> بقلم: محمد الفران
كثيرا من الأحيان ما نتساءل هل فعلا يمكن اعتبار المغرب نموذجا للتعايش والتسامح بين الأديان واحترام الأقليات التي تعيش على أرضه؟ أجل لقد حمى المغفور له محمد الخامس اليهود من بطش النازية، وقبله حمى جده سيدي محمد بنعبد الله مواطنا يهوديا مغربيا، ولم يرد تسليمه للإسبانيين رغم إلحاحهم وضغطهم بل وتهديديهم أيضا، لحد أن استصدر فتوى من علماء القرويين تلزمه بحمايته وإن أدى الأمر إلى مواجهة الإسبان إذ من حقه على المسلمين حمايته وحفظ حقوقه وروحه. ومع المسيحيين أهدى المولى الحسن الأول أرضا بطنجة للكنيسة الانجليكية واستقبل الحسن الثاني البابا يوحنا بولس الثاني ودعا إلى حوار الأديان وتعايشها. فهل هذه الأعمال أصل في تقاليدنا، وسلوك طبيعي وعريق في شخصيتنا وهويتنا وشكل ممارسة إسلامنا المغربي ورثناها جيلا يعد جيل وحمل مشعلها ولاة أمورنا بإيمان وقناعة ومسؤولية ؟.
لابد من الاعتراف أولا أنه ليس من قبيل المبالغة أو التزيد القول إن مراكش الحمراء شكلت على مر العصور مركزا هاما للتسامح الديني والتعايش الحضاري وجدت فيه الأقليات الدينية اليهودية والمسيحية أرضا آمنة لممارسة شعائرها وإشهار معتقداتها دون خوف أو وجل. ولأمر ما سميت بأرض الآلهة حسب ما يدل على ذلك اسمها الأمازيغي. ويتجسد ذلك بجلاء من خلال مظهرين اثنين:
< الأول التسامح الديني الذي جعل مدينة مراكش تحتضن في العهد المرابطي حيا وكنيسة للنصارى الأوروبيين المستخدمين لديهم، بل تطور الأمر بعد ذلك عند الموحدين، رغم ما يقال عنهم، إلى إنشاء أسقفية كبيرة في المدينة الحمراء.
< والثاني يتجسد في التعايش الحضاري الذي يعتبر من خلاله ابن رشد فيلسوف مراكش وحكيمها صورته المثلى ونموذجه اللامع.
لقد تجسد التسامح والتعايش مع الأقليات الدينية في أكمل صوره وأتمها بين المسلمين واليهود المسيحيين الأوروبيين ليس فقط على المستوى السياسي والعسكري الذي عادة ما يكون بيد الحكام بل أيضا على المستوى الاجتماعي بما يمثله من علماء وفقهاء وتجار ورحالة في ذلك العهد.
فعلى المستوى السياسي يجمع المؤرخون على التسامح الديني الذي أظهره المسلمون اتجاه المسيحيين الأروبيين في شبه الجزيرة الإيبيرية طوال العهود الممتدة من الفتح الإسلامي إلى عصر الطوائف إذ لم يحظ «أي شعب مغلوب في أي قطر من الأرض (…) بما حظي به الشعب الإسباني إبان حكم المسلمين من تسامح تجلى في تطبيق العهود والقوانين الإسلامية التي أعطت لأهل الكتاب حقوقا كاملة في العيش الكريم».
)Henri Pères ;La Poésie Andalouse en arabe classique au XI siècle, Paris, 1937,p274(
وتخبرنا كتب التاريخ أن اليهود الأوروبيين الذين كانوا يستوطنون شبه الجزيرة الأيبيرية، سعوا جاهدين لدخول المسلمين إلى الأندلس على يد القائد المغربي طارق بن زياد، بل تسابقوا للانضمام إلى جيش المسلمين. وهذا هو السر الذي جعل ملوك الطوائف فيما بعد، يتخذون من اليهود وزراء وأعوانا، ويكلفونهم بالحسابات والجبايات لكفاءاتهم ومعرفتهم بأمور المال والأعمال والسفارات أيضا، فبنو النغريلة في البلاط الزيري بغرناطة، وبنو حسداي في الإمارة الهودية بسرقسطة، وإمارة بني رزين في السهلة.
