انحسرت الحداثة عن ما بعدها، فتفسخت مقولاتها وتصدعت إنشاءاتها التي تَفنّن العقلُ الحداثيّ الغربيّ في ابتنائها، وترسيخها بداهاتٍ ومسلمات حاسمة. التاريخ، التقدّم، النزعات الإنسانية، الذات العاقلة: كلّها ثيماتٌ آلت إلى التقويض والهدم والاندكاك، فالتفكيك والتحلّل والتطويح بها بعد أن نصّبتها النزوعات الحداثيّة ثوابتَ ويقينيّات، فولجت فضاءاتِ قولٍ مغاير ومختلف. كما أنّ ما لفّه الكتمان، مقصيًّا ومسكوتًا عنه، منحجبًا، مرميًّا خارج دائرة العقل الحداثيّ المكسوّة بالتناغم والانتظام، ما لبث أن طفا واعتلن مقتحمًا في اختلافه ومخالفته للتسيّد الحداثيّ، ساحاتِ الفكر الغربيّ المصطخب مؤذنًا بعهد جديد. مساءلة البديهيّات واستجوابها، العبور الصاعق إلى اللايقين والشكوكيّة، التخلّع المفاهيميّ، الخواء، خسف الأرض التي كانت صلبة للتوّ بالمدلولات والمعاني والكلمات ورميها إلى الرمال المتحرّكة، انفلات النصّ إلى رحاب التلأويلات الفسيحة، استعصاء اللغة، خلخلة الوضعيّة الكينونيّة للذات، ليس هذا كلّه هوامات فلسفيّة تقصد إلى الغواية الفكريّة، بل جهدٌ طالعٌ من الواقع منجبلٌ به، لصيقٌ أشدّ الالتصاق بمآلاته المخيّبة لآمال منطلقات المشروع الحداثيّ.
في هذا المناخ الفكريّ الصخّاب اضطرمت التيّارات الفلسفيّة الفرنسيّة المعاصرة، ملتذّة بالتلاقح الشغوف بالفلسفات الألمانيّة ذات المطارق الهدّامة، مرتدّةًمن دون قطيعةعن مزاجها الفلسفي الفرنسيّ المنهمّ بشكل خاصّ بمسألة الذات الولّادة لتنويعات شتّى. هذا الإرث المتسرّب إليها عبر الفلسفاتالتأمّليّة والحيويّة ولاحقًا الوجوديّة، يضاف إليه مواضع التوشيج المتفاعل بينها وبين انفتاحات علم النفس، ومن ثمّ تدرّج تيارات هذه الفلسفة لتتنزّل إلى الواقع الاجتماعيّ، محايثةً الأحداث في الاجتماعيّ والسياسيّ والانضفارمعالمعيش الإنسانيّ، هذ كلُّه استحثّ الفلسفة الفرنسيّة على تجديد عدّتها المنهجيّة والاشتغال على تذخير المفاهيم واستنفارها لتبقى قادرة على مواكبة اختمارات الوجود الإنسانيّ في ميادينه كلّها. هذه الكثافة والكثرة والغزارة في التوجّهات والتصوّرات والتخيّرات الفلسفيّة المشتبكة مع مجالات علميّة أخرى، أسفرت عن صعوبة في ضبط هذه المادّة الجزيلة والفيّاضة والوفيرة ضمن تصنيف ناجز. وفي مقابل الجهود الغربيّة التي اجتهدت في هذا المقصد، ينكبّ الإسهام العربيّ الفريد الضخم ضمن أجزائه العشرة على الخوض في الفلسفات الفرنسيّة المعاصرة؛ اتّجاهات ومذاهب وإسهامات، في مشروع بحثيّ من إعداد د. مشير باسيل عون، بالمشاركة مع مجموعة من الباحثين المختصّين من لبنان والوطن العربيّ.
يتناول المجلّدُ الأوّل الصادر عن دار صوفيا (الكويت)، الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة في تشعّباتها المتفرّعة عن البنيويّة، وهي فلسفات التفكيك والاختلاف. وتتضمّن باكورةُ الأجزاء العشرة مقدّمةً وأربعة عشر فصلًا، تحرص المقدّمة على أن تكون لها الخيط الناظم والهادي الذي يوجّهها ويصنّفها ويضفرها، ويتخيّر لها المقام المناسب الذي يعصم العمل الوقور من الشطط والتيه في الامتدادات الرحيبة للفلسفة الفرنسيّة المعاصرة.
