موقف ابن عربي من المرأة

لابن عربي كابن رشد موقف مزدوج من المرأة، الموقف الفقهي والموقف العرفاني.

1) المرأة من أجل الرجل

من يطالع بعض أعمال ابن عربي سيتولد لديه انطباع بأن المرأة كانت لدى الشيخ الأكبر تابعة للرجل تبعية وجودية وماهوية، لكونها خُلقَت منه ومن أجله. وقد استند لإثبات ذلك على نصوص إسلامية ومعارف رياضية. فهو، اعتمادا على الآثار الإسلامية، لا يتردد في التصريح أحيانا بأن المرأة ناقصة خَلقاً وعقلا. هكذا نجده مثلا يُؤَوّل موقف الإسلام من شهادة المرأة تأويلا نفسيا «والمرأة أنسى من الرجل، ولهذا قامت المرأتان في الشهادة مقام الرجل الواحد»، ويعزز ذلك بأساس بيولوجي مفاده «أن المرأة شِقٌّ من الرجل، فامرأتان شقان، وشقان نشأة كاملة، فامرأتان رجل واحد. فهي ناقصة الخَلْق مُعوَّجة في النشء لأنها ضلع»(كتاب الأسفار). وحتى عندما يقارن بين شهوة الرجل والمرأة ينص على «أن الشهوة في الرجل بذاتها، وفي المرأة بما بقي من آثار رحمتها في مواطنها الذي غمرته» (كتاب الألف).

من جهة أخرى يؤوّل ابن عربي العلاقة الرياضية بين الواحد والفرد أو بين الوحدانية والفردانية ليبرر الفرق بين آدم وحواء فيرى أن «آدم فرد، وحواء واحد، وواحد في الفرد مبطون فيه؛ فقوة المرأة من أجل الوحدانية أقوى من قوة الفردانية، ولهذا تكون المرأة أقوى في ستر المحبة من أجل الرجل، ولهذا هي أقرب إلى الإجابة وأصفى محل، كل ذلك من أجل الوحدانية» (كتاب الألف).

بيد أنه في مقابل ذلك يلتقي مع ابن رشد فيما يخص الحقيقة الإنسانية، إذ يعتبر الذكورة والأنوثة من أعراض الكائن البشري، لا من حقيقته: «فإن الإنسانية تَجمع الذكر والأنثى. والذكورية والأنوثية إنما هما عَرَضان، ليستا من حقائق الإنسانية».

2) حقيقة العالَم الأنثوية

وفي غمرة تأملاته في مسألة المرأة، تمكّن ابن عربي من تحويل الأنوثة إلى مفهوم عرفاني – فلسفي. وقد تميز مفهومه للمرأة بطابع جدلي لكونه يحتضن التضاد. فالأنوثة تجمع بين الشيء وضده، بين المعنى الحسي والمعنى العرفاني، بين التجلي والستر. وباحتضانها التضاد اعتبر الأنوثة مبدأ الحركة والتقلب والصيرورة، وهي الصفات التي تميز الطبيعة عند أهل الفلسفة. غير أن الأنوثة تمتاز بالانفعال، أي بالقبول والتلقي، لا بالفعل والتأثير؛ فالمرأة قابلة، متلقية، لا فاعلة مؤثرة. ونعتقد أن سرّ هذه النظرة الأنثوية والانفعالية إلى الطبيعة والعالم يعود إلى قوله بوحدة الوجود. فبما أن ما في الوجود سوى الحق تعالي، فإنه لا يمكن أن يوجد فيه إلا فاعل واحد، هو الحق نفسه. وهذا يعني أن كل ما في الوجود عبارة عن تجليات للحق، أي ظواهر وموجودات وأحوال منفعلة عنه أو عن أسمائه أو صفاته. وهذا ما يجعل المرآة (والتي لها قرابة بالمرء والمرأة والرؤية والرؤيا) استعارة بليغة للتعبير عن طبيعة الوجود البشري، وعن الوجود الطبيعي عامة، لأن المرآة ذات طبيعة منفعلة ومتلقية للصور. فالموجودات هي مرايا متقابلة تتجلى فيها التجليات الإلهية، أو هي محلات لاستقبال الآثار الإلهية «فأعياننا أينٌ لظهوره». وهذه الآثار أو الحوادث هي عين الله.

