(إلى سندباد القصة والحياة الكاتب الكبير أحمد بوزفور)
سيفكر في أن يستهل قصته: “عين الطائر”، بمشهد بانورامي، وبأقل عدد ممكن من الكلمات، سيصف المدينة الرمادية، وهي تتثاءب في حضن صباح صيفي طازج، منذور للكسل واقتناص مباهج الحياة، سيفكر هذا الرجل الأربعيني، الغارق في عزلته الباذخة في فوائد السفر، وسيضحك وحده، وهو يستحضر ما رواه سائق سيارة أجرة؛ حيث انتقم جيرانه من أولئك الغرباء.. بمنعهم من الخروج من الشقة المفروشة؛ حبسوهم – هناك- بوضع عمود على الجدار، وربطوا المزلاج مع القطعة الخشبية، بحبل متين…
سوف يتخيل شاب في منتصف العمر/العهر – هنا.. والآن- أن تلك الشقة تربض أسفل عمارة صغيرة من ثلاثة طوابق قبالتها مقهى متواضع، سينزوي في ركنها القصي شاب في منتصف العقد الرابع، سيبدو مكتئبا دوما، وكأن كل هموم العالم ملقاة بين يديه.
سيحك ذقنه، كأنما يحلب الكلمات، كما كانت تفعل جدته مع بقراتها، قبل أن تغادر الشمس سريرها المخملي.. سيكتب بخط مائل عن استغاثات البنات وخوفهن من الفضيحة، والكلام البذيئ، الذي سيقذفه في وجوههن رجال الشرطة بلا شفقة، سيفكر الرجل الغارق في حقول قصصه، المنتشي بتغاريد الطيور، وكأن تلك الطيور آخر الناجين من طوفان المدن، وسيواسي نفسه أن هذا العالم مائل بالفعل، وهو منزو في ركن قصي، في مقهاه المفضلة، سيضع هاتفه البليد جانبا، سيرتشف آخر قطرة من ليل قهوته، سينظر إلى الفتاة الجالسة في الشرفة، تلك الشرفة التي تقبع في الطابق الأول من بناية ذات ثلاثة طوابق، تملكها امرأة عجوز وحيدة، سيلعنها المؤلف الضمني على لسان بطل قصته الجديدة: “عين الطائر”.
ستداعب الفتاة، التي ستبادله النظرات الصامتة شعرها، وبكثير من الأسى، سيكتب عن اللحظة، التي امتدت فيها أصابع بطل قصته: “عين الطائر”، وهو يمسد شعره، كأنما يبادلها الغزل، سينظر إليها طويلاً ، تلك النظرة، التي تدوم دهرا في لقاء خاطف لا يتعدى خمس دقائق، هي الشيء الوحيد المتاح في عالم محاصر بالمتاريس، السياجات والكثير من الأكاذيب والمقاصل، وبخط مائل سيكتب: ” ماذا يحدث؟ لا شيء.. ومن أين تسلل هذا الحداد الطويل؟ كل ما في الأمر أن شهد نظرتك كان خطوتي الأولى في منحدر الدموع”.
سيمد الرجل الأربعيني يده، سيمسد ما تبقى من شعر داهمه الصلع مبكرا، كما داهم الحزن قلبه منذ نعومة مشاعره، لهذا يستوطن الشجن نصوصه الأخيرة، ولن يبالي بطل قصته الثلاثيني بحديث رواد المقهى خلفه، وهم يتحدثون عن طفولة المكان في حسرة.. عن حقول القمح، التي كانت تمتد حتى طريق سيدي بوزيد، وبمزيج من الشفقة والسخرية، سيشير أحدهم إلى بيت السيدة الحيزبون، سليطة اللسان وابن أختها، ستلعلع قهقهاتهم كالرصاص الغادر، الذي سيندلع في آخر هذه القصة، وهم يتحدثون عن سطول الماء، التي كانت تنهمر فوق أجسامهم، حين يعبرون من تحت الشرفة، وهي تنظف يوميا البيت، ودون أن تلقي نظرة إلى الخارج، تسكب السطل دون أن تطل، كأنما تتخلص من لعنة ما أو نحس ما.