في المقدّمة التي يبتدر بها الدكتور مشير باسيل عون المؤلَّف، تأصيلٌ يتقصّى منابت الفلسفة الفرنسيّة التي استطاعت في مسرى اغتنائها التراكميّ أن تصقل مناظير مقاربتها لقضايا الوجود والذات والواقع، فتخلّصت من أسر التقابلات والقسمة الإثنينيّة التي شطرت الذات الإنسانيّة وباعدت بين النفس والجسد، الحياة والمفهوم. يستمر الفكر الفلسفي الفرنسي في تكثير مكتسباته العلميّة والنظريّة والفلسفيّة واللغويّة والمنهجيّة يسترفد بها اكتثارا واغتناء. وصولا إلى البنيوية التي هزت فتوحاتها سرديات كانت بمثابة قطعيات ومطلقات ونمطيّات، هي مفرزات لمركزية العقلانية الغربيّة. فكان أن بدأ الفكر يتبرم من المتعاليات الكنطية والاستعلاءات الدكارتية التأملية التي تُصلِّب الذات في الأنا أفكّر وتأسرها إلى المثاليّات المعرفيّة. مقولة التاريخ هي أيضًا تمّ تشذيبها وتخليصها من عوالق الإيديولوجيا والحتميّات التي تقودها إلى وهم اكتمال النهايات الهانئة. فالتاريخ هو مسرح الوجود الإنسانيّ بكلّ انعطاباته والتواءاته وإرباكاته، حيث ما زالت الذات تبحث عن هويّتها والإنسان موثقٌ إلى بُنية محكمة تطوّقه و”تتحكّم فيه تحكّمًا يغفل عنه وعي الإنسان”. هوت الذات من فراديسها وعلياءاتها التي سيّدتها عليها ادّعاءاتُ عقلٍ غرّ، “والبنيويّة الفرنسيّة المعاصرة أعلنت منذ عام 1966موت الإنسان”، والفلاسفة الفرنسيّون المعاصرون دخلوا في مزاج فكريّ اقتنع بأنّ الأنظومات الفكريّة الشموليّة هي لهاث عبثيّ وراء حيازة معرفة بديهيّة وواضحة. حتّى العلوم الإنسانية التي نشطت في القرن التاسع عشر اجتاحها زحف الشكّ، وباتت نتائجها عرضة للحفر والتنقيب عن مطاويها، فإذا بعصف الهدم يذروها ليؤكّد موت الإنسان. من موت الإنسان إلى موت الواقع، من مهاوي سرديّة اللغة، إلى تهافت مآلات التاريخ الواثقة، من اندثار المعنى والعجز عن القبض على تحديده ليغدو إقبالًا على تجلّيات كثيرة، في هذا الجوّ من السأم والتبرّم الذي ضاق ذرعًا بحكايا اللوغوس المضجرة انتعشت تيّارات الفلسفة الفرنسيّة والفكر الفرنسيّ المعاصر بكلّ حقوله، هذه الاتّجاهات المتشعّبة وغير المضبوطة برغم تقاطعاتها، المتفرّعة وأحيانًا المتباينة، ولكنّها تلتئم حول مقصد حاسم هو النقض والتفكيك والهدم. يرتئي الدكتور عون ضابطًا إيقاع البحث في هذا الدفق الغزير من الفكر ليستوي البحث الواضح فيه، أن يعتمد على الجذر اللغويّ العربيّ خ-ل-ف، الذي تُشتقّ منه اصطلاحات: الاختلاف والمخالفة والخُلف… وتحت هذه العناوين ينتظم تخيّر الفلاسفة الفرنسيّين.
