> بقلم: المصطفى المصدوقي
في كتابه «الخطاب العربي المعاصر: دراسة نقدية تحليلية»، يحلل المفكر محمد عابد الجابري الخطاب العربي الحديث والمعاصر، من خطاب نهضوي وخطاب سياسي وخطاب قومي وخطاب فلسفي، تحليلا ابيستيمولوجيا يكشف عيوب هذا الخطاب ويشخص التناقضات التي يحملها سواء على سطحه أو داخل هيكله العام.
النقد الابيستيمولوجي للخطاب العربي انتهى بالجابري إلى القول بأنه لم يحصل أي تطور حقيقي في أية قضية من القضايا النهضوية التي عالجها هذا الخطاب، «إن الخطاب العربي الحديث والمعاصر لم يسجل أي تقدم في أية قضية من قضاياه، بل ظل سجين بدائل، يدور في حلقة مفرغة، لا يتقدم خطورة إلا ليعود القهقرى خطوة، لينتهي به الأمر في الأخير إما إلى إحالة القضية على المستقبل وإما إلى الوقوف عند الاعتراف بالوقوع في أزمة أو الانحباس في عنق الزجاجة»، يقول الجابري قبل أن يتابع مؤكدا:«إن زمن الفكر العربي الحديث والمعاصر زمن ميت أو قابلا لأن يعامل كزمن ميت، أو أنه على الأقل لا شيء يغير ماجريات الأمور فيه إذا نظر إليه كذلك».
فما الأسباب التي جعلت الخطاب العربي الحديث والمعاصر يدور في حلقة مفرغة،لا يتقدم خطوة حتى يرجع القهقرة ليبدأ من الصفر من جديد، حتى إذا انتهى به التطواف إلى عنق الزجاجة أحال القضية على المستقبل؟
بحسب الجابري فإن ما يعانيه الفكر العربي من أزمة يعود إلى كون هذا الفكر محكوم بسلطة النموذج/السلف، يمارس سلطة عليه فيحتويه ويوجهه.محكوم بعوائق من داخله ومن ذات بنيته ويتعلق الأمر بنوع الآلية الذهنية المنتجة له، إنها آلية القياس الفقهي، قياس الفرع على الأصل أو الغائب على الشاهد «عندما يكون الوعي مستلبا داخل نموذج – سلف تكون آلية التفكير بالضرورة هي القياس لأن النمودج- السلف يفرض نفسه كأصل يستحث على قياس غيره عليه. وبالعكس، فعندما تكون آلية القياس مترسخة في الفكر مهيمنة على نشاطه فإن المهمة تصبح حينئذ منحصرة في البحث لكل جديد عن أصل يقاس عليه» يقول الجابري موضحا.
هذا، إضافة إلى كونه فكرا إشكاليا ما ورائيا، بمعنى أنه يطرح مشاكل لا حل لها، ويتعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية. كما يكرس اللاعقل في مملكة العقل، ذلك أن الخطاب العربي«لا يكتفي بتجاهل القطاع الفلسفي العقلاني في تراثنا،ب ل إنه يطلب النجدة من القطاع اللاعقلاني في هذا التراث كلما شعر بالحاجة إلى “أرض” قومية يضع عليها إحدى”رجليه”».
لكن القسط الأوفر من مسؤولية ركود و جمود الفكر العربي يحملها صاحب كتاب “نقد العقل العربي” إلى هيمنة النموذج-السلف على الفكر العربي ونشاطه، يوضح ذلك قائلا:«فالنموذج-السلف هو الذي يغذي العوائق في الخطاب، بل هو معينها الذي لا ينضب. كما أنه المسؤول الأول عن انصراف الفكر العربي عن مواجهة الواقع، والدفع بالتالي بالخطاب المعبر عنه إلى التعامل مع الممكنات الذهنية وكأنها معطيات واقعية. وأخيرا، إن النموذج-السلف هو الذي يجعل الذاكرة، وبالتالي العاطفة و اللاعقل، تنوب عن العقل».
