من يصنع الإرهاب ويرعاه ويستثمره

ضمن مساعي الدبلوماسية الأميركية لترميم صورة الولايات المتحدة التي تهشمت في العالم، بعد فضيحة جرائم التعذيب بسجون أبو غريب الأميركية في بغداد عام 2004، زار البحرين السيناتور الأميركي السابق جيمس زغبي، ليقنع الإعلاميين والمثقفين بأن ما جرى في أبو غريب يعد سلوك أفراد في القوات الأميركية، لا يمثل الشعب الأميركي وأخلاقياته “الرفيعة”، ولا يمثل قواعد السلوك الإنساني التي تلتزم بها قوات بلاده!
حينها سألت السيناتور: كيف تنسبون كل تلك الفظائع والجرائم الأميركية، التي يندى لها جبين التاريخ والإنسانية، إلى سلوك أفراد أميركيين لا يمثلون شعبهم ولا نظام بلادهم، بينما بعد نصف ساعة من أحداث 9 سبتمبر 2001 (أي حتى قبل بدء التحقيقات) نسبتم الإرهاب في العالم إلى كل العرب، وجعلتم الإرهاب عربيا.. هل تتوقعون من العرب أن لا يبادلوكم التعامل بالمثل في الجرائم الأميركية في أبو غريب وغيرها؟.. وكان جوابه هوليووديا، أتفه من أن يُسرد في هذا المقال.
واليوم، بعد أن وصل المآل العربي إلى ما هو الحال عليه، وما هو متوقع من مستقبل غامض مرسوم للمنطقة، لربما نحن بحاجة للتذكير بأن قرار إعدام العراق والحرب والغزو والاحتلال، وسحق شعبه، بكل تفاصيل الحصار اللاإنساني، والاغتيالات والاعتقالات والاغتصابات والتعذيب والتدمير والإرهاب، كان معدّا له مسبقا، وتم تنفيذه مع سبق الإصرار والتعمد، أي أن كل ذرائع الحرب على العراق واحتلاله كانت واهية وكاذبة لحد الفجور.
وإلغاء العراق كان من أهم متطلبات الإخلال بميزان القوى في المنطقة العربية لصالح قوى إقليمية غير عربية ونشر الإرهاب والفوضى والدخول فيما يدعى بحروب الجيل الرابع (ضد الإرهاب) لرسم خريطة “الشرق الأوسط الجديد”.
وبات مؤكدا أنه لولا الإرهاب لما كانت الفوضى “الخلاقة”… ودون هذه الفوضى لن يبزغ نور “الشرق الأوسط الجديد” الذي بشّرت به الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ لحظة اجتياح قواتها العراق.. ودون شرق أوسط جديد وضعيف وممزق لن يتمكن أصحاب المصلحة في الغرب من السيطرة على هذه المنطقة الأكثر حيوية في العالم.. وهذا هو التسلسل المنطقي لأسباب صناعة الإرهاب ورعايته والمصالح المتحققة منه.
إذن، هناك من له مصلحة في هذه الحروب التي تمزق أوطاننا، بسلاح الإرهاب والإعلام والفوضى لتبقى حروبا “بالوكالة” لصالح أصحاب المشروع الشرق أوسطي في صراع دولي جديد تضخمت معالمه الصاخبة والدموية، منذ لحظة إسقاط البرجين في نيويورك، والدخول في عصر “الحرب على الإرهاب”، بقواعد ومبادئ “الحرب الباردة”.
ومن هذا المنطلق يجب أن نتساءل لمصلحة مَن كانت أحداث 11-9 المشؤومة؟ وبالتالي فإن صاحب المصلحة هو أكثر المهتمين برعاية منفذي تلك الأحداث وضبط إيقاعها واستثمارها. وإن كان هناك شيء من الضبابية أمام عيون العرب في الإجابة على هذا التساؤل قبل عام 2011، فمن المؤكد أن كل الضباب والغبار قد انقشع بعد ذلك التاريخ، وباتت الإجابات المؤكدة واضحة بكل أدلّتها المادية.