سيفرك عينيه، وهو يحدق في الشرفة، وسيرنو إلى المرأة العجوز الجالسة هناك مشدوها، وهي تنظر إليه – بل إلى الجميع – نظرات مريبة، كأنما تدين اقتحامهم عالمها الخاص، وبلا مبرر درامي، سيقحم الشاب الثلاثيني مشهد اعتذارات متكررة؛ دائما يعتذر العسكري للجيران وللمارة بأن عقل خالته.. عقل طفل، ويؤكد لهم أن قلبها أنقى من دمع العيد، وسيعلق أحدهم ساخرا بأن هذه العمارة هي التي جعلته يتحمل جنون خالته/أمه بالتبني كل هذه السنوات، وسيقلد هذا الظريف حركته، وهو يعرج.. سيطوح برجله اليمنى في الهواء عاليا، بشكل بهلواني، لأنه لا يستطيع أن يثني ركبته اليمنى، بعد حادث قنص، وهو ينظف البندقية، وستلعلع قهقهاتهم، مرة أخرى، مثل سرب حجل أفزعه طلق ناري مفاجئ، ولأن الضحك يعدي.. ستضحك فتاة الشرفة العشرينية، وهي ترنو إلى الشاب، الذي يحاول التسلل إلى بستان قلبها، بينما سيتحسس الآخر شعره، وسيحدق في كفه، بعد أن أحس بلزوجة دافئة فوق قنة رأسه، وسيغمغم: “هذا الطائر مريض من دون شك”.
من عل، سيتلصص عليهم، سيسمع حتى حواراتهم الداخلية، سيتراجع إلى الخلف، وهو يتمطى كقط قبالة الإسفلت، متأملا الشرفة المسيجة، سيسمع السارد العليم ضجة في الجوار، من خلفه بالضبط.
سيتراجع الشاب الأربعيني إلى الخلف، سيرنو إلى البناية ذات الطوابق الثلاثة، التي سيتحدث عنها رجال تهالكت أجسامهم فوق الكراسي، كأنما يستمتعون باستراحة اليوم السابع، بعد أن فرغوا من أعمالهم:
– العسكري تبنته خالته المجنونة، لكي يؤنس وحدتها، وهو آخر من باع حقله هنا.. باع بالثمن الذي شاء. أتذكر جيداً كيف كان يتصدى لعمال شركة التجهيز ببندقيته، ليمنعهم من الاقتراب من حقل القمح.
– مسكين… هربت زوجته مع شاب صغير، بعد إعاقته..
-السياج يعيق النظر، يحول دون رؤيتها من في الخارج.
ستتعالى ضحكاتهم مرة أخرى وأخيرة، بينما سيفكر الشاب الثلاثيني في إنزال الطائر من عليائه، سيجعل الأعرج ينتقم من خيانة زوجته وسخرية الآخرين، وهم يلوكون خبز سمعته ليل نهار، سيرنو من شرفته في الطابق الأخير، مثل امبراطور مهزوم، وفي تعال غير خفي، سيغيب دقيقة خلف إطار الباب، وسيتطلع الشاب الأربعيني إلى الشرفة في دهشة، والرجل يصوب فوهة بندقيته في اتجاه رصيف المقهى، وشتائمه البذيئة تغمر المكان، وهو يأمر بناته بالدخول.
سيخرج الشاب الثلاثيني من تلك القصة، وسيطلق ساقيه للريح لاعنا من ابتكر المقاهي، سيتداخل الواقع والخيال أمام شاب في منتصف العهر، لا يصلح أن يكتب، كما لو كان نبيا بلا نبوة وبلا أتباع.. سيحدق في المرأة الحيزبون، التي ستقف أمامه، وبلا مقدمات، ستنهال بكفها على خده، بكل ما تبقى في جسمها من قوة، وهي تزمجر: “لماذا تتلصص علي من ذلك “الثقيب”؟”. في غمرة صدمته، سيحاول أن يجد تفسيرا لما سيحدث.. سيتذكر تلك النظرات المتبادلة بينهما، طيلة صبيحة صيف طازجة، وهو الساكن الجديد في الحي، في غرفة فوق سطح بيت واطئ، بعد أن سكبت سطلا من الماء القذر فوقه، وهو يمر من تحت شرفة البيت المسيجة، وهو يبحث عن حجرة للإيجار المؤقت، بعد أن وصلته دعوة لاجتياز اختبار ما، وبكل بساطة، رجل مثله مهموم بأعباء هذا الموت، الذي يعيشه الآخرون، لن ينشغل بمعرفة حكاية سطول الماء، التي تنهمر ليلا ونهارا… سيجلس، ذات ظهيرة قائظة، على كرسي منزو في مقهى أغلب رواده بدو، حتى تجف ثيابه، وستجف بسرعة بالفعل. سيحاول بعضهم أن يبسطوا له ما حدث، هكذا سيجد نفسه شخصية ضمن قصة عبثية، على الرغم من أنه لا علاقة له باليوم السابع ولا بالحنين الريفي، بيد أن ملامحه تخبئ رائحة حقول القمح، وتشي بحسرة الهاربين من حافة الحياة، لكنه لم يعرف لماذا سيطلق ساقيه للريح، والجسد الواهن للمرأة، التي لم يكن يحبها أي أحد يتهاوى أمام طاولته، غارقا في دمائه، وقد صار مثل الغربال. سيتحسس خده، بينما صدى الصفعة مازال يتردد في أذنه، ولن يستطع أن ينسى نظراتها المذعورة، وهي تطل من خلف سياج غرفة بالطابق الأرضي.
بقلم: هشام بن الشاوي