إن ما هدف إليه فيلسوف المغرب محمد عابد الجابري من دراسته التشخيصية للفكر العربي الحديث والمعاصر هو بيان طبيعة هذا الخطاب وجلاء نقائصه وتناقضاته، استجلاء لصورة “العقل العربي ” من خلاله.
وهكذا انتهى به التحليل الابيستيمولوجي للفكر العربي الحديث والمعاصر إلى قناعة أساسية وهي ضرورة تدشين خطاب جدي في نقد العقل العربي.
«إن ما أبرزناه من قبل من كخصائص أساسية ماهوية في الخطاب العربي الحديث والمعاصر، من الركون دوما إلى نموذج سلف واعتماد القياس الفقهي وتوظيف الإيديولوجي للتغطية على النقص المعرفية و التعامل مع الممكنات الذهنية كمعطيات واقعية، إن هي إلا عناصر في شبكة الآثار التي خلفتها فينا سيرورتنا العامة الطويلة منذ انبثاق العقل العربي، أي منذ عصر التدوين..فإلى هذه الشبكة من الآثار يجب أن نتجه الآن بالتحليل والفحص والنقد. إن الحاجة اليوم تدعو إلى تدشين عصر تدوين جديد تكون نقطة البداية فيه، نقد العقل العربي» يقول الجابري في مؤلفه الخطاب العربي.
النص السلطة المرجعية
للعقل العربي:
يري الجابري في كتابة تكوين العقل العربي، أن العقل العربي تكون ووضعت أسسه الأولى والنهائية والمستمرة خلال عصر التدوين.هذا العصر الذي جمعت فيه الأحاديث وتفاسير القران ، وبداية كتابة التاريخ الإسلامي، وأسس علم النحو وقواعد الفقه، وتشكلت فيه الفرق والمذاهب الإسلامية. وهو نقطة البداية لتكوين النظام المعرفي في الثقافة العربية.
وفي هذا العصر اكتمل تكوين العقل العربي ولم يتغير منذ ذلك الوقت، ومازال سائدا في ثقافتنا حتى اليوم، وهو الإطار المرجعي للعقل العربي، وعلى هذا فإن بنية الثقافة العربية ذات زمن واحد، زمن راكد، يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية.”الثقافة العربية بوصفها الإطار المرجعي للعقل العربي، نعتبرها ذات زمن واحد منذ أن تشكلت إلى اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية” يقول الجابري في كتابه، قبل أن يضيف: “يعيشه دون أن يشعر بأي اغتراب أو نفي في الماضي عندما يتعامل فكريا مع شخصيات هذا الماضي..وبالتالي فالعقل العربي إنما تشكل ككيان وثبتت أركانه وتعينت حدوده واتجاهاته خلال عصر التدوين”.
بعد ذلك، يبدأ الجابري في تصنيف العلوم التي تشكلت في عصر التدوين، إلى ثلاثة أنواع:
-علوم البيان:
من نحو و فقه و كلام و بلاغة، وبحسب الجابري فإن هذه العلوم تشكلت دفعة واحدة في عصر التدوين، بهدف الحفاظ على قراءة النص القرآني على أساس قياسي نظري، ومصدر سماعي، وذلك استنادا إلى السماع العربي .فأصبح البدوي العربي هو الأداة والمرجع للثقافة العربية.
ودائما في إطار حديثه عن علوم البيان، يلجأ الجابري إلى عقد مقارنة بين الثقافة اليونانية والأوروبية من جهة، والثقافة العربية من جهة أخرى. وذلك بقصد: تحديد الطريقة التي يعمل بها العقل العربي.