 

غير أن الانفعال، بحكم مبدأ التضاد، ينطوي على ضده الفعل. فالمرأة منفعلة بالرجل لكي تُخرِج الرجولة الكامنَة فيه إلى الوجود، بالمعنيين الحسي والمعنوي اللذَيْن سنتكلم عنهما لاحقاً.

ويذهب بعيدا في تعميم الانفعال الذي يميز الأنوثة على كل تجليات الوجود التي يعتبرها أنثى منفعلة متلقية للجُود الإلهي، سواء كان نباتاً أو حيواناً أو جماداً، وسواء كان ذكراً أو أنثى، بل إنه يذهب إلى أن «مَا فِي الكونِ من رَجُلِ»، فيقوم بتأنيث الرجال شعراً:

«إنَّ الرجَـالَ الَّذِين العرفُ عَيَّـنَهُم

هُمُ الإنَاثُ وَهُم سُؤلِي وَهُم أمَلي».

ومما يعزز الطابع الأنثوي لفكره جعل الرجلَ موجوداً بين مؤنثين قائلا: «فإذاً الرجل مُدرَجٌ بين ذاتٍ ظَهَرَ عنها(1)، وبين امرأةٍ ظهرتْ عنه. فهو بين مؤنَّثين: تأنيثُ ذات وتأنيث حقيقي […]، كآدم مذكَّر بين الذات الموجود عنها، وبين حواء الموجودة عنه. […] فكُن على أيِّ مذهب شئت، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدَّم، حتى عند أصحاب العلَّة الذين جعلوا الحقَّ علَّة في وجود العالم – والعلَّة مؤنثة»!.

3) المرأة طاقة لإخراج الرجل من القوة إلى الفعل:

في غمرة الإعلاء من شأن المرأة نأتي بمثال حي عاشه ابن عربي في أحد فتوحاته الروحية بمدينة فاس، وهي تجربة “مد العينين” إلى الممنوعات من نساء الغير. فقد اعتبر في البداية أن مد العينين إلى أزواج الغير معصية مذمومة، لكنها لا تلبث أن تتحول إلى معصية محمودة، وإلى رؤية مباحة. وقد برر هذا التحول بالتمييز بين رؤيتين: الرؤية الحسية الحيوانية، والرؤية العقلية الروحية، وهي ما نسميه بما بعد الرؤية التي لها القدرة على استخراج لا شعور الرجل من ظلام المعصية إلى ضوء الشعور، وهو ما تقوم به المرأة إزاء الرجل.

أسس الشيخ الأكبر حق الرائي في تعدد رُؤاه تجاه المرأة على مبدإ شرعي هو تعدد الزوجات، وعلى مبدإ عرفاني – شرعي هو انبثاق المرأة الأصلي من الرجل. في البداية انطلق من مُعطَى أن معصية “مد النظر”، تجمع بين ضدين، «حب الطبع وكراهة الإيمان»، لأن “الطبع” يحب تلقائيا فعل المعصية، بينما “الإيمان” يميل إلى كراهتها. ثم ما لبث صاحب الفتوحات المكية أن انتصر خِلسةً لا تصريحا لحُبّ الطبع، مستعملا في ذلك تأويله لقصة النبي الخِضْر مع النبي موسى بشأن قتل النفس في القصة القرآنية الشهيرة: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ، قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرا﴾ (الكهف: 74)، حيث استخلص من هذه النازلة أن الحق في الحكم على المعصية ليس مطلقا، بل «لكل واحد له وجه في الحق ومُستَنَد». وانطلاقا من هذا المبدإ السفسطائي تتحول المعصية المذمومة “مد العينين” في نظر العموم إلى معصية محمودة في نظر أصحاب الشهود، لأن لأهل الشهود مِحَكّاً للحق والخير “لا يستطيعه الآخرون”. بهذا النحو تصبح معصية “مد العينين” إلى غير المباح، مقاما عرفانيا مباحا للخواص من الواصلين.

