مساء الجمعة الماضي، منحت اللجنة التنظيمية للجائزة الوطنية للصحافة جائزتها التقديرية للصحفي والكاتب السياسي جمال براوي، إلى جانب الإعلامية الرياضية الرائدة الزميلة قائمة بلعوشي، وكانت الكلمات الوجيزة التي ألقاها براوي أمام جمهور الصحفيين هذه الليلة بليغة وعميقة، ونادى في الحاضرين أن الصحافة ليست مهنة المتاعب، وإنما هي رسالة تتطلب الصدق والمسؤولية تجاه المجتمع، واحترام أخلاقيات المهنة.
من جهة ثانية، لقد تعززت المكتبة الوطنية هذه الأيام أيضا بصدور كتاب ضم مقالات للصحفي الراحل ندير يعته، سهرت على إعداده نجلته سوسن، ومثل ذلك مناسبة للعديدين لاستحضار قيمة هذا المهني الكبير والكاتب السياسي المتألق.
وفي ذات الفترة الزمنية كذلك، رحل عن دنيانا كل من حسن عمر العلوي (فريموس) وأحمد صبري…
عند تمعن سير هؤلاء، وآخرون أيضا من جيلهم وقيمتهم أو من الأجيال التي سبقتهم، في صحافتنا الوطنية، نخلص إلى اشتراكهم في خصلة (الالتزام)، وفي امتلاكهم لرؤى وتصورات سياسية وثقافية ومهنية واضحة ومعلنة، فضلا عن الخلفيات السياسية لأغلبهم، وانشغالهم كلهم بقضايا وطنهم وشعبهم في مختلف تجلياتها.
وهذا يطرح أمامنا أهمية الالتزام ووضوح النظر وامتلاك الخلفية الوطنية والسياسية بالنسبة للصحفي، وليس الأمر هنا اصطفافا سياسويا ضيقا، كما أنه لا يحفز على أي نكوصية مهنية أو عودة بالكلام إلى كلاسيكياته الأولى، ولكن هو انخراط في عمق النقاش المهني المطلوب.
لقد عرضنا أعلاه نماذج فقط من وحي أحداث هذه الأيام أو على إثر رحيل أليم لبعض الكبار، وعلاوة على ذلك، هناك أسماء أخرى من هذا الحجم يمكننا استحضارها في هذا السياق، كما أن هناك أسماء مهنية موجودة اليوم في صحافتنا الوطنية، من ضمن المهنيين المجدين وكتاب الأعمدة، وعلى الرغم من قلتها، فإن تميزها المهني يعود الفضل فيه للخلفيات والتجارب السياسية لهم، وقد جعلوها خطوطا تحريرية ومحددات التزام.
الخلفية السياسية، وأيضا التكوين الأكاديمي، والإقبال المستمر على القراءة والتعلم، هو ما يمنح للصحفي وضوح النظر، ويساعده على امتلاك قدرة الإدراك والفهم والتقدير للوقائع والمواقف والسياقات والشخوص والأحداث، وهذا ما تقتضيه، بالذات، مهنتنا اليوم بصراحة، ويطرح السؤال على الجميع، أي على المنشآت الصحفية وهيئات المهنة ومؤسسات التكوين.
في الوقت الذي تطرح على بلادنا اليوم العديد من التحديات الوطنية والتنموية والإستراتيجية الكبرى، فإننا نجد، في المقابل، من يشجع السطحية والهراء في حقلنا الإعلامي، ومن يعمل، صباح مساء، على تدني منتوجنا الصحفي الوطني، وعلى إضعاف جودة الكتابة الصحفية عندنا، وعلى قتل المهنة وإضعافها، وعلى تجريد بلادنا من صحافتها الوطنية المهنية ذات المصداقية والجدية ووضوح النظر.
بعض مسؤولينا يحيون هذه الأيام منبهرين، مثل أطفال صغار، بمن يعتبرون “مؤثرين” أو”مؤثرات”، ويغدقون عليهم من كل الجيوب، وذلك لإشعاع الهراء والبلادة والتفاهة وسط الناس.
وحتى مونديال كرة القدم في الدوحة لم يسلم من نشر هذه الفضائح، وتكريس الهراء، ونقل الكثيرون ما يقترفه البعض، المحسوب قسرا على قبيلتنا، من سقطات في المؤتمرات الصحفية وفي مختلف زوايا ملاعب قطر، ومن خلال ما ينشرونه على مدار الساعة، ويشير الكثيرون إلى الجهات التي تشجع مثل هذه الكائنات، وتتيح لهم فرص تعميم الخواء حوالينا.
هذا التدني صرنا نتابعه في المناسبات الرياضية، وفي الاقتصاد، وفي متابعة قضايا المجتمع، بل وفي الكتابة الصحفية السياسية أيضا…، ويعتبر هذا خطرا على مهنتنا، وعلى الوعي المواطن لشعبنا، ويجعل التفاهة تلف أعناقنا، وتكبل مجتمعنا.
بلادنا وقضاياها الكبرى وتطلعاتها الأساسية تفرض وجود صحافة وطنية قوية وذات مصداقية، وإعلان تلفزيوني والكتروني مهني وذكي وفاعل ومنتج، وهو ما يفرض على كل الجهات الوعي بذلك، والعمل الجماعي من أجل بلوغه.
ليس الأمر مجرد حديث تقني أو تفاصيل تنظيمية أو شكلية، ولا يتعلق فقط بالقوانين والآليات، ولكن الأمر أكبر وأعمق من كل ذلك، ويعني طرح الأشياء في عمقها وأبعادها الجوهرية.
المغرب في حاجة إلى صحافة وطنية جادة وواعية ومدركة لمسؤولياتها الوطنية والمجتمعية والمهنية، هذا هو التحدي، وهذه هي مهمة المرحلة، ولذلك يعتبر الأمر مسؤولية جماعية، ويتطلب مخططا استراتيجيا وطنيا تقوده الدولة مع الهيئات المهنية الحقيقية بلا لعب صغير أو حسابات أنانية، ويسعى لكي تساهم الصحافة في خدمة المجتمع، ولكي تنشغل بقضايا البلاد الكبرى، ولكي تبقى المهنة دائما تنجب أمثال ندير يعته وجمال براوي وآخرين من حجمهم، منهم من قضى نحبه ومنهم من يستمر إلى اليوم ممسكا بالتزامه ورؤاه وصدقه.
لم يعد مسموحا إضاعة الوقت في مزيد هراء، وآن أوان العمل واستخراج دروس الأخطاء السابقة والمتواصلة…
شكرا لمنظمي جائزة الصحافة على إتاحة فرصة الكلام حول هذا الموضوع، على إثر منح الجائزة التقديرية للزميل جمال براوي، والذي نأمل له عاجل الشفاء وموفور الصحة وطول العمر.
محتات الرقاص