“وادي اللبن” عبد اللطيف محفوظ ينصف التاريخ المنسي لتيسة من خلال الرواية

خلقت رواية “وادي اللبن” لكاتبها عبد اللطيف محفوظ، الجدل بحديثها عن التاريخ المنسي لمنطقة تيسة ضواحي مدينة فاس، ذلك أنه على الرغم من المعارك المتعددة التي شهدتها المنطقة لم تحظ من قبل التاريخ الرسمي بذكر يوازي أهميتها ، ولا أدل على ذلك من إغفال الاهتمام بمعركة وادي اللبن قياسا إلى الاهتمام الذي حظت به معركة وادي المخازن.
يمكن عد كتابة رواية “وادي اللبن”، كتابة عن منطقة هامشية، وعن تاريخ مهمش. ومن الواضح أن كل كتابة عن المهمش والمنسي تتطلب جهدا يتمثل في البحث والتركيب وتحليل معطيات التاريخ العام الذي يهم عموم الوطن؛ كما من الواضح – في غياب معلومات مضبوطة من مصادر موثوقة بهذا الشأن- أن اللجوء إلى العمل الروائي والسرد التخييلي كان الخيار الأنسب للروائي، حتى يعيد بناء التاريخ تخييليا.
بعيدا عن الأحكام الجاهزة، والاندفاع الزائد، قدم عبد اللطيف محفوظ رواية “وادي اللبن” بشكل يحترم ذكاء القارئ والمتلقي في تتبع متسلسل للأحداث، التي ستؤول في الأخير إلى محاكمة التاريخ على إهمال ما شهدته مناطق شتى لم تكن مركزا، ومن بينها منطقة تيسة التي كانت ميدانا لعدد من المعارك أهمها معركة وادي اللبن ضد العثمانيين سنة 1558.
انتقل عبد اللطيف محفوظ من النقد السيميائي إلى العمل الروائي، تقنيا فقط، ذلك أن مشروعه النظري السيميائي سيمتد إلى الإنتاج التخييلي الأدبي أيضا، وهو ما سيقف عنده القارئ لرواية “وادي اللبن”، الصادرة عن دار الفاصلة للنشر، بطنجة، سنة 2021.
أعادت “وادي اللبن” عبد اللطيف محفوظ، إلى مسقط رأس والدته، التي ارتأى أن يكرم روحها بعمل روائي، يتحدث عن التاريخ المسكوت عنه، والمنسي، والمهمش لبلدتها تيسة التي تقع على بعد 40 كلم شمال شرق فاس.
قليلة هي المصادر والمراجع التاريخية التي تتحدث عن تيسة، التي كان لها دور كبير على مر التاريخ، لا سيما وأنها ظلت حصنا منيعا في وجه الغزاة الذين بحثوا في كل حقبة عن الدخول إلى العاصمة فاس ثوارا أو غزاة بهدف السيطرة على البلاد.
شهدت تيسة بحسب رواية “وادي اللبن”، حروبا ضارية يصل عددها إلى سبعة معارك دامية، راح ضحيتها الكثير من الجنود وسكان المنطقة، ذلك أن وادي اللبن أصبح مع هذه المعارك وادا تجري فيه دماء المحاربين الذين كانوا يناصرون كل ثائر أو متمرد، اعتقادا منهم بأنه يدافع عن شرعية ما أو عن حق منتهك. حتى إذا ما بدا لهم زيف ادعائهم انقلبوا عليهم وحاربوهم.
من المؤكد، بالرجوع إلى ما توفره كتب التاريخ، أن رحلة الكتابة روائيا عن ذاكرة تيسة خاصة والمنطقة الفاصلة بين فاس وتازة عامة – وما يدخل ضمن نفودها مثل ممر تازة، والحوض الإيناوني – لم تكن سهلة نظرا لندرة الوثائق التاريخية عن هذه المنطقة، التي لم يوليها التاريخ الرسمي أهمية حيث يبدو أن كمال بطل الرواية تجشم عناء البحث والتقصي شفاهيا في البداية، استنادا إلى الحكايات الشعبية الرائجة والمتناقلة بين أبناء المنطقة وساكنتها، قبل أن يلجأ إلى كتب التاريخ التي ذكرت المنطقة، والتي لم تكن كافية، لأنها تضم شذرات متقطعة ليس إلا، إلى جانب تضارب معلوماتها التاريخية حول تيسة.

