وجوه فنية راسخة في القلوب والذاكرة – الحلقة 13-

 يضرب المغاربة منذ سنوات طويلة، موعدا خاصا واستثنائيا خلال شهر رمضان الأبرك، مع وجوه فنية مميزة ومتألقة تضفي طابعا خاصا على مائدة الإفطار العائلي، وتزيد من قوة الطابع الاستثنائي لهذا الشهر الفضيل، سواء عبر الشاشة من خلال الوصلات الفنية المتنوعة طيلة اليوم، أو عبر المواعيد المباشرة مع جمهور الركح أو السينما أو الحفلات…
وتتميز الساحة الفنية المغربية بصعود أسماء جديدة بشكل متواصل، إلا أن هناك وجوها فنية خاصة ألفها المغاربة وأصبح غيابها عن الساحة بشكل عام وخلال الشهر الفضيل بشكل خاص، يشعرهم بفجوة في أجواء رمضان.
ورغم أن الأسماء الجديدة منها ما تميز وأبدع ووصل إلى قلوب المغاربة، إلا أنه من الصعب جدا تعويض الوجوه التي كبر وترعرع معها جيل من المغاربة وشكلت جزءا كبيرا من ذكرياتهم، حيث إنه في الأخير يبقى للجيل الجديد دوره ومكانته في إغناء الساحة، لكن ما من أحدهم قد يعوض آخر أو يحتل مكانته، خاصة في الذاكرة والقلوب.
وحيث إننا نضرب موعدا خلال هذا الشهر الكريم مع إبداعات فنية متنوعة سواء عبر الشاشة أو المسرح والسينما وغيرهما، يساهم فيها خليط من أجيال متعددة، سنستغل هذه المناسبة بجريدة بيان اليوم، لنستحضر عددا من الوجوه الفنية المغربية التي غادرتنا إلى دار البقاء في مجالات التمثيل والغناء التمثيل والإخراج، التي بصمت الساحة الفنية الوطنية بعطاءات ظلت شاهدة على تفرد موهبتها، التي رسختها في سجل تاريخ الفن بالمغرب والعالم بمداد من ذهب.

الراحل حسن الصقلي.. من الرعيل الأول للممثلين المغاربة.. كرس أزيد من نصف قرن في ممارسة مهنة التمثيل

فقدت الساحة الفنية المغربية، في الثامن والعشرين من شهر غشت عام 2008، بمدينة الرباط، عن عمر ناهز 77 عاما، الممثل المغربي حسن الصقلي الذي يعد من الرواد المؤسسين للحركة السينمائية المغربية حيث شارك في أول فيلم مغربي عقب الاستقلال.

فهو كممثل اشتغل في المجال المسرحي والسينمائي والتلفزيوني، ومعه الكثير من الرواد الآخرون مثل محمد حسن الجندي والطيب الصديقي والعربي الدغمي وفاطمة بنمزيان وصفية الزياني وحمادي عمور، وغيرهم ممن اشتغلوا في ظروف قاسية وصعبة فأبدعوا. رحل إلى دار البقاء بعد أن تحسنت الأوضاع نسبيا للعمل في المجال الفني عموما، سواء من حيث الدعم المخصص للإنتاجات الوطنية، أو من حيث عقود العمل للممثلين وكل العاملين في القطاع.

الراحل حسن الصقلي فنان متعدد المواهب، وهو من المبدعين القلائل في مجال التشخيص ونجوم السينما والمسرح والتلفزيون، وتألق في الكثير من الأعمال الوطنية والعالمية؛ ولد بمدينة الدار البيضاء سنة 1931، وتوفي بأحد مستشفيات العاصمة الرباط، وذلك بعد مضاعفات مرضية لم ينفع معها علاج.

تجربة هذا الفنان أهلته لتكريمه في الكثير من المناسبات الوطنية والدولية تقديرا لجهوده الفنية الكبيرة في إرساء فعل سينمائي راق، وتقديرا لتطويره مجال التشخيص سواء من خلال أدائه البارع وظهوره المشرف في الكثير من الأعمال السينمائية والمسرحية والتلفزيونية، فضلا عن تأطيره وتوجيهاته في عدد من اللقاءت المفتوحة، سواء مع الطلبة أو السينمائيين الشباب، خاصة في المهرجانات التي كان يحضرها داخل المغرب وخارجه.

عمل الراحل حسن الصقلي على إخصاب المجال السينمائي لأكثر من خمسين عاما، مما جعل هذا الفنان الموهوب أحد صناع المتعة البصرية والفرجة السينمائية منذ استقلال المغرب سنة 1956، وهي السنة التي شكلت انطلاقته الحقيقية خاصة في المجال المسرحي والتلفزيوني، وحصوله في العام نفسه على شهادة الكفاءة والاستحقاق الفني من إدارة المسرح الوطني محمد الخامس بالعاصمة الرباط، وهي الشهادة التي فتحت له أبواب النجومية والتألق بعد ظهوره في الكثير من الأعمال الدولية، خاصة في بدايته الفنية الأولى في فيلم “إبراهيم” لمخرجه الفرنسي دجان فلاشيت الذي شارك به المغرب في المهرجان الدولي للسينما ببرلين الألمانية.

وساهم الراحل الذي كان من الفنانين المناضلين، والذي دافع عن حقوق نظرائه في المجال السينمائي والمسرحي والتلفزيوني عموما، بشكل كبير في إذكاء الوعي الجماعي للفن العادل لدى الفنانين بهدف تحسين ظروف عيش الممارسين المادية والمعنوية، والحيلولة دون اشتغالهم بطريقة عشوائية تضيع معها الكثير من الحقوق والمطالب المستحقة… حيث بادر، في منتصف التسعينات، إلى تأسيس “الغرفة المغربية للممثلين”، قبل أن يلتحق بالنقابة الوطنية لمحترفي المسرح.