ومن مظاهر احترام الأقليات الدينية في الغرب الإسلامي، تسامح وتعايش الأمراء والحكام في الأندلس معهم لحد أنهم قبلوا تعطيل الدواوين الحكومية يوم الأحد، وأغلقوا الدوائر العامة والحوانيت، نزولا عند رغبة الأطباء والكتاب المسيحيين الأوروبيين المستخدمين لديهم. يذكر لنا أبو حيان أن «أول من سن لكتاب السلطان وأهل الخدمة تعطيل الخدمة في يوم الأحد من الأسبوع، والتخلف عن حضور قصره، قومس بن أنتيان، كاتب الرسائل للأمير محمد، وكان نصرانيا دعا إلى ذلك لنسكه فيه، فتبعه جميع الكتاب طلبا للاستراحة من تعبهم والنظر في أمورهم» (ابن حيان، المقتبس، تحقيق محمود مكي، بيروت 1972، ص 138).
وفي العهد المرابطي عرف المغرب تجمعات مسيحية أوروبية، خصوصا في مدينة مراكش التي اضطلعت فيها الحمايات المسيحية بدور الحرس الأميري، ووصل عددها على حد ما ذكر صاحب الحلل الموشية إلى أربعة آلاف (ص 131 أما الكنيسة فكانت تدعى Saint-Analtie). كما استقرت في فاس ومكناس وسلا جاليات مسيحية أوروبية بلغت في مكناس وحدها أزيد من ثلاثة آلاف (الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، ط الرباط 1980، ج1 ص 201) وأيضا ابن عذاري، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق مجموعة من الأساتذة، ط 1985، دار الغرب الإسلامي، بيروت ص 24).
ولعل هذا ما جعل المرابطين يسمحون لهؤلاء المسيحيين بتشييد الكنائس في المناطق التي استقروا بها على حد ما يفهم من فتوى القاضي المرابطي الفقيه ابن الحاج والتي أوردها الونشريسي في المعيار (الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل افريقيا والأندلس والمغرب، تحقيق محمد حجي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمملكة المغربية 1981، دار الغرب الإسلامي ج2 ص 215).كما ذكر كل من البكري والحميري وجود كنيسة مسيحية في تلمسان حوالي منتصف القرن الخامس وأخرى في سبتة أيضا. (ينظر في هذا الصدد البكري، المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب، تحقيق دي سلان، باريس/الجزائر 1965 ص76 وكذلك الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق إحسان عباس، ط بيروت 1981، دار الغرب الإسلامي،ج2 ص215،241)
كما برز لجوء بعض الأمراء والنبلاء والقادة المسيحيين الأوروبيين إلى البلاط الموحدي والمريني أيضا (ينظر القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ط القاهرة، ج6 ص434،439) ، بل لقد ذهب الموحدون أبعد من ذلك حين سمحوا بإنشاء أسقفية في مراكش عاصمة الامبراطورية آنذاك. أما السفارات بين الخلفاء الموحدين وبين الباباوات فكانت شيئا معروفا جار به العمل. ولعل أكبر دليل على ذلك الرسائل المتبادلة بين الخليفة المرتضي والبابا Innocent والتي تميزت بلياقة أسلوبها ورقي تعاملها، ومحافظتها على شروط اللباقة والدبلوماسية في الخطاب، كما تميزت بتسامح ديني لا مثيل له. لقد خاطب الخليفة المرتضى البابا Innocent الرابع في إحدى رسائله بقوله: «ومتى سنح، لكم أسعدكم الله تعالى بتقواه أن توجهوا لهؤلاء النصارى المستخدمين ببلاد الموحدين أعزهم الله، من ترونه برسم ما يصلحهم في دينهم، ويجريهم على مقتضى قوانينهم، فتخيروه من أهل العقل الراجح، والسمت الحسن، وممن سلك في النزاهة على واضح السنن». ويختم رسالته عند تحديد المكتوب إليه بقوله: «إلى مطاع ملوك النصرانية، ومعَظم عظماء الأمة الرومية، وقيم الملة المسيحية، ووارث رياستها الدينية البابا اينوسونس أنار الله تعالى بصيرته بالتوفيق والإرشاد ومنحه بتقواه سعادة المحيى والمعاد» (نشرت هذه الرسالة لأول مرة بمجلة هسبريس 1926، الفصل الرابع بنصها العربي مع الترجمة والتعاليق من الصفحة 26 إلى الصفحة 53، وقام بهذا العمل كل من الأستاذين G. Wait و E. Tesserant)
لقد أدى هذا التساكن والتعايش إلى مشاركة عامة مسلمي المغرب والأندلس المسيحيين في أعيادهم والطقوس الاجتماعية المعمول بها في تلك الأعياد، حيث كانوا يتبادلون فيما بينهم مختلف أنواع الهدايا من حلي وتحف نفيسة (أحمد المختار العبادي «الأعياد في مملكة غرناطة» صحيفة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد 1980 ص140). ومن أهم الأعياد التي كان يحتفل بها عيد العنصرة أو عيد سان خوان.
