الملاحظة الأولى التي تفرض القمة العربية بجدة الانتباه إليها هي كونها «أغلقت» قوس قمة الجزائر التي سبقتها، وأخرست عسكر الجزائر عن كل حديث عن دور متوهم لهم أو عن قدرتهم المتخيلة على «لم الشمل العربي»، ولم يظهر أي دور للبلد الذي يفترض أنه يترأس الدورة، ولم تكن له أي مساهمة في أي ترتيب، ولو في المستويات الشكلية أو البروتوكولية، وحتى الوفد لم يترأسه رئيس الدولة وإنما الوزير الأول، وبذلك تعرض النظام العسكري في البلد الجار لخيبة جديدة، وسقطت كامل مناوراته على هذا الصعيد.
وفي المقابل، نجحت الديبلوماسية السعودية في تحقيق أهدافها من القمة التي استضافتها، وخصوصا اعتبار استعادة سوريا لمقعدها بجامعة الدول العربية نتاج جهد سعودي، وذلك بعد الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، كما جعلت السعودية من دعوة الرئيس الأوكراني لإلقاء كلمة أمام القادة العرب أسلوبا لتعزيز علاقاتها التقليدية مع واشنطن والغرب، إلى جانب تعاونها مع الصين وإيران، وأيضا تنسيقها مع روسيا، وانخرطت كذلك في مساعي لتهدئة الأوضاع في السودان، وإقناع طرفي الصراع لتوقيع اتفاقيات هدنة، ومن ثم استثمرت احتضان القمة العربية للإعلان عن تطلعها للعب أدوار إقليمية ودولية، وبذلك جعلت الكل ينسى البلد العربي الآخر الذي كان استضاف القمة العربية السالفة، ولم تدم رئاسته لها سوى نصف العام.
من المؤكد أن قمة جدة لم تخلو، على غرار سابقاتها ومختلف محافل العرب، من متون حسن النوايا والكلمات الإنشائية، ولكن سياقات انعقادها والتحديات التي يواجهها العالم كله، فرضت بعض مؤشرات التحول، ومن ذلك انتقال الحديث إلى معجم التنمية ولغة المصالح ومركزية القضايا الاقتصادية، وأيضا اقتران عودة سوريا بالتزامات مدققة تعني مصالح دول عربية، وتعني كامل منظومة العمل العربي المشترك.
وهنا لا بد أن نشير إلى الحضور الفاعل للمغرب ضمن كل تفاصيل القمة العربية، وتجلى ذلك في اللقاءات الثنائية المكثفة لوزير الخارجية المغربي على هامش مشاركته في القمة، وأيضا مساهمته في اجتماعات تنسيقية لمتابعة تطور بعض القضايا العربية المشتركة أو لدراسة تطور الأزمة مع إيران والالتزامات ذات الصلة، ثم كذلك في عديد نقاط بالبيان الصادر عن القمة…
القمة العربية، في هذا السياق، أشادت بدور جلالة الملك باعتباره رئيسا للجنة القدس، ونوهت بأدوار المملكة في إفريقيا، وخصوصا على مستوى الإشعاع الديني وتكوين الأئمة، كما استحضرت جهود المغرب في عدد من النزاعات والأزمات العربية والقارية.
وعلى مستوى آخر شددت القمة العربية على احترام سيادة الدول ووحدتها، وعلى رفض تشكيل ميليشيات مسلحة أو دعمها أو توجيهها لزعزعة استقرار الدول أو المس بوحدتها وسيادتها…
وفي كل هذه النقاط يبرز المغرب، ويتأكد نجاحه في تحقيق أهدافه الديبلوماسية والسياسية من قمة جدة، كما يتأكد استقرار علاقاته التاريخية العريقة مع معظم الدول العربية، وخصوصا المملكة العربية السعودية وبلدان مجلس التعاون الخليجي، وتبرز مكانته الإقليمية كفاعل رئيسي ذي مصداقية وتأثير.
القيادة السعودية نجحت، من خلال قمة جدة، في بداية نزع فتيل عدد من التوترات، ورسم معالم استهلال المصالحات، في السودان ولبنان واليمن، كما جرت النظام السوري لتكون عودته بمثابة إقامة دليل، واتفقت مع النظام الإيراني لكي يتغير ويخرج من منغلقات الزمن الماضي، وأخذت عليهما معا التزامات باحترام وحدة وسيادة واستقرار وأمن باقي الدول العربية، وبغض النظر عن ضعف متانة الالتزامات وغياب الضمانات القوية، فإن هذه الدينامية، ولو أنها أولية، تبعث على التفاؤل وسط الشعوب والمجتمعات التي تعاني من مآسي منذ سنوات.
وحده النظام العسكري الجزائري بقي إذن خارج كل هذه الدينامية، وحكم على نفسه بمزيد من العزلة، حتى ضمن المحيط العربي.
المملكة المغربية مستمرة، كما كانت دائما، في التزاماتها المعروفة باحترام وحدة وسيادة كل الدول، وحتى المواقف المعبر عنها، من قبل، تجاه سوريا وإيران، كانت احتجاجا ورفضا لاستهداف وحدتها الترابية ومصالحها الوطنية والأمنية والإستراتيجية، ومتى تغيرت الأسباب ينتفي الاحتجاج بشكل بدهي.
وحده النظام العسكري الجزائري يصر اليوم على فضح نفسه، ويواصل حصد الخيبات والهزائم، وذلك بسبب شروده وجنونه وعدائه المرضي الفاضح للمغرب ووحدته الترابية وسيادته الوطنية.
<محتات الرقاص