تحت خانة الاختلاف يجوب أنطوان سيف في مؤلَّفَي جان-فرنسوا ليوتار؛ “الوضع ما بعد الحداثيّ” و”الاختلافيّ”، “فالذات لا تملك السلطة على اللغة”، وهذه الأخيرة “من السرديّات التي سقطت في زمن الحداثة. وبالنسبة إلى ليوتار، “الخلاف هو قيمة ما بعد حداثيّة لا يجوز إحباطها أو التنازل عنها بأيّ حجج كانت”. وفي اختلاف جيل دُلوز تبحث مي-لين الدبس، في “التفكير بشكل مختلف” الذي اختاره دُلوز أسلوبًا لمساعدة الفلسفة على “هدم النمط التفكير الدوغمائيّ”. وتتبدّى مقاربته المختلفة في انقلابه على تصوّر الحداثة السلبيّ للرغبة بما هي “نقص وعوز وقعر وفجوة”، في حين أنّ دُلوز ينقلها إلى ضفّة الاختلاف لتصير “قدرة خلّاقة للواقع”. ويغوص خالد كموني في تفكيكيّة فيلسوف الاختلاف الفذّ جاك دريدا، المفكّك للفكر المِتافيزيقيّ الغربيّ الذي يشيد بالمعنى الأصليّ النقيّ ويبجّله ويؤبّده من خلال تغليبه الكلام على الكتابة. من هنا يصبو الاختلاف الدريديّ إلى عمليّة إزاحة لصدارة اللوغوس الكلاميّة الصوتيّة، والعودة إلى ظاهرة “الكتابة الأصليّة المنعتقة من كلّ سند لوغوسيّ كلاميّ” لإطلاق أسر المعنى الذي قيّده الكلام وحدَّه وجعله لصيقًا به. ويكبّ يوحنا عقيقي مستطلعًا الاختلاف في التناولات الجماليّة عند فيليب لاكو-لابارت الذي “التزم منهجيّة الخروج والانسحاب والاعتراف بالنهايات، خصوصًا أنّ جميع القيم الماورائيّة والدينيّة التي شغلت الفكر سابقًا، أصبحت وراءنا”.ويتأوّج اختلاف جان-لُك نانسي الذي تتعمّق به وفاء شعبان، في سعيه إلى “تفكيك المعنى وزعزعة اليقين وزحزحة الحقيقة. إنّها وظيفة الفلسفة الأولى، تتحقّق حين يعمد المرء إلى ضرب المسلّمات وأشكلة الثوابت القطعيّة”. ونانسي يريد “إعادة النظر بمعنى كلمة إنسانردًّا على القلق إزاء تدمير الإنسان من قبل الإنسان. ويبدو أنّ روح هذه الحضارة التي هي في صدد التفكّك والخروج عن ذاتها يدخل في حال اضطراب.
في استفزازات المخالفة، يبيّن لنا باسل الزين كيف هدم موريس بلانشو الأنساق، وساءل البداهات، واكتنهفضاءات قول مغايرة. فبلانشو “كان فيلسوفًا نيتشويًّا يروم الهدم، مع فارق جوهريّ يكمن في تأكيده استحالة البناء. ذلك أنّ مناط الجدّة والطرافة في فلسفته يتعيّن في مطالعة الغياب والتحرّر من كلّ فكر نسقيّ ممكن”. وللمخالفة مع رولان بارت منعرجها الخاص، فهو يشقّ عصا الطاعة ضدّ الثوابت ويعاند المألوف ويجمح ضدّ السائد ويعود بالكتابة إلى الدرجة صفر، فيحرّر اللغة من استلابها وارتهانها للقواعد. “فكيف يمكن لحريّة القول (لدى الكاتب) أن تستقيم وهي تسير على هدي جملة من القواعد والثوابت اللغويّة التي لا سبيل إلى إهدار أنظمتها أو التصرّف بقوانينها؟ فلا بدّ للّغة من أن تتفلّت من الإكراهات لأنّها”بفاشيّتها، انغلاق تام، تمسك بمفاصل الكتابة الحرّة وتئد الإبداع في مهده”. ويشهر ميشِل فوكو الذي يكتب فيه جمال نعيم، مخالفته ضدًّا لنظام الخطاب في العقل الغربيّ الذي ينشب فيه حفريّاته، مفكّرًا فيه بمخالفة مبدعة، معيدًا للفلسفة زخمها النقديّ، “ولكن ما الفلسفة- أعني النشاط الفلسفيّ- إذًا اليوم إن لم تكن عمل الفكر النقديّ على ذاته؟ وإن لم تقم لا على شرعنة ما سبقت معرفته، بل على محاولة معرفة كيف يمكن التفكير بشكل مختلف، وإلى أيّ حد؟ إذا كان فوكو قد نقّب عن مكامن تواري السلطة وكشف عن فعالها وتقنياتها واستراتيجياتهاوحضّ على مواجهتها ومقاومتها من خلال تموضع المثقّف الخصوصيّ في موقعيّات تحتيّة في المجتمع، باعتباره فيلسوفًا عاش صخب الحياة السياسيّة وتفاعل معها، فإنّ بيار بورديوجعل الهيمنة موضوعًا عقد العزم على تعقّبها في كلّ الأمكنة التي تسلّلت إليها واندسّت فيها. ومع زهراء الطشم نتعرّف إلى مخالفة بورديو الذي تظهر في تجنيده لاقتحامه معاقل السلطة، منهجيّات العلوم الاجتماعيّة وأدواتها، وفي تجهّزه بعدّة مفاهيميّة ساعدته على تعرية العنف في رمزيّته، والتحرّي عن الهيمنة في التاريخ وفي اللاوعي وفي الحقول الاجتماعيّة.وينبئنا مشير باسيل عون بمخالفة ساره كوفمان، التي تقترح قراءة نصّ الحياة بطريقة مخالفة مجاوزة “للسطوح الجوفاء” التي “لا تستطيع أن تكشف الأعماق النصّيّة المتوارية، بل تخفيها وتشوّهها وتستخدمها استخدامًا مواربًا”. وليست المنظومات الإيديولوجيّة الصلبة سوى معوّقات تحبط عمل العقل وتأسره إليها. ومع رندى أبي عاد نعاين زمن الخواء وأعراضه كما تطرّق إليها جيل ليبوفتسكي. ومظاهر هذا الزمن تطفح من خلال علائم كثيرة؛ اللاستقراريّة وزولان كلّ شيء وزواليّته، شعور عام بعبثيّة العيش، التآكل الأخلاقيّ “لإنسان الحداثة الاستهلاكيّة” الذي بات يقتات على الخفّة والسطحيّة والفعّاليّة الفوريّة، والآنيّة والنفعيّة والمتعيّة.
يعتلي جورج باتاي الذي نقرأه مع مارلين كنعان، قمّة الخُلف ويذهب به إلى أقصاه. وفي اختياره الحاسم لسبيل الانحراف العاصي والجامح، يحرف فيلسوف الإيروسيّة والإباحيّة والشهوانيّة الفلسفة عمّا درجت عليه من عادتها للتناول الفكريّ للوجود. فهذا الأخير ملآن بالشواذات والمباينات التي همّشها العقل الغربيّ، لكن باتاي يخرجها إلى العلن. فلقد حان الوقت للالتفات إلى “المجموعات المهمّشة والأشياء العنيفة والمنفّرة والمقزّزة والكريهة والمثيرة للاشمئزاز، التي افتُرض أنها لا-إنسانيّة، والتي أعرضت عنها الفلسفة الكلاسّيكيّة”. وفي الخُلف أيضًا ندخل مع شادي كسحو عدميّةَ إميل سيوران وجان بودريار. فعلى الكتابة مع سيوران “من الآن فصاعدًا أن تحتفل بالعدم”، فهو يكتب “لتأزيم الفكر وخلخلة مسلّماته”، ويمجّد “متعة الهدم والتفكيك مقابل متعة البناء والتركيب”. وتصل العدميّة إلى حدّها المفرط مع جان بودريار، الذي يجهر بموت الواقع المُقتحَم من الميديا وصوَرها التي تتناسل وتتكثّر لتحلّ مكان الواقع فيصير فوق-واقع،فيبشّرنا بودريار “بعالم عدميّ حيث تطفو كلُّ النظريات في الفراغ”.
وبعد، لا يبتعد هذا العمل في همّه المعرفيّ عن متطلّبات الفكر العربيّ واحتياجاته.فهل ننأى بفكرنا في العالم العربيّ عن هذه الضروب من فلسفات الارتياب والاختلاف والتفكيك، الذاهبة في انتهاكيّتها إلى الحدّ الأقصى؟ هل نجرؤ على تهديم ما بلِيَ من موروثنا؟ يجيب د. عون:” فإذا كان الفكر الفلسفيّ العربيّ يرغب في تحديثٍ بنيويٍّ شامل ينطلق من ذاتيّته وتراثه وبيئته وخصوصيّته واختباره، كان لا بدّ له من أن يجعل للاختلاف مقامًا معرفيًّا بنّاءً في الاستدلال على سمات فرادة الواقع العربي. معنى ذلك أنّ اعتماد مقولة الاختلاف لا يضطرّ الفكر الفلسفيّ العربي إلى الخضوع للمنهجية الغربية الحديثة، إذ إن فلسفات الاختلاف الفرنسية تحرص في صميم مطلبها على الانعتاق من كل خضوع وتبعية وتغرب”.
> زهراء الطشم