نفحات رمضانية في رحاب الشعر الملحون -الحلقة 17-

فن الملحون من أنواع الطرب التي ابتكرها المغاربة بعد أن تأثروا بالموسيقى الأندلسية خلال القرن السابع الهجري في العهد الموحدي للمغرب، فوظفوا النغمات والإيقاعات للتغني بقصائد الشعر والنثر سواء باللغة العربية الفصحى أو باللهجة الدارجة.
وبدأ الملحون بالمدح النبوي ومناجاة الله ثم الرثاء، وكان له دور كبير في المقاومة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي والبرتغالي، وانتشر الملحون بين الناس كفن شعري وإنشادي وغنائي، موطنه الأول كان مدينتي سجلماسة وتافيلالت الأمازيغية– جنوب المغرب- ثم انتشر ليصبح فنا شعبيا تتغنى به الفرق في مختلف مدن المغرب. وتشتمل قصيدة الملحون على كلام ينتظم، لكن في غير ضبط محكم لوحدة الوزن فيه والقافية، وتنقسم قصيدة الملحون إلى خمسة أركان، هي المقدمة، أو السرابة وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة، ثم الدخول، وهو شطر في استهلال القسم بدون عجز، والقسم الثالث هو الحربة، وهي اللازمة، ويؤديها الشداشة وهم جماعة المغنين والعازفين، والقسم الرابع هو الأقسام، وهي الأبيات المغناة، أما القسم الخامس فهو الدريدكة، وتختم القصيدة وتنشد على إيقاع سريع.
وارتبط الملحون كفن مغربي أصيل بشهر رمضان، وذلك منذ ثمانية قرون تقريبا، حيث تتاح خلال الشهر فرص زمنية للاستماع والاستمتاع بهذا الفن الذي يتميز بالتزامه بقواعد اللغة العربية الصحيحة في الغناء، واختيار القصائد العظيمة لعمالقة الشعر الصوفي لغنائها، وحتى اللهجة المغربية لا يتم غناء أي كلمات لا تلتزم بآداب وضوابط هذا الفن الأصيل. ولا غرابة في ذلك، فالملحون رسالة فنية وليس مجرد غناء للتسلية، ونجد فيه تمسكا بالآلات الوترية والايقاعية الأصيلة والتي تضيف للكلمات العربية الفصحى نوعا من السحر الذي يصيب قلوب المستمعين قبل آذانهم.
يستمر شاعر الملحون أثناء صيامه شهر رمضان الكريم، في تفكره ومتابعته لما أبدع الحق سبحانه، إلى حين تميل الشمس إلى الغروب ويحل وقت إفطار الصائم . يقول :

         شوف الشمس أرخات لكمام       عـولت للـــرواح افتيها واقيامـــا
         حست بالديجـــــــور لغــلام       جمع لجيوش راد الحركا بزعاما
        وهــربت وعــرت لوهـام           خلات لو الرك اشقر ابســلامـا
ويرى الحاج ادريس لحنش أن الشمس في لونها الذهبي، لبست ثوب الغروب وقد هجم عليها الليل :
       شوف الذهبيا الرايحـــا              لبست ثوب الغروب والليل اغشاها
إن شاعر الملحون، وإن لم يفقه تسبيح الكون، فإنه يحسه إحساسا لا يتطرق إليه الشك، وربما كان يشعر بتلاحم وتناغم تسبيحه مع تسبيح كل المخلوقات . ويزداد هذا الإحساس عمقا مع مداومة الفكر حتى يصل إلى قمم روحية سامية، وإلى شعور بالسرور واللذة الروحية التي لا يشبهها من نعيم هذه الدنيا شيء، ولا تخطر ببال أولئك الذين يمارسون الرياضات الروحية كالبوذية والهندية .. ولهذا، جاءت بعض أشعارهم في هذا المجال، معبرة أصدق ما يكون التعبير عن إيمانه الصادق وهو يتفكر في آلاء الله. ولعل الأساس يكمن في العبور من التأمل في المخلوقات إلى خالقها، وفي التوحيد الخالص لرب العالمين الذي لا تشوبه شائبة من شرك أو عقيدة فاسدة.
   إن أهم ما يرفع من قدر التفكر خاصة في شهر رمضان، أن الله تبارك وتعالى قد اقسم بذاته العظيمة ببعض من مخلوقاته. وهذه أكبر دعوة إلى النظر فيها وسبر أغوارها والتدبر في مكوناتها. فالله تعالى يقسم بالضحى وبالفجر، ويقسم بالشفق والقمر، ويقسم بالتين والزيتون، ويقسم بالصبح إذا تنفس وبالليل إذا سجى. ولا شك أن هذه المكانة العالية التي أعطاها الإسلام لعبادة التفكر، هي التي دفعت إلى قول: ” تفكر ساعة خير من قيام ليلة “.
وشهر رمضان فرصة حقيقية ومناسبة للتفكر والتدبر والتأمل في خلق الله . ومن ثمة، فالتفكر سياحة فكرية وجدانية، تحيي القلوب وتنير البصائر. لذلك، فالصائم مأمور في هذا الشهر الكريم بالتدبر في خلق الله. يقول تعالى: ” كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة. ”
  وشاعر الملحون لم يقتصر على الدعوة إلى التفكر في بعض مظاهر الكون، بل شمل هذا التفكر أيضا صورا كثيرة من مظاهر الطبيعة، منبهرا بدقة الصنع وجماله وعظمته وإحساس بالنقصان أمام ما يشاهده .. وهو أمر فطري أودعه الله تعالى في عبده لينظر به في السماء والأرض، فيهتدي به إليه، ولتخشع جوارحه ويعبد ربه رغبة ورهبة.
 وللإشارة، فإن غير قليل من شعراء الملحون، قد جعلوا من قصائدهم في الطبيعة مجرد أبيات لحمد الله وشكره والثناء عليه .. وذلك من خلال إعمال فكرهم فيما أبدع الخالق عز وجل.
وهذا السي التهامي المدغري يقف مشدوها بين أحضان الطبيعة، وقد فتنه جمال فصل الربيع، وبهره بحسه وحيويته وحركته . فألوان الزهور في الربى الخضر، وألوان الأفق وقوس قزح، حيث امتزجت هذه الألوان ب : ” السباني ” و ” الشرابي ” و “العبارق “إلى غير ذلك مما ورد في الأبيات التالية :
            شوف لبطاح لبست القماش والقلايد      بالعقيق أو عقيان وجوهر الوقاد
      لبست قمايص من ثوب الرضا الزايد         من مودة ما عمرها خطات ميعاد
     هـــالت ومالت بنسيم الشدا البـــــــارد         لاقحا برزت عن شلياتها فالاوهاد
     بالشــــرابي وسبــاني ضيهم واقــــــد         والعبارق وصقلي في احسن المراد
     الشكرنط لمشجر سلبني من سمــــــاه         عين علجا ومشرقيا اعلى امنــــاها
    شمس العشي والخابوري سواي وسواه        جاور الشيبا وتحير من نداهــــــــا ..

من خلال هذه الأبيات، يبدو عمق تفكر شاعر الملحون فيما أبدع الخالق سبحانه، كما تظهر لنا بوضوح قدرته على سبر أغوار الأشياء واكتشاف منن الله في خلقه .

يكتبها لـ” بيان اليوم”  الدكتور منير البصكري الفيلالي

نائب عميد الكلية متعددة التخصصات بأسفي سابقا

Related posts

Top