ارتباك كبير أحدثته مذكرة وزارة التربية الوطنية، والتي فهم منها إلغاء بعض المواد ومنها التربية الإسلامية من الامتحانات الإشهادية، بالنسبة لتلاميذ السنة الختامية للسلك الابتدائي وللسلك الثانوي إعدادي، وبعد موجة من الغضب عرفتها مواقع التواصل الاجتماعي عادت الوزارة لتستدرك، وتقصر هذا الإعفاء على فروض المراقبة المستمرة الموحدة.
بغض النظر عن ملابسات هذا القرار، والذي جاء في بيان مكتوب كعادة الوزارة، دون أي تواصل مع المواطن أو إجابة على استفساراته وتساؤلاته، فما أثارني هي موجات الغضب التي عرفتها وسائل التواصل، والتي اعتبرت القرار مؤامرة على الإسلام، ومحاولة لضرب الهوية الإسلامية، بل ذهب بعضهم بحماس إلى أن الدولة قد تراجعت عن إسلاميتها، وخالفت الفصل الثالث من الدستور، والذي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة.
غريب هذا المنطق الذي يعتبر كل حركة في الكون مؤامرة على الإسلام والمسلمين، لا يريد البعض التوقف عن ترديد هذا الغباء والبلادة، لم سيحرص العالم بأسره على التآمر على المسلمين، ما هو التهديد الذي يمثله المسلمون للعالم وما هو موقعهم في ميزان القوى حتى يتآمر عليهم الداخل والخارج؟ ولو صدقنا أن الأمر يتعلق بمؤامرة لمواجهة الإسلام فكيف نفسر شمول هذه الإجراءات لمواد أخرى كالاجتماعيات والتربية البدنية؟ هل هي مؤامرة أيضا لمحو التاريخ والجغرافيا، وتشجيع السمنة وأمراض السكر والكوليسترول؟
أما عن رأيي الشخصي في الموضوع فهو أعم من إلغاء هذه المواد من الامتحانات أو فروض المراقبة المستمرة، كل هذه المواد المعتمدة على حشو المعلومات في ذهن الطفل يجب إعادة النظر فيها، التعليم المعاصر لا يولي أهمية كبيرة للمعرفة، بقدر ما يوليها لأدوات تلقي المعرفة، الرياضيات واللغات هي أساس التعليم اليوم، لأنها تمدك بالأدوات اللازمة للتعامل مع المعلومة، والتي لم تعد المدرسة مصدرها الوحيد، وأصبحت متوفرة بكمية ضخمة في وسائل وقنوات متعددة.
حتى مادة التربية الإسلامية لابد من إعادة النظر في مضامينها وفي طرق تدريسها، لأن الدين في الأساس هو رحلة بحث وتجربة فردية، هو حالة إيمانية وروحانية، وليس كمية مشحونة من المعلومات تعطى للطفل كمسلمات، ويمارس عليه الإرهاب إذا حاول فهمها ومناقشتها، أفضل شخصيا لو أنها تحولت إلى مادة لتدريس الأخلاق والقيم، بدل إشغال التلميذ بقضايا لا تعنيه ولا تهمه في حاضره ولا في مستقبله، كما كانت قوانين الإرث سابقا ضمن دروس المادة.
بل إن رأيي شخصي يتعدى كل هذا للحديث عن دور هذه الامتحانات الإشهادية في كل الأسلاك وفي كل المواد، كيف يمكن تقييم مستوى التلميذ باختبار يجري في يوم واحد أو يومين؟، قد يفقد في ذلك اليوم استعداده النفسي، وقد يؤثر عليه الإرهاق والتوتر، بالإمكان سؤال الأطباء النفسيين عن مخلفات الامتحانات على نفسية التلاميذ، ولهذا الدول المتقدمة والتي بها أرقى نظم التعليم في العالم، ألغت الامتحانات وفروض المراقبة كليا، بل في فنلندا الرائدة عالميا في التعليم، ألغيت حتى تقييمات الأجوبة (ممتاز، حسن، مستحسن..)، ولا يعتمد إلا التقييم المستمر والمتابعة الدائمة.
موجة الغضب هذه تزامنت مع تصريح رئيس حزب صغير مضمونه أن المغرب “سينتقل من دولة إسلامية إلى دولة ليبرالية”، ومع عدم اتفاقي على هذا المذكور، إلا أنه لم يكن ليستدعي كل هذا الاهتمام ولا لكتابة كل تلك الردود، بل التوهيم بأن انهزام العدالة والتنمية يمثل خطرا على الإسلام، وكأن الحزب هو من يحمي إسلامية الدولة، ويقيها شر ما سماه الريسوني باللادينية الفرانكفونية، علما أن الإسلام استقر بالمغرب قبل ثلاثة عشر قرنا، وليس مع تأسيس “الجماعة الإسلامية” أو حتى “الشبيبة الإسلامية”.
ما نحتاج التركيز عليه اليوم، ليس هو الجدال حول مؤامرات مزعومة، ولكن نظام تعليم قوي، يراعي كل ما عرفه مجال التربية من تطورات وتغييرات، ويهيئ التلميذ لسوق الشغل، ويعمل على تحصين العقل وتربيته على النقد والسؤال، وتعزيز الهوية الوطنية، وقيم التعددية والتنوع والاختلاف، هذا ما نطالب به الحكومة الجديدة، أما المعارك الإيديولوجية، فقد انتهى زمنها في عصر العولمة وانفجار المعلومة.
< بقلم: د. محمد عبد الوهاب رفيقي