وهذا ما جعل الجابري يقول إذا كانت الحضارة اليونانية حضارة فلسفة، والحضارة الأوروبية المعاصرة حضارة علم و تقنية، فإن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة فقه بالأساس.و نستشف من هذا أن العقل الفقهي هو الذي أسس العقل العربي، بل إن العقل العربي هو عقل فقهي. وهذا ما جعل الجابري يعود إلى دراسة أصول الفقه، ليخلص إلى أن الفقه شرع للعقل، يقول الجابري:”هنا مع أبي حنيفة، ومع أهل الرأي عامة، كان المشرع هو العقل، أما مع الشافعي فقد كان العقل هو المشرع له”.
وعليه، لم يعد العقل هو المشرع للفقه، وإنما الفقه هو المشرع للعقل، أي أن النص أصبح السلطة المرجعية للعقل العربي.
-علوم العرفان:
و لها أصول في الحضارات السابقة على الإسلام، و تضم :التصوف،و الفكر الشيعي،و التفسير الباطني،و الفلسفة الإشراقية ،و السحر و التنجيم ..و قد كان هذا هو العقل الذي تحمله الهرمسية ،و هو أول ما انتقل إلى الثقافة الإسلامية ،و ذلك عبر الكيمياء -السيمياء عند العرب- و التنجيم.(لقد كان العقل المستقيل الذي تحمله الهرمسية هو أول ما انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من عناصر الموروث القديم ،و ذلك عبر الكيمياء و التنجيم)يقول الجابري.
أما عن المواقع الرئيسية التي احتلتها الهرمسية في الثقافة العربية الإسلامية و أشكال حضورها فيها،فيقول عنها الجابري:” فمن الغلاة الأوائل إلى الرافضة و الجهمية و بعض التيارات المجسمة،إلى مؤسسي التصوف النظري الأوائل،إلى رسائل إخوان الصفا ،إلى التيارات الصوفية الباطنية و الفلسفة الاشراقية،مرورا بأصحاب الحلول و أصحاب وحدة الشهود قي القرن الثالث الهجري…إلى فلسفة ابن سينا المشرقية و تصوف الغزالي”.
-علوم البرهان:
وتضم المنطق والرياضيات، وعلوم الطبيعة و الميتافيزيقا ..كانت بدايتها الأولى عند أول فيلسوف عربي الكندي ثم الفرابي..و كانت مرحلة الازدهار البرهاني في الأندلس ،متواكبة مع العرفان و البيان في المشرق العربي.
وهكذا كانت –بحسب الجابري – ظاهرة ابن حزم ذات الطابع العقلاني الذي أراد أن يؤسس البيان تأسيسا منطقيا على البرهان ،برغم قياس الشاهد على الغائب ،كانت بداية انطلاقة للعقل العربي.”إننا هنا إعادة ترتيب جديدة تماما ،بل إعادة تأسيس كاملة للعلاقة بين البيان و البرهان و على أساس نظرة واقعية عقلانية إلى الأمور،نظرة تعالج الواقع الديني و الواقع الفلسفي بروح نقدية تحترم معطيات الواقع و لكن دون أن تستسلم له و تتركه يحتويها،بل بالعكس تحرص على احتوائه و تعمل على إعادة بنائه و إخصابه.إنها بداية جديدة فعلا للفكر العربي تلك التي دشنها ابن حزم”.تواصلت مع الشاطبي و ابن باجة وابن رشد و ابن خلدون.
ولكن ما إن اكتمل تأسيس هذه المرحلة حتى انطفأ شعاعها ،و أخذت تسود المصالحة بين البيان و العرفان طوال عصور الانحطاط اللاعقلانية،خصوصا بعد الغزالي و بعض المتصوفة.
إذ انتهى الأمر بالبرهان في الثقافة العربية الإسلامية،إلى أن أصبح مع الغزالي مجرد آلية ذهنية شكلية يراد منها أن تحل محل آلية ذهنية،شكلية أخرى،آلية الاستدلال بالشاهد على الغائب ،مما أفقده وظيفته البرهانية »»«إن المنهج الأرسطي الذي أراد منه صاحبه أن يكون تحليلا،و أن يكون طريقة برهانية لتحصيل العلم من معارف يقينية سابقة،إن هذا المنهج الذي سمي المنطق،قد تحول مع الغزالي إلى مجرد آلية ذهنية شكلية يراد منها أن تحل محل آلية ذهنية أخرى،آلية قياس الغائب على الشاهد».
