وداعاً اسماعيل حابة.. ذاكرة المهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس

فقدت الساحة الثقافية والفنية مؤخراً في تونس إسما جمعويّاً وازناً، يتعلق الأمر بالرَّاحل أخينا إسماعيل حابة رئيس جمعية مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية (تونس) وأحد مهندسيه الذي تولى رئاسته لسنوات ممتدة مفعمة بالعمل الجاد والمثمر خدمة للمشهد الفني والإبداعي بالمحرس وبتونس بشكل عام.
وقد وافت المنية إسماعيل حابة إثر نوبة قلبية مفاجئة عقب ترؤسه لاجتماع تحضيري خصص لوضع الخطوط العريضة لبرنامج النسخة المقبلة – الخامسة والثلاثين – للمهرجان. ولم يكن من السهل تواصل فعاليات المهرجان في نسخه المتتالية لولا جهوده المكثفة التي تمثلت في السعي المستمر للتغلب على إكراهات التنظيم والتواصل والتدبير والبحث عن موارد الدعم والتحفيز التي لم يكن الحصول عليها أمراً متاحاً في الكثير من الأحيان..
وقد خلف هذا الرحيل الموجع والمؤلم صدمة كبرى وحزنا عميقاً في الوسط الثقافي والإبداعي التونسي بالنظر إلى مناقب وفضائل الرجل الكثيرة والمبادرات الطوعية الكبيرة التي قام بها رفقة نخبة من زملائه الأوفياء من أجل تكريس المهرجان وترسيخه وجعله قبلة إبداعية دولية حضرها وشارك فيها مبدعون وفنانون من مختلف البلدان والأقطار.
في نعيه ورثائه كتب مجموعة من أصدقائه المبدعين والنقاد كلمات وشهادات صادقة، نورد البعض منها ضمن هذه الورقة عربون وفاء واعتراف:

محمد بن حمودة :اسماعيل حابة ومهرجان المحرس للفنون التشكيلية ورشة مفتوحة على مدى السنة

إذا كان من الصحيح القول إن مهرجان المحرس للفنون التشكيلية نجح في تكريس مكسب مركزي سمح للمحرس بأن تكون الجهة الوحيدة في البلاد التي تقع منها الممارسة التشكيلية الإبداعية في مركز الخصوصية الثقافية المحلية، فإني لست أخشى البتة مجانبة الصواب حين أجزم أن إسماعيل حابة لعب دورا مركزيا من أجل بلوغ هذا الهدف. فبعد أن كان كاتبا عاما لفرع نادي السينما بالمحرس (منذ سنة 1968) تكفل لفترة طويلة بخطة كاتب عام للمهرجان قبل تقلد رئاسته بعد وفاة الدكتور محمد قدوار. وفعلا، لا عجب أن يساعده هذا الزخم الفكري وهذه المواظبة على المسئولية على حوكمة عمل الهيئة بشكل سمح للمهرجان أن يلحّ وأن يبقى بالرغم من تراكم المصاعب من كل نوع. أجل، كان إسماعيل حابة – على مستوى تصريف مختلف مقدّرات الهيئة – محور تقاطع الخيارات الفكرية مع ضرورات التعاطي الإداري والمالي والإعلامي ومع السياقات العملية والبروتوكولية، سواء منها ما هو طارئ أو ما هو دوري ومناسباتي. وهذا الاستنفار الشامل على مدى السنة جعل من مقر المهرجان في مدينة المحرس في مقام الورشة التي يؤطرها اسماعيل حابة على مدى السنة وفق وتائر مختلفة: وتيرة هادئة شتاء ووتيرة متصاعدة ربيعا، ثم وتيرة عالية صيفا، وذلك قبل أن يخفت الإيقاع خريفا. لا عجب إذن أن يكون إيقاع اليوم الأخير في حياته كالتالي: حضور للمقر من أجل تأطير اجتماع هيئة المهرجان، ثم التواعد على الالتقاء لاحقا بالمقر بعد الالتحاق ببيته من أجل الحصول على نصيب من الراحة والغذاء، ولكن إسماعيل لم يعد للمقر ولن يعود، لأن الذبحة الصدرية فاجأته وهو منهمك بكل كيانه في إعداد برنامج وشروط إمكان الدورة القادمة للمهرجان.
وفعلا، جرت عادة إسماعيل حابة أن يبدأ في هذا الوقت من السنة في إطلاق حوار حول الشعار المناسب للدورة القادمة، وبعدها يستفتي زملاءه في الهيئة عن طبيعة الاختصاص الذي ستتمحور حوله الدورة: نحت، أو تصوير، أو فوتوغرافيا… إلخ. وبعدها يطلق عملية التفكير الجماعي في لائحة الضيوف من الفنانين وكذلك في لائحة ضيوف منابر المهرجان الدولي… في الأثناء ما ينفك إسماعيل متنقلا بين مكاتب مصالح الإدارة التونسية وبين مكاتب وزارة الثقافة وذلك قبل أن يسافر لتونس مرارا وتكرارا للبحث عن داعمين ماليين للمهرجان…. إلى آخره من الالتزامات الصغيرة والتي لا يستنكف إسماعيل من إعطائها كل حرصه واهتمامه.