المهم في هذا السياق هو أن بلداننا العربية، شعوبا وأنظمة، باتت تعيش منذ ذلك اليوم تحت تهديد وابتزاز الإرهاب الدولي. وتَعَزز هذا التهديد بعد احتلال العراق وتدميره، وإسقاطه من موازين القوى الإقليمية في مسار يعكس حرباً واقعية على الدول العربية بثرواتها وجغرافيتها وبحارها وممراتها المائية وتاريخها ومستقبلها، وليس حربا على الإرهاب.
ولنتعرّف على بعض من هذا التهديد والابتزاز الإرهابي ضد دول الخليج سألجأ لشرح المشهد التالي: بعد أشهر قليلة من سقوط بغداد (2003)، عرضَت الفضائيات العربية، قبل الأجنبية، تقارير إخبارية مصورة من إعداد إعلام الاحتلال حول المتطوعين العرب الذين كانوا في العراق منذ ما قبل الغزو للقتال مع الشعب العراقي ضد أيّ عدوان خارجي. وأتقن ذلك الإعلام دوره في إظهار أولئك المقاومين العرب ضد الاحتلال على أنهم إرهابيون عرب وأن أغلبهم سعوديون. كان ذلك المشهد كافيا لبث الرعب في إرادة الأنظمة الخليجية لمنع أي إمداد بشري أو مادي للمقاومة العراقية، خوفا من بطش تشريعات “الحرب على الإرهاب” المعدة سلفً لهذه المواجهة. وكان هذا التلويح بتهمة الإرهاب أول ابتزاز ضد دول الخليج بعد أحداث 11-9. ونجح في مخطط فصل العراق عن عمقه العربي، وفي تجفيف منابع المقاومة المشروعة ضد الاحتلال (وليس تجفيف منابع الإرهاب).
والقصة لم تنته هنا.. بل لها شق آخر.. فبعد نجاح إعلام “الحرب على الإرهاب” في إرهاب العرب لمنعهم من التدخل لحماية العراق والعراقيين ضد الاحتلال وسياساته المدمرة. عرضت ذات الفضائيات مشهدا مصوّرا لدخول أكثر من 10 آلاف فرد من ميليشيات بدر الإيرانية (قوات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية)، بكامل عتادها، إلى البصرة، عبر حدود البلدين، مع حماية من القوات الأميركية على الأرض والطائرات البريطانية في السماء.. واللافت أن التقرير الإعلامي (العربي) تعمّد أن يظهر أفواج تلك الميليشيا كأبطال عراقيين عائدين إلى بلادهم من المنفى.
تموصف المشهد بأنه يوم تاريخي يمثل الديمقراطية الجديدة في العراق. وأن ذلك الحدث (العظيم) يمثل نقطة تحوّل في تاريخ إطلاق الحريات في البلاد، بينما واقعيا كان يمثل لحظة إطلاق مارد الإرهاب والحرب الأهلية الطائفية، المستمرة في العراق حتى يومنا هذا.
هذان المشهدان الإعلاميان يمثلان نقطة في بحر الإعلام والإرهاب المكرّس لابتزاز العرب. ومن هناك، بدأ الانسحاب العربي من العراق، وتقديمه إلى إيران على طبق أميركي من ذهب.
وبعد أكثر من 13 عاما من عمر الغزو والاحتلال، ظهر تقرير تشيلكوت البريطاني (8 يوليو 2016) ليؤكد أن القرار الأميركي بإعدام العراق ونشر الإرهاب تمّ بسبق الإصرار والتعمد، بدءا بإدانة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، طوني بلير، بتهمة المشاركة في تلك الحرب دون أساس قانوني، وبناء على معلومات ملفّقة وكاذبة.
