاح بل إلى العلاقة بين مشاكل التسلّح والتطور المتهور للتكنولوجيا وازدياد العنف… إن الحرب جريمة، والتحضيرات العسكرية التي تجري تحسبا لمواجهة محتملة تهدف إلى القتل الجماعي.. يجب عليكم مواجهة هذه الحقيقة فالعصر النووي سيجعل الضحايا بالملايين… يجب أن تتجه حضارتنا إلى العدالة والتحضّر والسلام بدل الهمجية والحروب والدمار… يجب عليكم أن تتسلّحوا بكل الوسائل التي تجعل مساعدتكم فعالة في بناء المستقبل الجميل لأبنائنا وأبنائكم… لقد كانت والدتي تتحدّى المرض وتقول: لن أكف عن الكتابة وإثارة الجلبة من أجل التغلّب على الحس العام… وبينما كان المرض يسيطر عليها أكثر فأكثر عام 1984 أخذت تتساءل بالقول: ماذا سيحدث عندما لن أعود قادرة على شرح الأمور…؟؟، لكنها سريعا ما فهمت هذه الكلمات عندما اقتربت نهايتها… وقبل يوم واحد من ذكرى مولدها الرابع والثمانين (1986) دخلت في صمتها الأبدي مع ثقتها في أن تستطيع الكلمات أن تهز العالم وتوقظه وتُحدث التغيير المنشود، وهو التغيير الذي لم تشهده ألفا ميردال حيث نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وفتح الحدود في أوروبا الشرقية وتراجع خطر الحرب النووية إلى الظل بسبب الحروب والأزمات المُتعدّدة…

 سلسلة من إعداد وتقديم: معادي أسعد صوالحة

Related posts

Top