نفحات رمضانية في رحاب الشعر الملحون -الحلقة 18-

فن الملحون من أنواع الطرب التي ابتكرها المغاربة بعد أن تأثروا بالموسيقى الأندلسية خلال القرن السابع الهجري في العهد الموحدي للمغرب، فوظفوا النغمات والإيقاعات للتغني بقصائد الشعر والنثر سواء باللغة العربية الفصحى أو باللهجة الدارجة.
وبدأ الملحون بالمدح النبوي ومناجاة الله ثم الرثاء، وكان له دور كبير في المقاومة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي والبرتغالي، وانتشر الملحون بين الناس كفن شعري وإنشادي وغنائي، موطنه الأول كان مدينتي سجلماسة وتافيلالت الأمازيغية– جنوب المغرب- ثم انتشر ليصبح فنا شعبيا تتغنى به الفرق في مختلف مدن المغرب. وتشتمل قصيدة الملحون على كلام ينتظم، لكن في غير ضبط محكم لوحدة الوزن فيه والقافية، وتنقسم قصيدة الملحون إلى خمسة أركان، هي المقدمة، أو السرابة وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة، ثم الدخول، وهو شطر في استهلال القسم بدون عجز، والقسم الثالث هو الحربة، وهي اللازمة، ويؤديها الشداشة وهم جماعة المغنين والعازفين، والقسم الرابع هو الأقسام، وهي الأبيات المغناة، أما القسم الخامس فهو الدريدكة، وتختم القصيدة وتنشد على إيقاع سريع.
وارتبط الملحون كفن مغربي أصيل بشهر رمضان، وذلك منذ ثمانية قرون تقريبا، حيث تتاح خلال الشهر فرص زمنية للاستماع والاستمتاع بهذا الفن الذي يتميز بالتزامه بقواعد اللغة العربية الصحيحة في الغناء، واختيار القصائد العظيمة لعمالقة الشعر الصوفي لغنائها، وحتى اللهجة المغربية لا يتم غناء أي كلمات لا تلتزم بآداب وضوابط هذا الفن الأصيل. ولا غرابة في ذلك، فالملحون رسالة فنية وليس مجرد غناء للتسلية، ونجد فيه تمسكا بالآلات الوترية والايقاعية الأصيلة والتي تضيف للكلمات العربية الفصحى نوعا من السحر الذي يصيب قلوب المستمعين قبل آذانهم.
ضمن هذه الجولة الرمضانية، نستمر دائما مع شاعر الملحون في دعوته للتفكر والتأمل فيما أبدع الخالق سبحانه . يقول الشاعر غانم الفاسي متحدثا عن فصل الربيع، معتبرا إياه نفحة من نفحات الجنة :