4) كوجيتو الأنوثة: أفتتن بالمرأة

إذن أنا موجود

استغل ابن عربي مناسبة تذوقه لمقام “مد العينين” لكي ينوّه بالنساء بربطهنّ بثلاثة خصال هي: النعيم، والفتنة، وخفاء ذاتنا عنا أو «ما خفي عنّا فينا». فهُنّ، بالإضافة إلى كونهن زَهْرة الحياة الدنيا، حيث يحصل بهنّ النعيم حيث كُنّ، فإنهنّ «فتنة يَستخرج الحق بهنّ ما خَفِي عنا فينا مما هو به عالِم، ولا نعلمه من نفوسنا». بهذه القدرة الخارقة للمرأة على إخراج لاشعور الرجل من ظلمته إلى ضوء الشعور يكون ابن عربي قد أضفى على النساء سرّاً وجوديا وروحيا. ذلك أن نعيم النساء يشكّل أداة افتتان الرجل بهنّ، لكن لا لذهوله بهنّ عن ذاته، ولكن لانفتاحه عن سره الخفي عنه أمام نفسه، فتصبح المرأة أداة حضوره امام ذاته المغمورة بالنسيان، أي أداة تجلية سرّه اللاشعوري من حيث هو ذات غير مرئية. هكذا لا يظهر غير المرئي من الرجل إلا في مرآة المرأة. وهذا لعمري كوجيتو جديد: أُوجَد متى افتتنت بالمرأة ونعمت بها! ما عدا ذلك، فلست موجوداً، لست حاضرا أمام نفسي. فالمرأة هي أداة كشف الغيب منّي، الغائر في داخلي.

فإذا فهمنا مِن السّر فهمَ الصوفية إياه، أي بوصفه كمالاً يمنحه الله للمختارين من عباده، فستكون المرأة أداة إظهار السر إلى الوجود، أداة استخراج هذا الكمال من القوة إلى الفعل، أي أداة استكمال رجولية الرجل. وهذا ما يسمح لنا أن نُعلن بلغة رشدية بأن المرأة صورة الرجل، أي ماهيته، أما الرجل فهو عندنا تلك الهيولى العدمية التي تعمل المرأة على تشكيل صورتها “المرئية” (من المرأة) كيفما شاءت وفي أي اتجاه شاءت. ما يعني عندنا أن المرأة هي التي تُخرِج الكنزَ المَخفِي للرجل إلى الوجود.

5) أنواع رؤية الرجل للمرأة

لمّا كان الرجل لا يرى المرأة بنفس الرؤية، بل يراها حيناً برؤية حسية حيوانية، وحيناً آخر برؤية روحية عقلية، فستكون طبيعة رؤيته للمرأة هي معيار انتمائه إلى مرتبة الإنسان أو انحطاطه عنها، ومن ثم يحقّ لنا أن نثبت بأن إنسانية الرجل متناسبة مع طبيعة رؤيته للمرأة. فمَن نَظَر إلى المرأة كامرأة وحسب، وليس كزهرة تعبق بالرائحة، وتدل على الثمرة في أعماقها، فإنه لا يستحق نعت الإنسانية؛ وبالمِثل مَن نظر إلى المرأة باعتبارها موضوع مُتعة حيوانية وحسب، فلن يظفر بشرف الانتماء إلى الإنسانية، بل إنه من جرّاء ذلك ينزل إلى درجة أدنى من الحيوان، لأن الحيوان يميل ميلا طبيعيا إلى مَن ينتسب إلى فصله النوعي الذي يميّزه عن غيره، بينما مَن لا ينظر إلى المرأة ككائن عقلي، وإنما كموضوع مُتعة فقط، هو كمَن يميل إليها باعتبارها لا تنتمي إلى فصله النوعي، أي الإنساني، فينالها «بحيوانيته، [لا] بروحه وعقله».