كما انتهى به الأمر مع ابن سينا إلى الانخراط في إشكاليات المتكلمين من جهة،و تبني منتجات العقل المستقيل ،منتجات العرفان الهرمسي من جهة ثانية،مما أفقد الرؤية البرهانية طابعها العقلاني العلمي«لقد عاد الأمر بالبرهان في الثقافة العربية الإسلامية مع ابن سينا إلى ما كان عليه قبل الإسلام ،ولكن بعد أن ترك فيها آلته و أشلاء من جهازه المفاهيمي و تصوراته العلمية،لقد تداخل البرهان مع الخليط الهرمسي المقوم للعرفانيات الإسلامية،مع المورث البياني الذي توقف عن النمو بعد أن استنفذ كل إمكانياته، تداخلت هذه النظم المعرفية بعد أن انحلت فاختلطت المفاهيم و اشتبكت المسائل و تصادمت الرؤى والاستشراقات داخل الثقافة العربية».
وسواء تعلق الأمر بالبيان أو العرفان أو البرهان، كحقول معرفية، فإن العقل العربي كان خلال المرحلة الممتدة من بدايات عصر التدوين إلى لحظة الغزالي عقلا فاعلا: كان يشيد مناهج يستنبتها كما في البيان أو يعمل على تبيئتها كما في العرفان والبرهان، وكان يشيد رؤى، يبنيها لبنة لبنة بأدواته وجهده واجتهاده (الرؤية البيانية) أو يعمل على نقلها ككل آو كأجزاء إلى فضائه الفكري العام، فضاء الثقافة العربية الإسلامية (الرؤية العرفانية و الرؤية البرهانية).
أما مع لحظة الغزالي التي ابتدأ معها ما اسماه الجابري ب”التداخل التلفيقي” بين النظم المعرفية ومفاهيمها، فإن وضع العقل العربي يختلف تماما: لقد توقفت عملتا البناء والتبيئة، بل إن البناءات الثلاثة قد تفككت إلى قطع. وهكذا انصرف كل المجهود الفكري إلى عرض المعاني التي أعطيت لهذا المفهوم /الكلمة أو ذاك. لم يعد المفهوم نظرية تكشف علاقات و تحيل إلى عالم من المعرفة قائم،بل أصبح مجرد كلمة أو لفظ يتحدد ب”قال فلان”و”قال المتكلمون” و “قال الحكماء”و “عند المتصوفة” و “قال أصحابنا”.
«و ذلك في الحقيقة هو ما آل إليه العقل العربي مع المتأخرين، سواء في ميدان البيان أو العرفان أو البرهان. لقد صارت كل فاعليته أن يحفظ و يتذكر لا أن يفكر و يستدل،و أصبح الثابت البنيوي في حكمه عن الأشياء تلك العبارة الشهيرة :”المسالة فيها قولان” بل “أقوال…».
وقد فسر الجابري هذه المصالحة بمسألتين :
-أولاهما تتعلق بكون العقل العربي لم يكن يقبل بطبيعته التجربة،و اكتفى بالنصوص يستنبط منها القواعد و الأحكام .و توقفت العلوم العربية ،لأن البحث فيها كان بهدف خدمة الدين،و لم يكن درسا للطبيعة و اكتشاف قوانينها .فوفقا للنصوص كانت الطبيعة معطى إلهيا مسيرة بفعل خالقها ،لا دخل للإنسان في صيرورتها ،و لا ضرورة لمعرفة قوانينها.