كما أنه من المعروف تاريخيا أيضا أن أهل الأندلس وسبتة وطنجة كانوا يحتفلون بأعياد راس السنة الميلادية وبالأخص الليلة التي تسبق العام الجديد، وكانوا يسمونها ليلة العجوز أو الحجوز وهو ما حذا بالعزفيين إلى الاحتفاء بعيد المولد النبوي على غرار الاحتفال برأس السنة الميلادية والتشابه بين الطقوس لا يخفى على ملاحظ. كما احتفل المغارية أيضا بخميس العهد أو خميس أبريل وكانوا يتناولون فيه المجبنات الحارة (ابن سعيد، اختصار القدح المعلى في التاريخ المحلى، تحقيق إبراهم الأبياري 1980 ص156).
كما تذكر كتب التاريخ أن الخليفة المنتصر أعطى لجماعة من رهبان الثغور الأرغونية الحق في استغلال المراعي الإسلامية، وكتب لهم بذلك ظهيرا جاء فيه: «هذا ظهير كريم (…) أباح به لماشيتهم والقائمين عليها أن يذادوا في بلاد المسلمين في زمن حرب أو سلم (…) ولا يتعرض أحد من المسلمين لتنغيص إناختها (أي الماشية) فمن وقف عليه فليمتثل حده»(مجلة كلية الآداب تونس «دفاتر تونس» المجلد الثامن عشر عدد69-70 سنة 1970 ص69-90).
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل وصل إلى درجة عالية من التعايش والتسامح بين المسلمين واليهود والمسيحيين، تجسدت في ذلك الجدل الديني الذي كان يحصل من حين لآخر لدى فقهاء الإسلام ورهبان النصارى وأحبار اليهود. ويعتبر ابن حزم الذي كان يعرف اللغة اللاتينية حق المعرفة أشهر هذه الأمثلة وأقدمها. لقد كانت له مع نصارى ويهود شبه الجزيرة الإيبيرية «مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة وله مصنفات في ذلك معروفة على حد تعبير المؤرخ ابن حيان (ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1979، ج1 ص143، ومن ذلك رده على النغريلة وردوده التي يشتمل عليها كتابه الفصل ).
وفي هذا العصر أيضا كتب أبو الوليد الباجي معاصر ابن حزم ومناظره، جوابا على رسالة وجهها راهب فرنسي إلى المقتدر بالله صاحب سرقسطة، وقد لقيت هذه الرسالة وجوابها إقبالا من لدن الدارسين، لأنهما تعكسان صورة ذلك التسامح الديني الذي تجاوز حدود الأندلس.
وفي حوالي منتصف القرن السادس الهجري ألف الفقيه المحدث أحمد بن عبد الصمد الخزرجي القرطبي كتابه المسمى «مقامع هامات الصلبان ورواتع رياض الإيمان» رد فيه على بعض القساوسة، وقد ألفه لما كان أسيرا في طليطلة ما بين 524 و549، وقد انتهى المطاف بهذا الفقيه المحدث في مدينة فاس المغربية حيث التزم «إسماع الحديث والتكلم على معانيه بجامع القرويين» (ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة لكتاب الموصول والصلة، تحقيق محمد بنشريفة، الرباط 1984نج1ص240)
وفي الاتجاه نفسه أورد الونشريسي في كتابه المعيار ج11، ص155 نص مناظرة جرت بمدينة مرسية في منتصف القرن السابع الهجري بين الفقيه أبي علي الحسين بن رشيق والراهب رايمون مارتان الذي أقام مدة طويلة بمدينة مراكش وإليه ينسب القاموس العربي اللاتيني المعروف. لقد كان الراهب مارتان «فصيح اللسان مدركا للكلام معتدلا في المناظرة» على حد ما وصفه به مناظره ابن رشيق.
وبلغ التسامح والتعايش أوجه مع المتصوفة الذين عرفوا في بلادنا ما لم تعرفه أي منطقة أخرى فقال قائلهم:
لقد صار قلبي قابلا كـل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبـان
وبيت لأوثان وكعبة طائــف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهـت
ركائبه فالحب ديني وإيمــاني
(ابن عربي حامل لواء التصوف في الغرب الإسلامي واستقر بفاس ردحا من الزمن)