ويرجع تألق الراحل الصقلي في بداية مشواره الفني بالأساس إلى إتقانه جيدا للغتين العربية والفرنسية، وهو ما ساعده كثيرا في أداء الأدوار التي أوكلت له وطنية وأجنبية، وفتح له المجال للظهور في أعمال دولية جديدة مثل “الرجال الزرق” سنة 1560 لآدموند أكابرا وماركو فايرير من إيطاليا، و”أولاد الشمس” في بداية الستينيات للفرنسي جاك صيفراك، ثم الفيلم التاريخي الشهير “الرسالة” للمخرج الراحل مصطفى العقاد.

إن الراحل حسن الصقلي الذي شارك في أول فيلم تلفزيوني مصور بعنوان “نعيمة” سنة 1963؛ هو فنان له مواهب كثيرة، حيث عمل ممثلا وكاتب سيناريو ومخرجا، كما كان من نجوم كرة القدم في زمنه، وعازفا على آلة العود وشاعرا، وهو ما جعل من ثقافته الواسعة مهمازا حقيقيا لنجاحه وتألقه في مختلف الأدوار التمثيلية التي أسندت له، سواء على مستوى السينما أو التلفزيون أو المسرح، خاصة مع الطيب الصديقي والطيب لعلج والعربي الدغمي وعبد الرزاق حكم، وغيرهم من الرعيل الأول للممثلين المغاربة.

ويحتفظ المغاربة وعشاق الفن بالكثير من الأعمال التي برز فيها الراحل حسن الصقلي، وأبان فيها عن علوّ كعبه في مجال التشخيص، وكان المخرج المغربي حسن بنجلون يعتمد عليه كثيرا في أعماله السينمائية، حيث أسند له أدوارا مهمة في العديد من أفلامه منها “أصدقاء الأمس” و”يا ريت” في بداية التسعينيات، و”محاكمة امرأة”، ثم فيلم “فين ماشي يا موشي” الذي يحكي قصة هجرة اليهود المغاربة إلى فلسطين إبان الرحلة الكبرى لليهود في العالم إلى أرض الميعاد، وهو ما يبرز أن الصقلي كان قريبا من رؤية أحلام حسن بنجلون الإخراجية، خاصة على مستوى طرح القضايا الإنسانية والاجتماعية والكونية، وهو الأمر الذي كان يتفاعل معه الراحل ويتقنه بشكل كبير بالنظر إلى حسه النضالي والحقوقي والوقوف إلى جانب القضايا الإنسانية والاجتماعية.

ونظرا لتألق حسن الصقلي في الكثير من الأعمال المغربية والدولية، فقد جعل الكثير من المخرجين يتهافتون عليه للاشتغال في أعمالهم الجديدة، حيث تألق الصقلي في أفلام عديدة منها “عود الريح” لمخرجه لحسن زينون، ثم “قصة وردة” لعبد المجيد الرشيش، و”جارات أبي موسى” لمحمد عبد الرحمن التازي، وهو الفيلم المقتبس عن رواية الكاتب أحمد التوفيق، وهو فيلم تاريخي بمسحة ثقافية وإبداعية مشوقة.

وتبرز قيمة حسن الصقلي في التشخيص ليس فقط على الشاشة الكبرى، بل حتى على الشاشة الفضية، وذلك من خلال ظهوره الوازن والملفت في مسلسلات مغربية وعربية منها “صقر قريش” للمخرج السوري حاتم علي الذي جسد فيه دور عبيد الله بن عثمان، إضافة إلى “سرب الحمام” للمخرج المغربي محمد عاطفي الذي شكل نقلة نوعية في المشهد التلفزيوني المغربي خلال نهاية التسعينيات.

تألق الصقلي رفقة عدد من النجوم أمثال المخرج والممثل رشيد الوالي ومحمد خويي وسعاد صابر وسعيدة بعدي، والراحلين محمد مجد ومحمد بسطاوي، فضلا عن أفلام لا يزال الجمهور يتذكرها بقوة مثل فيلم “أوشتام” لمحمد إسماعيل و”النظرة” لنور الدين الخماري، و”الإسلام يا سلام” لسعد الشرايبي، والفيلم السينمائي “الميمات الثلاث.. قصة ناقصة”، والذي يتحدث عن قيم التسامح بين الديانات الثلاث المسيحية واليهودية والإسلام.

إن مشاركة حسن الصقلي في الفيلم العالمي “الرسالة” يظل الأبرز في تجربته، وذلك من خلال أدائه الموفق إلى جانب عدد من نجوم السينما والدراما العربية أمثال عبد الله غيث في دور حمزة بن عبد المطلب، والطيب الصديقي في دور الوليد، ومحمد حسن الجندي في دور أبو جهل، ومنى واصف في دور هند بنت عتبة، وأشرف عبد الغفور في دور مصعب، وغيرهم من الممثلين الكبار، مما جعل من الراحل الصقلي الذي توفي عن سن ناهز 77 عاما فنانا قوي الشكيمة، كلما ركب صهوة حصان أبدع في سباق ريح البراري بشهامة، بينما ترفرف تلابيب زيه العربي الأصيل في مشهد سينمائي ممتع لا يخطر على البال.

تلك إذن بعض من أطياف الممثل الراحل حسن الصقلي، نستحضرها هنا كما يستحضرها أجيال من المغاربة، وفي ذلك احتفاء بتجربة سينمائية مغربية وعربية قدمت لما يزيد عن نصف قرن فيضا فرجويا متنوعا على الركح وفي التلفزيون والسينما.

إعداد: عبد الصمد ادنيدن

Related posts

Top