أما العلم ،فقد بقي على هامش المنظومات الفكرية و الإيديولوجية المتصارعة،بالتالي فلم تتح له الفرصة في تكوين العقل العربي.”لقد ظل العلم العربي،علم الخوارزمي و البيروني و ابن الهيثم و ابن النفيس و غيرهم،خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية فلم يشارك في تغذية العقل العربي،ولا في تجديد قوالبه و فحص قبلياته و مسبقاته .فبقي الزمن الثقافي العربي هو هو ممتدا على بساط واحد من عصر التدوين إلى عصر ابن خلدون ،و ركد هذا الزمن و تخشبت موجاته منذ عصر ابن خلدون إلى النهضة العربية الحديثة التي لم تتحقق بعد”.إذن ،فاللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها العلم ،و إنما كانت تحددها السياسة.
-ثانيهما تتعلق بتوجيه السياسة للفكر العربي الإسلامي و تحديد مساره و منعرجاته.و يهمنا هنا أن نقتبس ما يلقي أضواء كاشفة على جوانب هذه المسألة.يقول الجابري بهذا الصدد:”إن تنصيب العقل الكوني في الثقافة العربية الإسلامية ،قد جاء ضمن صراع إيديولوجي سياسي بين المأمون الخليفة العباسي و خصوم دولته الشيعة الباطنية.لقد استعمل الموروث القديم في هذا الصراع كسلاح:فبينما لجأت الشيعة إلى الغنوص لتأكيد استمرارية الوحي في أئمتهم ،و بالتالي تأكيد أحقيتهم في الإمامة و قيادة المسلمين دينيا و سياسيا.استنجد المأمون بالعقل الكوني اليوناني ليعزز به جانب المعقول الديني العربي كما قرره العقل المعتزلي و كرسه الواقع السياسي”.
و هكذا انتهى كل شيء في مرحلة التدوين و انغلقت الدائرة ،و أصبحت الحركة فيها تكرس التكرار،فصار الزمن فيها زمنا مكررا معادا،زمنا ميتا.
ليخلص الجابري في كتابه إلى استقالة العقل العربي ، حين بدأ الأوروبيون يتقدمون.”إن المسلمين بدأوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته،حينما أخذوا يلتمسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة،في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدا العقل عندهم يستيقظ و يساءل نفسه”.
فأصبح العقل العربي عقلا نصوصيا ،لا هو مرتبط بالواقع و قضاياه،و لا هو مرتبط بالطبيعة و التاريخ.
فالعقل العربي قد تكون من خلال النص في التفسير و اللغة و الكلام…«إن العقل العربي عقل يتعامل مع الألفاظ أكثر مما يتعامل مع المفاهيم ،و لا يفكر إلا انطلاقا من أصل أو انتهاء إليه أو بتوجيه منه ،الأصل الذي يحمل معه سلطة السلف إما في لفظه أو في معناه،و أن آلية هذا العقل في تحصيل المعرفة –و ليس في إنتاجها- هي المقاربة (أو القياس البياني) و المماثلة (أو القياس العرفاني) و أنه في كل ذلك يعتمد التجويز كمبدأ ،كقانون عام يؤسس منهجية في التفكير و رؤية للعالم».
وعليه ، فإذا كان الفقيه أو النحوي أو المتكلم أو الناقد البلاغي أو العارف أو غير هؤلاء ممن تكون عقلهم داخل الثقافة العربية وحقولها المعرفية يخضعون في تفكيرهم لسلطة اللفظ وسلطة الأصل (سلطة السلف و سلطة القياس) وسلطة التجويز، فكيف السبيل إلى تحرير العقل العربي من سلطات المرجعية التراثية تلك؟
إن تغيير بنية العقل العربي و تأسيس أخرى لا يتم إلا بالممارسة،ممارسة العقلانية في شؤون الفكر و الحياة ،و في مقدمة ذلك كله ممارسة العقلانية النقدية على التراث الذي يحتفظ بتلك السلطات على شكل بنية لا شعورية.