التخييل الروائي

وقد انعكست هذه الحقيقة الواقعية على التخييل الروائي الشيء الذي أدى إلى رغبة السارد كمال في أن يمزق الأوراق التي دونها عن المنطقة، ويدفن قصة الكتابة عن تيسة، بفعل ضعف المعلومات المنشورة وتضاربها، لكنه لم يستسلم، ولجأ إلى المنهج السيميائي في تفكيك الحكاية وإعادة تركيبها من جديد، معتمدا على ما حكاه له أفراد العائلة والأصدقاء والجيران بالمنطقة، وإلى ما توصل إليه من الأبحاث التاريخية.
وبتجاوز المستوى التخييلي إلى الواقعي يبدو أن الكاتب قد استطاع في الأخير إخراج “وادي اللبن” إلى الوجود، بفضل استغلاله التأويل السيميائي في الكشف عن خلفيات الأحداث ومعاني الأمكنة، وقد ساعده في ذلك التأمل في بعض التفاصيل الصغيرة التي كانت حاسمة في سبر أغوار تاريخ المنطقة المجهول بتضارب معلوماته.
اختار السارد كمال تيمة الموت كبداية ونهاية لروايته، فالانطلاق كان بوفاة خاله، وإسدال الستار على أحداث الرواية كان بحضوره جنازة دفن أغراب (عبد الله المهياوي)، الذي كان من أوحى للسارد بالبحث عن صدق أو زيف حكاية تزعم أن لسلالة المهياوي هدية سلطانية، وهي الحكاية التي توحي بكونها تضمر الإشارة إلى مجد ما تحقق في عصر ما، ولما فشل السارد في الوقوع على ما يثبت أو ينفي تحقق الحكاية، وأراد الالتقاء مجددا بأغراب بغية المزيد من الإرشادات وجده قد مات.
في بحثه عن حقيقة حكاية التاج أو الوسام المفقود الذي تحدث عنه كل من أغراب ومحمد الفراط، ظل السارد يقدم سلسلة من المواقف الفكرية والنقدية التي تهم الحياة اليومية للمغاربة أو الثقافية (عدم استخدام الهاتف في الليل، الرشوة، السرعة أثناء السياقة..).
ولم تخل الرواية من وصف الأمكنة الكبرى والصغرى، حيث توسل بالسفر ليصف بعض المدن والقرى، وتوسل بالتجوال في مدينة فاس لوصف بعض شوارعها وأزقتها في العهدين الحالي والماضي المحاقب لزمن طفولته، ولمزيد من الإيهام بالواقعية التي يبدو أن الكاتب كان مصرا عليها جعل كمالا يتحدد ليس بعمله وفكره وحسب، ولكن بذوقه الفني أيضا.
ليست الرواية بحثا في تاريخ منطقة مهمشة وحسب، وإنما هي بحث في حقائق تهم القيم واللغة والتدبير، وشكل الحياة في عصور مختلفة، كما تهم ما يحكم التصور الاجتماعي للسلطة والأخلاق والامتثال لتوجيهات العقيدة…
“..كانوا شديدي الثقة بمن يدعي نصرة الدين ومحاربة المحتلين والكفار، وأنهم لا يشاركون في معركة إلا إذا أقنعهم من يدعي الشرعية بأيديولوجيته المدعمة بالأحكام الدينية ومزاعم المظلومية؛ وأن أغلب من ناصروهم كانوا من سلالات الحاكمين، أو ممن زعموا ذلك، من ثورة الناصر السعدي إلى بوحمارة المدعي، وأنهم كلما وجدوا من يفك الرمزية عن المدعين انقلبوا ضدهم. فالتاريخ يثبت أنهم حاربوا في النهاية كل من ناصروه في البداية، وأهمهم بوحمارة”. ص 176
وعملت الرواية على تشخيص تلك القيم التي كانت تزخر بها الهوامش المنسية بأشكال مختلفة واستعارات متنوعة من بينها وصف الرواية للتآزر الاجتماعي أثناء أوقات الشدة والأزمات، مثل تشخيص شكل التضامن (تويزة) مع أهل الفراط بعد فقدان منزلهم بفعل الفيضان الذي شهده وادي اللبن، وتشخيص التآزر المعنوي خلال لحظات الفقد مثل وصف الرواية الحضور المكثف أثناء تشييع الأموات في الجنازات…