ويمكن أن نُؤوّل اهتمام ابن عربي بطيب المرأة لا فقط على أنه اهتمام بدور حاسة الشم في علاقة الرجل بالمرأة بالإضافة إلى حاسة الرؤية، ولكن أيضا بكونه تلميحاً لعلاقة الرائحة الطيبة بالنَّفَس الرحماني. فنحن نعلم من عرفان ابن عربي أن سريان النّفَس الرحمان في الأسماء والأعيان الثابتة (الماهيات)، هو الذي يُخرجها من عالم الإمكان إلى عالم الموجودات الواقعية. فإذا سلّمنا بصحة تشبيه الرائحة الطيبة بنَفَس الرحمان، فبوسعنا أن نقول بأن سريان طيب المرأة في أرجاء المرء هو الذي يحوّله إلى رجل.

ونفس التأويل يمكن أن نمارسه على تشبيه المرأة بالثمرة الكامنة في الزهرة، إذ نعتقد أن فيه إشارة إلى الماهية التي تنتظر مَن يصقلها، مَن يسوقها إلى الفعل. لكني لا أقصد بذلك أن الرجل هو الذي يخرج ماهية المرأة إلى الفعل، وإنما أرمي من وراء ذلك أن المرأة هي السوّاقة إلى الفعل الماهية المشتركة بينهما، وهي الإنسانية. فتكون المرأة بهذا الاعتبار قد جمعت بين الوجود الثبوتي (الماهية)، والوجود الفعال.

ولا يمكن أن يجري الكلام عن المرأة دون الوقوف قليلا عند مفهوم التقلب، الذي نعتبره جوهر علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الإنسان بالوجود. فقد أبَى الشيخ الأكبر إلا أن يجعل التقلب هو القانون الأكبر لنظرية التجلي الوجودية، فلا شيء لابثٌ على جميع المستويات الوجودية والوحدوية، وبخاصة الإنسان الذي هو أعظم المتقلبين في كل آن وحين، لكن معظم الناس غافلون عن تقلبهم، والقلة منهم هم الذين يكونون على بصيرة به، لذلك كانت منازل الرجال «على قدر عِلمهم فيما يتقلبون فيه وعليه»، مما يجعل الوعي بالصيرورة، وليس الوعي بالتفكير، هو ما يميز “العارف”، وبالتالي من لا يتقلب في أحواله ومواقفه لا يُعوَّل عليه. فإذا كانت المرأة هي محرك التقلب (وهو من القلب) في الرجل، فإنها ستكون وراء الوعي بالتقلب ووراء المنزلة التي ينالها.

خلاصة القول، “المرأة الزهرة” تتصف بثلاث صفات أو أفعال، فهي “معطية الرائحة”، “ومتنزَّها للبصر”، “ودليلة على الثمرة”. ويمكن ترجمة هذه الأفعال إلى ثلاثة أجناس من الإدراكات: الإدراك بالقلب، والإدراك بالبصيرة، والإدراك بالعقل؛ أو الإدراك بالأنفاس، والإدراك بالشهود، والإدراك بالأدلة. ولعل هذا الجمع بين هذه الإدراكات آت من كون “المرأة الزهرة هي عبارة عن كلّ”، ولذلك يجب إدراكها بفعل كلّي «فإذا لم يدرِك صاحب هذه الزهرة رائحَتها ولا شهدها زَهرة، ولا عَلِم دلالتها التي سبقت له على الخصوص، وإنما شهدها امرأة، وزُوِّجت به، وتنَعّم بها، ونال منها ما نال بحيوانيته، لا بروحه وعقله، فلا فرق بينه وبين سائر الحيوان، بل الحيوان خير منه».

هكذا يتضح أن المرأة موضوع التأويل وذاته في آن واحد؛ فهي التي تفجر فعل التأويل في الرجل، مما يدل على أن وجود الإنسان هو تأويل في تأويل، رؤية في رؤية، أي ذلك التأويل وتلك الرؤية المضروبة في نفسها، والمنتجة لآفاق دلالية لامتناهية.

—————————

(1) دون أن يعين هذه الذات التي ظهر عنها.

< بقلم: د. محمد المصباحي

Top