و إذن ،لا سبيل إلى التجديد و التحديث –في العقل العربي –إلا من داخل التراث نفسه و بوسائله الخاصة و إمكانياته الذاتية أولا،أما وسائل عصرنا المنهجية و المعرفية فيجب أن نستعين بها فعلا و لكن لا بفرضها على الموضوع و تطويع هذا الأخير في قوالبها بل بالعمل على تطويع قوالبها بالصورة التي تجعلها قادرة على أن تمارس قدرتها الإجرائية،أي وظيفتها كأدوات علمية.
و لكن، كيف نمارس التجديد والتحديث من داخل التراث نفسه؟
هنا يدعو الجابري إلى توظيف النزعة العقلانية النقدية للاتجاه التجديدي الذي عرفته الأندلس والمغرب منذ أوائل القرن الخامس الهجري مع ابن حزم وابن باجة وابن رشد والشاطبي وابن خلدون، الذي وظف جملة من المبادئ والمفاهيم والإجراءات المعرفية التي كانت تؤسس التفكير العلمي البرهاني في ذلك العصر ولا زالت تؤسسه إلى اليوم. يتعلق الأمر باعتماد الاستنتاج والاستقراء بدل قياس الغائب على الشاهد، واعتماد المقاصد بدل دلالات الألفاظ، والقول بالسببية واطراد الحوادث بدل القول بالتجويز والعادة، كمنطلق يربطنا بقضايا تراثنا لا من أجل تمجيدها أو الاغتراب فيها أو رفضها، بل من اجل نقلها إلى حاضرنا والتعامل معها على أساس متطلبات الحاضر و حاجة المستقبل بالاستناد إلى فكر العصر ومنطلقاته.
«إن ما ننشده اليوم من تحديث للعقل العربي وتجديد للفكر الإسلامي يتوقف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة، مكتسبات القرن العشرين وما قبله وما بعده، بل أيضا و لربما بالدرجة الأولى يتوقف على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون، هذه النزوعات العقلية التي لابد منها إذا أردنا أن نعيد ترتيب علاقتنا بتراثنا بصورة تمكننا من الانتظام فيه انتظاما يفتح المجال للإبداع، إبداع العقل العربي داخل الثقافة التي يتكون فيها». يقول الجابري في كتابه “بنية العقل العربي”، قبل أن يتابع: «إنه بدون التعامل النقدي العقلاني مع تراثنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاعات فكرنا المعاصر، القطاع الذي ينعت بالأصولي حينا وبالسلفي حينا آخر، كما أنه بدون هذه الممارسة العقلانية على معطيات تراثنا لن يكون في إمكاننا قط تأصيل العطاءات الفكرية التي يقدمها، أو بالإمكان أن يقدمها قطاع آخر من فكرنا العربي المعاصر، القطاع الذي يدعو إلى الحداثة والتجديد. إنه باستعادة العقلانية النقدية التي دشنت خطابا نقديا جديدا في الأندلس والمغرب مع ابن حزم و ابن رشد والشاطبي وابن خلدون، وبها وحدها، يمكن إعادة بنينة العقل العربي من داخل الثقافة التي ينتمي إليها، مما يسمح بتوفير الشروط الضرورية لتدشين عصر جديد في هذه الثقافة».
إن الإضافة الحقيقية التي قدمها الجابري في نقد العقل، تكمن في تحليل الطريقة التي تشكل وتكون بها العقل العربي. لهذا يعتبر أنه ما لم ندخل في عصر تدوين جديد «إن الحاجة تدعو اليوم إلى تدشين عصر تدوين جديد، تكون نقطة البداية فيه نقد العقل العربي»، وما لم نصنع عقلا سائدا جديدا، وبالتالي ما لم يغير العقل العربي الإسلامي من طرائق تفكيره وآلياته ومفاهيمه ومناهجه وتصوراته ورؤاه، فلن نستطيع – بأي حال من الأحوال- أن نتحدث عن فعل نهضوي.