نور الدين ضرار والانتصار لشعرية الهايكو

نور الدين ضرار أحد مرجعيات الهايكو في شعرنا المغربي الحديث، إن إبداعا أو ترجمة ومواكبة للحركية الهايكوية العربية في مجملها.

يعود اطلاع شاعرنا ضرار على الهايكو كفن شعري قائم الذات عند بداية تمانينيات القرن الماضي ـ على شح مصادره ـ كما يقول، وقد كان هذا الاطلاع يدخل في إطار انفتاح الذات الشاعرة على تجارب شعرية مختلفة سعيا من الشاعر إلى تطوير آليات اشتغاله في رؤيا شعرية حداثية تخدم مشروعه الشعري الآخذ في التشكل ونحت مساره، فقرأ بنهم الشذرة أو الومضة الشعرية لكبار الشعراء كشكل شعري فلسفي عميق عند النفري والسهروردي وبات ونيتشه…. وفي المرحلة الثانية سيعمل شاعرنا على الاطلاع على الهايكو الياباني مترجما إلى الفرنسية عبر نصوص متفرقة منشورة بالمواقع الإلكترونية أو المجلات العربية هنا وهناك… وفي غــمرة هذا الاطلاع سيكلف بإعداد ملف متكامل عن الهايكو الياباني من طرف جريدة الاتحاد الاشتـــراكي، لينشر هذا الملف عبر حلقات أسبوعية بلغت أربعين حلقة بالملحق الثقافي للجريدة. وقد شكل إعداد هذا الملف في حلقاته الأربعين مادة أو نواة أولية سيبني عليها شاعرنا مشروعه الهام الذي اشتغل عليه لإعداد أول أنطولوجيا للهايكو الياباني على المستوى العربي، عبر محطاته المشرقة التي أغنت الآداب العالمية.

نور الدين ضرار في إعداده لهذه الأنطولوجيا لم يعتمد الترجمة الآلية الحرفية كما كان سائدا في أغلـــب الترجمات العربية التي اشتغلت على الهايكو الياباني، بل إنه كان دقيقا جدا في مسألتي الجملة والتركيب الشعريين، وحريصا أيضا على أن يظل النــص المترجم محافظا على حرارته ودفقه الشعري. فالترجمة هي إبداع ثان للنص الأصلي، تراعي حدود الاتصال والانفصال بين الخصوصيات الشعرية والثقافية، عبر مقاربة الروح الشعرية التي توجد بالنص المترجم… وبذلك نفهم معنى الترجمة الحقة عند نور الدين ضرار فهي عملية مسكونة بهاجس شعرية الذات في مقابل شعرية الآخر باعتمادها فن المراوحة التمويهية بين ريبة الخيانة وشيمة الوفاء… الرهان الأقوى الأقرب إلى التلاقح والتبني منه إلى الاستنـساخ والتصـادي… أقرب إلى “الدبلجة” المتوسلة بالخصائص الشعرية تركيبيا وبلاغيا وإيقاعيا لضمان التناغم مع الذائقة المستقبلة المحكومة بشروط التأصيل في آفاقه الممكنة، وتفادي السقوط الآلي في فخاخ النثرية الفجة”.(1)

وجاء عمله الأخير في الترجمة “باقات من حدائق باشو” الذي يعتبر بحق مرجعا لافتا في ترجمة نصوص الهايكـو الياباني لشعراء من عصور مختلفة مرورا بباشو وماساو وكيوتاكاهاما وآر وأسودا…

في هذا العمل ترجم نور الدين ضرار أكثر من أربع مائة نص صنفها أو أدرجها ضمن ثلاثة أبواب:

1ــ فصل الفصول

2ــ فصل الكائن

3ــ فصل الكينونة

وهذا أعتبره ذكاء خلاقا في التنظير والقراءة النقدية العميقة لفن الهايكو… اذ يجعلنا نستنتج موضوعات الهايكو الياباني التي تناولها شعراؤه عبر العصور، فليس الهايكو محدودا في الكيـــغو\ الطبيعة كما يعتقد الكثير من المنغلقين، فالمترجم صنف نصوصه المترجمة إلى ثلاثة فصول:

1ــ فصل الفصول: نصوص هذا الباب تندرج ضمن الهايكو المنحسر في الكيغو كما هو متعارف عليه بالهايكو الكلاسيكي: الخريف \ الشتاء \ الربيع \ الصيف.

2ــ فصل الكائن: وفي نصوصه يحـــتفي الهايكيست بالموجودات والكائنات حوله: فراشـــات ــ طيور ــ حشرات … وهذا هو التجديد الذي جاء به شعراء الهايكو المجددون وأبدعوا في التشينكو هايكو أو التشكارو هايكو: ماسوكا شيكي ــ بينيا ناتسويشيــ هوساي أوزاكي ــ تاكارايكي كاكو…

هؤلاء لم يتخلوا عن الهايكو في شكله ولا عن الكيرجي \ الإدهاش عند السطر الأخير… المعتمد في الكيغو، بل إنهم جددوا في الروح والمضمون بالاعتماد على التشبيه والاستعارة الخفيفة.

يقول نور الدين ضرار في حوار أجراه معه الصديق الشاعر عبد الرحيم الخصار بجريدة الأخبار اللبنانية العدد الصادر شهر دجنبر 2018:

“إن الهايكو في منشئه الياباني مع رائده باشو معروف بثبات بنيته الهندسية، غير أنه سيخضع في مراحل لاحقة لموجات من التطور عبر حساسيات شعرية متباينة وتصورات إبداعية متنوعة…”

3ــ فصل الكينونة: أي شعر أية لغة تحمينا من غواية الاستعارات والتشبيه وحضور الأنا؟؟؟

مخطئ من ظن أن على الشعر بما فيه الهايكو عليه أن يتنحى عن الاستعارات والتشبيه وحضور الأنا، من قالوا بذلك فهم واهمون… إن الشعر هو كينونة الأنا وحضورها في أبهى صفائها وتجلياتها:

“في أٍرذل العمر،

ينهشني الضجر

كذبابة يبللها المطر”

تاكارايكي كاكو(2)

هنا نرى جليا حضور المجاز(ينهشني الضجر) والتشبيه (كذبابة) للتعبير عن ذات الشاعر التي ينهشها الضجر… وقس على ذلك نصوص الفصل بكامله ــ فصل الكينونة ــ ولعل نور المترجم بهذا يريد أن يرد على هؤلاء المتحذلقين الذين لن يكونوا أكثر من اليابانيين في الدفاع عن الكيغو والهايكو الكلاسيكي، فالهايكو في جوهره شعر ولابد للشعر في كل شعريات العالم أن يتكئ على الاستعارات والتشبيهات… للتعبير عن الأنا الشاعرة.

وكأني بضرار في هذا الفصل الأخير من الكتاب يرد بالأمثلة المحسوسة على هؤلاء وينتصر لشعرية الهايكو.

هوامش

(1) الهايكو العربي وشعريات العالم \ منشورات الموكب الأدبي 2016 ــ ص223

(2) باقات من حدائق باشو | نور الدين ضرار ــ منشورات الفنك ط 2019

بقلم: مصطفى قلوشي

Related posts

Top