       حال ايام الربيع من جنة رضوان         بانت لوراق والزهر عل اللوان
       سبحـــان الوحيد عظيم الشـــــان         بــدع اجميــع لشيات الوحدانـــي   
                               جاد اعلينا برحمتو والسلوان
كما يدعو السي التهامي المدغري إلى إجالة النظر في ” العرصة ” والاستمتاع بأزهارها وأشجارها .. وفي ذلك دعوة ضمنية إلى التفكر في خلق الله . وما في هذه العرصة من بديع الصنع، ما هو في الواقع إلا مصدر إثراء للفكر العميق والخشية والتأمل في آلاء الله تعالى وفضله، حتى يصبح كل شيء مثيرا للفكر ومحركا للتأمل . يقول الشاعر :
       حل عينيك واتنزه زد شوف واسطاب      في ادواح العرصا وازهارها اعجيبا
       أغصانها بالفرجات اتعانقو بترحاب        كيف عنق لحبيب احبيبو بعد غيبا
      اتمايلو وعربطو فرياضهم بشجار           أمن اكيوس انداهم امرونقا اسكيبا
      الزهر يضحك والطل لبكى افتنحاب         كل عاشق تضحك لبكاه شي احبيبا
كما يشبه الشاعر أديم العرصة بزرابي مفروشة متناسقة، من نسج الباري جلت قدرته.
يقول :
     شوف أرض العرصا ما كيفها ازرابي       امفرشا للنزايه هذي الذي ابنسبـــا
     أبلحرير امرقم يفجي ادجا اكرابــــــي        ما تنسجو بصباغ أولا دخل الكتبا
    بيد مول القدرا منسوج يا حبابــــــــــي        اتفكروا واعتبروا تلقاو كل رغبــا
يبدو واضحا من خلال البيت الأخير دعوة الشاعر الصريحة إلى التفكر والاعتبار، مما يكشف على أن شاعر الملحون بقدر ما يعبر عن عمق إيمانه بالله، بقدر ما يصاحب ذلك من تسبيح وذكر لله تعالى . ومن هذا المنطلق، اضفى شاعر الملحون على مناسبة شهر رمضان، نفحة روحانية تذكر بصفاء توجهه إلى خالقه في هذا الشهر الكريم , ومن ثمة، نجده يشعر بإثراء في كيانه الروحي، فتتحرر أفكاره وخواطره، وتنطلق طاقاته . وتتجلى هذه المسحة الإيمانية في مثل قوله :
         من ليه الملك البديع مطــــرزها         زهر الحرجات فالعفا نسجو مولاه
         من حقق في انسيجها بالقهر فها         سبحان اللي انشا الزهر ونور ابهاه
                            كم من عشاق حار في صورت معناه
فالشاعر منبهر بجمال خلق الله، يرى فيه آثار قدرته عز وعلا، ويتسمع في الأرض والسماء ببراهين على وجود الله، كأنها الفاتحة تتلى على سمعه . فهذه البراهين القاطعة بوجود الخالق المسيطر، مالك الملك، تغني عن الدليل العلمي والفلسفي، لأنها أقرب منه وأوضح . وربما أبدع الشاعر شيئا آخر، لا يسعى من ورائه إلا للتدبر فيما أوجد الخالق وأبدع .
ومما يؤكد أن شاعر الملحون كان فعلا مهووسا بالتفكر في خلق الله .. وصفه الدقيق لكل ما كانت تقع عليه عينه من مظاهر الطبيعة، خاصة حين يحل شهر رمضان في فصل الربيع.
فهذا شاعر الملحون الأسفي الطالب بنسعيد، يورد في قصيدته ” الربيعية ” الكثير من التجليات الربانية، مختتما ذلك بقوله : بهذا يعرف الله . وهنا تكمن حقيقة التفكير في خلق الله لدى شاعر الملحون . يقول :
       شوف نخلات افتهييجا أرخاوا لفنـــان        شوف السفرجل به الغنــي أكرمنــــا
      شوف توت أبرقوق أرض اسريع لغصان       شوف مشمــاش أطهج فغرس به فتنا
      شوف خروب اخزاينو فيه دون بنيــان        للنـــزايه وقدا لحرجات ضل وهفــــا
      شوف زقزوق اصفوف شوف يــــلان        شوف رعد ازكلم شوف الغني استرنا
      لداه وسلـــوان اعــلا الـدوام عنيــــــت        والطيار اتزغرت وعقولها افــوتــــــا
     شــــــوف النــــور فالحـــراج وتنــــزه        وصغ حوت الطيار فرجــــا ونزهـــا
     هــــذا فصل الربيع لعقــــول اتيــــــــه        للـــه الحــمــد رب العبــــاد ارواهــــا
     هكــــذا يعـرف الحـــق الغنــــي الإلاه        زيـــد حمــد يــوالي لا تكـــون ساهــي
     في بواب رحمتو طول الــــدوام نسعاه        لا غنــا برحمتو وســامح فالملاهــــي ..

يكتبها لـ ” بيان اليوم” الدكتور منير البصكري الفيلالي*

*نائب عميد الكلية متعددة التخصصات بأسفي سابقا

Related posts

Top