من أجل حوار عمومي رصين وبلا «تشيار»

تقرير لجنة النموذج التنموي جاء متطلعا لبلورة توافق وطني حول اختيارات تنموية استراتيجية كبرى، وفقط لأنه كذلك وهو يعلن ذلك ولا يخفيه، فهو يعني أنه قابل للنقاش، وليس وصفة إطلاقية تؤخذ كلها أو تترك كلها.
الحوار العمومي المطلوب اليوم إذن، على ضوء هذا التقرير، والذي دعا الملك إلى نشره ومناقشته، يجب أن ينتظم ضمن السعي العام لتقدم بلادنا وتطوير أوضاع شعبنا، وبلورة المداخل الموضوعية من أجل ذلك.
من المؤكد أن التقرير استعرض تشخيصا مهما لمعضلات عديدة في واقعنا الوطني والمجتمعي، ومن المؤكد أيضا أن السياق الزمني لإنجازه فرض أيضا اشتراطاته على أعضاء وخبراء اللجنة، لكن أسئلة جوهرية بقيت ماثلة أمامنا وتقتضي تقوية اجتهادنا الجماعي لإيجاد أجوبة لها.
ولعل السؤال المركزي الكبير هو طبيعة هذا الأفق الإستراتيجي المتحدث عنه، ومعناه، وعلاقته بالتدبير المؤسساتي للدولة والمجتمع، وما هي الحدود بين الأفق الإستراتيجي ومنظومة التدبير السياسي الديمقراطي التي تعبر عن اختيار الشعب وإرادة الأمة…
السؤال الديمقراطي هنا ليس ثانويا أو تكتيكيا وإنما هو ثابت جوهري، ومن الضروري استحضاره، سواء بمنطق قيم الدولة الديمقراطية الحديثة في عالم اليوم، أو بمنطق القوة الدستورية التي يجسدها تنصيص الدستور على الخيار الديمقراطي.
يعني ما سبق، أن السياسة والديمقراطية والإصلاح المؤسساتي وفصل السلط والسياسات العمومية ودور الحكومة والأحزاب والمؤسسات التمثيلية…، كل هذه القضايا  ليست بلا أهمية في عالم اليوم، ومن الضروري توضيحها، واستثمار النقاش العمومي حول خلاصات وتوجهات تقرير النموذج التنموي لتوضيحها وإعادة التأكيد عليها.
وعندما تأتي توجهات التقرير نفسها واقتراحاته منتظمة ضمن منطق التوافق الوطني، فذلك يعني، منطقيا وموضوعيا، جعل هذه القناعة ممتدة في البلورة العملية لمخرجات التقرير، أي تعزيز توافق واسع بين الفرقاء السياسيين ومختلف الفاعلين حول توجهات استراتيجية كبرى، ولا تكون في الوقت ذاته لاغية للخيار الديمقراطي، أو مغيبة للتنافس الديمقراطي والتعددية السياسية والحريات.
من جهة ثانية، يعتبر ضعف الثقة في الهيئات السياسية أو في باقي مؤسسات التنشئة والوساطة والتأطير، معضلة مركزية يجب الاجتهاد في إيجاد الحلول لها وتجاوزها، وليس اعتبارها قدرا محتوما، ومن ثم البحث عن بديل يقفز عنها، ويلغي دور الأحزاب والسياسة والمؤسسات…
صحيح أن تراجع هذه الثقة لا يخلو من دور ذاتي للأحزاب نفسها، ولكن، مع ذلك، لم يكن الأمر بسببها وحدها، فقراءة تاريخنا السياسي الوطني، منذ عقود وفِي السنوات القليلة الأخيرة، يبرز أن هذا الواقع أنتجته ممارسات عديدة ومتراكمة، وهو الذي قادنا إلى كل هذه الضحالة والتبخيس في حقلنا السياسي والحزبي والانتخابي، وللخروج من هذه المعضلة يجب بلورة مقاربة شمولية وشجاعة تستعرض كل المسؤوليات وتضع القطائع اللازمة على هذا الصعيد…
والمهم، في هذا المجال،  هو أنه لإنجاح التحولات الكبرى في المجتمع، من الضروري بناء الثقة وتقويتها، وامتلاك مؤسسات للوساطة والتأطير، وأهمها الأحزاب ذات الجدية والمصداقية، والحرص على التعددية السياسية في البلاد.
وهذه مسؤولية الدولة والمجتمع، وتتطلب تغيير المقاربة والنظر من لدن الجميع.
الأمر لا يعني اليوم تقاطبا بين سعي ضمن منطق استراتيجي يروم إحداث تغييرات كبرى وأساسية، ومنطق آخر ينغلق على نفسه ضمن توجهات تكتيكية قصيرة المدى، تتمسك بمصالح آنية وضيقة بلا أي امتداد في الأفق الوطني والتنموي للبلاد.
الحوار العمومي الرصين يجب أن يجيب عن سؤال الربط بين الأفق الإستراتيجي التنموي لبلادنا، ومقتضيات التدبير السياسي الديمقراطي للدولة والمجتمع، والتمسك بالتفعيل الديمقراطي للدستور، وتثمين دور السياسة والمشاركة الشعبية، واحترام الحريات والتعددية.
هذا هو رهاننا الوطني في سياق تحقيق انطلاقة تنموية ومجتمعية كبرى، وهو ما يفرض بلورة نقاش سياسي وطني رصين وعاقل وبعيد النظر، وبلا كلام سهل أو»تشيار»منفلت.

<محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top