وما يهمنا في هذا السياق هو ما أكّد عليه التقرير فيما يخص صناعة الإرهاب في العراق بعد الاحتلال، والأخلاقيات المنحطة للقوات الأميركية ضد شعوب العالم.. هذه القوات التي تدرّبت على سحق الإنسان والإنسانية، أمام المصلحة الأميركية لتبقى السلطة العليا في السياسات الدولية.
يؤكد التقرير البريطاني أن الولايات المتحدة استخدمت “فرق موت سرية، مسخّرة لاستهداف أطراف متعددة في العراق بشكل سري، وإلقاء اللوم بذلك على أطراف أخرى، ضمن محاولات تصبّ نحو المصالح الأميركية، وعلى غرار ما استخدم في الحرب الأميركية اللاتينية سابقا…”، وإن المسؤول الأميركي عن قوات مكافحة التمرد، ستانلي مكريستال، هو الذي كان يقود برنامج الاغتيالات السري الذي “تميّز بالعنف المفرط”. وأقامت هذه الفرق أنظمة مراقبة لتتبع أفراد معينين كأهداف “موضوعة مسبقا” (المصدر: قناة الحرة/حدث “فرق الموت السرية قامت بتصفية وقتل شخصيات عراقية بأوامر أميركية).
ويذكر التقرير أن الحكومة الأميركية أنشأت “مكتب الخطط الخاصة” بواسطة بول وولفويتز، ودوغلاس فيث ليكون “حكومة ظل قوية” بهدف التسلط على الأوضاع في العراق بالعنف المفرط، و”تدمير المؤسسات الحكومية العراقية بأكملها”، تحت إشراف الحاكم الأميركي بول بريمر، والذي قام بدوره “بتنفيذ أجندة هذا المكتب المشبوه بكل تأثيراته السلبية على الوضع العراقي المستمر إلى الآن”. وكان أبرز قرارات هذا المكتب قرار حل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية، وترك العراق “عرضة للصراعات الداخلية والتمرد، ثم الحرب الأهلية”.
ويذكر التقرير أيضا أن قرارات وعمليات ذلك المكتب قادت إلى توسعة أطر وحدود عمله، من خلال “عصابات” وفرق “مضادة للعصابات” تم تشكيلها من أفراد من القوات الخاصة الأميركية والبريطانية، تحت قيادة جون نونغيربوت، وبديلهُ في ذلك الوقت روبرت فورد. ومازالت الآثار السلبية لتلك السياسات تعصف بالعراق وسوريا حتى الآن، وعملت على ظهور المنظمات الإرهابية المتطرفة، وشبه العسكرية، التي دفعت بالبلاد إلى حافة الانهيار التام.
ويذكر التقرير تفسيرا للبروفيسور مايكل تشودوفوسكي، حول هذا النمط من التدخل الأميركي في الشؤون الداخلية للدول، سواء كان علنيا أم مبطنا، فيذكر أن “تجنيد فرق الموت الخاصة والعصابات، بغية تنفيذ عمليات اغتيالات منظمة وإثارة التوترات بين أطراف متعددة، كان دائما جزءا من سياسة الاستخبارات العسكرية الأميركية في أيّ منطقة نزاع تتدخل فيها، والتاريخ يثبت تمويل ودعم وتوجيه العديد من الألوية الإرهابية التي يمكن تتبعها إلى حدود حقبة حرب فيتنام”، مضيفا أن هذه السياسات لا تقوم المكاتب الخاصة الأميركية بتطبيقها في الخارج فقط، بل “تستخدمها حتى داخل الأراضي الأميركية ذاتها، وضد مواطنيها، مثل عملية ‘غلاديو’، وهجمات ‘العلم الموهم’ التي يجيز الدستور الأميركي القيام بها، وتتضمن افتعال عمل عدائي ضد أهداف ومواطنين أميركيين من قبل الإدارة إذا كان في ذلك مصلحة عامة عليا للبلاد”.