التحليل السيميائي

ولا تخفي الرواية في بعض فصولها الأكثر مباشرية نزوع الكاتب إلى التحليل السيميائي للمعطيات التاريخية المتفرقة في الكتب بحيث تصير بعض فقراتها كما لو كانت فقرات في كتاب سياسي يعيد تفسير تاريخ المنطقة “كانت دائما ميدان قتال للاستيلاء على فاس التي كانت على مر التاريخ عاصمة الدولة، أو على الأقل عاصمة الشمال، وتبينت أخيرا لغز صمت الدولة عن إحياء ذكرى معركة وادي اللبن. بدا لي ذلك عائدا إلى التباس التسمية بين معركة الغالب المظفرة ومعركتي المولى عبد العزيز ثم المولى عبد الحفيظ ضد بوحمارة، فكلها عرفت بمعارك وادي اللبن، ووقعت بنفس المكان “ضواحي تيسة” قرب حي المهاية، ولعل الاشتراك في الاسم جعل المخزن الذي وحده يهتم بالتاريخ، ويعقله، قد تجاوز الاحتفاء بصد الأتراك، واهتم بمعركة وادي المخازن، على الرغم من كون الأولى كانت حربا مغربية ضد محتل خارجي، بينما الثانية كانت حربا داخلية بين أبناء نفس الأسرة السعدية الحاكمة، بين السلطان عبد الملك السعدي الذي استولى على العرش مدعوما بجيش الأتراك، في إحدى معارك وادي اللبن أيضا، وبين ابن أخيه السلطان محمد المتوكل الذي استنجد بالبرتغاليين بعد أن وعدهم بالتخلي عن الشواطئ المغربية. وهو الملك الشهير بالمسلوخ بعد الجزاء الذي ناله من عمه أحمد المنصور الذهبي الذي اعتلى العرش بعد المعركة”. رواية وادي اللبن، صص 174-175.
ويستشف من تجربة كمال أن الباحث عن دحض التاريخ الرسمي وما يتناقل في الحكايات الشفاهية ليس بالأمر اليسير، لعدة اعتبارات أبرزها غياب المعلومة والوثائق، والاختلافات الحاصلة بين المؤرخين في توثيق الأحداث والأسماء..”تحولت المتعة، شيئا فشيئا، إلى حيرة، والسعادة بالمعرفة إلى تعاسة الخيبة؛ فقد كانت المعلومات مختلفة من مؤرخ لآخر، وكانت الأحداث متداخلة غير مرتبة، والأخبار مقتضبة، والقبائل بأسماء مختلفة ومواطن ملتبسة، ناهيك عن صورة باهتة للعقل..”. ص 142
تبدو “وادي اللبن”، وفق تأويل إيديولوجي، دعوة للمؤرخين والباحثين للاهتمام بالتاريخ المنسي لتيسة التي كانت شاهدة على أهم الأحداث التي عرفتها مدينة فاس، بدل اعتبارها هامشا من هوامش المدينة التي لم تلعب دورا كبيرا في الاستقرار السياسي والعسكري والاقتصادي للمنطقة.
ومن ثمة يمكننا عدها، بعيدا عن البعد الجمالي والتخييلي الذي هو مناط قيمتها، مرافعة تاريخية لإنصاف تيسة، في غياب كتب ودراسات خاصة بها. إنها تبدو، وفق المنطق نفسه نصا تحريضيا على إعادة اهتمام المؤرخين بتاريخ الهوامش وعلى استخدام معارف حادثة في البحث. إنها باختصار تقدم نموذجا جماليا لإعادة الاعتبار للتاريخ المنسي والمكان المهمش عن طريق التخييل الذي يتوسل التحليل ولغة الحياة المنفتحة على سجلات مختلفة…
ولعل ذلك ما جعلها، على الرغم كونها قد صدرت قبل أشهر فقط، تحظى باهتمام استثنائي من قبل القراء المعنيين بالتاريخ خصوصا، وتثير نقاشا ثقافيا في صفوف النقاد والباحثين والدارسين الذين اهتموا بما طرحته من القضايا التاريخية والفكرية والاجتماعية والأدبية تخييليا.
وكانت مهمة كمال معقدة في الوصول إلى استنتاج نهائي من رحلة البحث التي انتهت إلى التشظي والضياع والخيبة والتشاؤم، بفعل التشويه والتحريف الذي تعرض له تاريخ المنطقة، ومن ثم فالبرامج السردية التي بناها كمال طيلة الحكاية كانت تنهار تباعا، ليلجأ في الأخير إلى التخييل الروائي كمدخل للكتابة عن تيسة.
ولقد تعاطت رواية “وادي اللبن” مع ذاكرة تيسة بنوع من النقد القاسي والتحليل الدقيق لكل المعلومات التي توصل إليها كمال في بحثه عن الهوية والتراث والحكايات والتاريخ الظاهر والمستتر منه.
وبحثا عن تاريخ تيسة، اهتدى كمال الأستاذ الجامعي إلى “الكتب التالية: “تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية”، لمؤلف مجهول، وكتاب “القرطاس” لابن زرع، وكتاب “مناهل الصفا في تاريخ أسيادنا الشرفا” للفشتالي، و”محاضرات اليوسي”، و”نفح الطيب” للمقري، وأجزاء من كتاب ابن خلدون، و”الذخيرة”، و”الاستقصا” وغيرها”. ص 142
ومن أبرز ما نستنتجه من قراءات في رواية “وادي اللبن”، أن السرد حين يتعامل بذكاء مع التاريخ ويخضعه لمقاصده الجمالية، يتيح التعبير بحرية عما تعجز عنه كتابات أخرى.

بقلم: يوسف الخيدر

Related posts

Top