ولتجنب الادعاء بأن هذه الجرائم الإرهابية الأميركية البشعة في العراق كانت عمليات ضد الإرهاب نُذكّر بالتالي:
أولا: لم يكن هناك ما يُدعى بالإرهاب في العراق حتى عام 2006 (أي قبل انتشار الميليشيات المذهبية مع دخول العامل الإيراني في الاحتلال)؛ فكانت القوات الأميركية تسجن وتعذّب وتقتل كل عراقي يعترض على الاحتلال أو يقاومه.
ثانيا: السجون الأميركية البشعة وجرائم التعذيب والاغتيالات الفردية والجماعية، التي صنعت الإرهاب، لازالت مستمرة في العراق حتى ساعة كتابة هذا المقال، بل أضيفت إليها سجون تديرها الميليشيات المذهبية، مع تعتيم إعلامي يشبه الستار الحديدي.
ثالثا: بحسب موقع قناة الجزيرة “قام أربعة مساجين ممن تعرضوا للتعذيب في سجن أبو غريب برفع شكوى في الولايات المتحدة، بمساعدة منظمة حقوق الإنسان (CACI)، التي قامت بتحقيق موسع، ولكن القاضي الأميركي، جيرالد بروس لي، رفض القضية لأنها حدثت خارج الحدود الأميركية”.
وفي مجال التأكيد على أن الهدف الأخير من صناعة الإرهاب والفوضى والموت في منطقتنا هو السيطرة على منابع النفط العربي عموما، وليس العراقي فقط، نستذكر تقرير لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب البريطاني (14-9-2016)، الذي أكّدَ على أن “كاميرون ضخّم الأوضاع في ليبيا وانحرف نحو إسقاط القذافي”، وأنه سارع إلى العمل العسكري في ظل وجود “معلومات استخبارية غير دقيقة”، إلى جانب تضخيم القلق حول المدنيين والتصرف بناء على “افتراضات” سمحت لاحقا بتدهور الأوضاع وظهور “تنظيم داعش“.
ألا تشكل تلك التقارير، التي جاءت بناء على التحقيق المتواصل، اعترافات مادية، بأنها “شهادة شهود من أهلها”.
بعد كل هذا، وبعد مرور خمسة عشر عاما على أحداث سبتمبر 2001، أليس من حق العرب أن يصرخوا متسائلين لماذا أحيطت التحقيقات حول أحداث 11 سبتمبر بالكتمان والسرية؟ ولماذا لم يشارك فيها، أو يطّلع عليها، أيّ طرف غير أميركي؟ بل لماذا بقيت تلك التحقيقات محصورة بيد الاستخبارات المركزية الأميركية وعدد من المحافظين الجدد فقط؟ ولماذا ما نُشر حتى الآن حول تلك الجريمة المرعبة لا يتعدى عددا من التقارير التي يغلب عليها الطابع الإعلامي دون أدلة مادية تحاكي العقل؟ ولماذا كل أفراد داعش ملثمون لا نرى سماتهم الكاشفة لهوياتهم، كما تم كشف وجوه بن لادن ورفاقه؟ ولماذا هذا الداعش يعيش في العالم الافتراضي، ونتابعه فقط في كواليس الإعلام الرقمي وتكنولوجيا التواصل الجديدة، ولا يقترب منه محقّق أو إعلامي محايد؟ ولماذا؟ ولماذا؟
واليوم، مع ما تواجهه منطقتنا من تهديد جديد بتهمة الإرهاب، وبعد انكشاف الكثير من الحقائق، ألم يحن الوقت لنفي تهمة الإرهاب عن أنفسنا؟ وليصرخ العرب معلنين أننا لسنا إرهابيين ولسنا نحن أصحاب المصلحة في صناعة ورعاية الإرهاب، وعلى العالم أن يحاسب رعاة الإرهاب وصانعي الموت الحقيقيين. ولا تنقصنا الشواهد والإثباتات المادية التي تدعم حقنا العربي في هذه المواجهة بكل قوة وإصرار. ألم يحن الوقت لنستيقظ ونحن أحياء قبل أن نُذبح و”نستيقظ ميتين”.

بقلم: سميرة رجب

Related posts

Top