فاتح بن عامر: لم يكن بيننا موعد كي يودع كلانا الآخر

سلاما يا صاحبي سلاما: أبدا نودّعك الوداع الأخير وأبدا تغيب يا إسماعيل..
ها أنت ذا تغلق المربع ضلعا رابعا، ترجّلت حيث الأحبّة يوسف الرقيق، ومحمّد قدوار ورجب الطرابلسي، كما لو كانت السّنوات الطّويلة مسافة بسرعة الضّوء تطويها الأقدار وتتبعها الأرجل. وبقي المهرجان، وبقيت المحرس شاهدة عليكم، شاهدة تماما كما تجب الشّهادة في حق رجال بررة أحبّوا فأخلصوا وتعاهدوا وما نكثوا.


رحلت يا إسماعيل ولم يكن بيننا موعد كي يودّع كلانا الآخر ولم تك ثمّة فرصة لسلام أخير، سلاما يا صاحبي سلاما، سلاما هو سلام تلك الأماسي البهيّة الّتي صدع صوتك فيها المهرجان المهرجان… سلام علينا ونحن ننظر إليك تحتضن تراب المحرس ودموعنا الصّامتة تحتضن نظرتنا الأخيرة. كنّا نودّعك وما نحن بمودّعين، كنّا نبكيك وما نحن بباكين عليك… إنّما نودّع قلوبنا وهي خلفك… ونودّع دموعنا وهي تأتيك تروّي التراب…
ها أنت ذا يا إسماعيل سيّد النّواس الأخير في الشّارع الرئيسي… هناك حذو صورة يوسف في حديقة المهرجان وخلف الحصان وعند السفينة وصوب باب عمر… ها أنت ذا تملأ الأرجاء رغم الوداع الأخير وتشحذ الهمم رغم الغياب…
إسماعيل يا إسماعيل يا صاحبي يصعب وداعك، بل يصعب التّفكير في غيابك..
فأنت أبدا تغيب وأنا أبدا أودّعك الوداع الأخير..

خليل قويعة: كان عامرا بالود

إسماعيل حابة، مدير المهرجان الدّولي للفنون التشكيليّة بالمحرس، وداعًا.
كنت إحدى الشخصيّات المؤسّسة منذ 1988، وقد راهنت على فكرة الملتقى بشغف وناضلت من أجل أن يكون نبض المهرجان مستمرّا لمدّة 35 سنة. كنت مقداما، متفائلا رغم المطبّات والحواجز وكنت منفتحا على مختلف الأفكار والمسالك المؤديّة إلى حياة الألوان وبريقها في مدينة المحرس الفيحاء، زمن التّصلّب والارتكاسات الكبرى…
وكنت صادقا وغيورا على قيم الفنّ البنّاءة، دائم التّطلّع إلى لحظة أخرى أجمل وأرفع وأكثر تعبيرا عن معنى الحياة…
وكنت عامراً بالودّ.. رحمك الله.

نور الدين بالطيب: رحيله امتحان كبير للحفاظ على المهرجان

إسماعيل حابة المربي والناشط الثقافي منذ ستينات القرن الماضي كان حتى في حياة رفيق دربه الرقيق هو «دينامو» المهرجان، عرف بجديته وحكمة التسيير، وكان في كل عام يفعل المستحيل من أجل تنظيم المهرجان عبر «معارك» مع ولاة صفاقس ووزراء الثقافة والمستشهرين، وهو ما سبب له مصاعب صحية انتهت للأسف بوفاته على إثر سكتة قلبية ولا راد لقضاء الله ورحم الله إسماعيل حابة الذي حافظ على المهرجان وحصنه وعمل على تطويره كمؤسسة تتجاوز الأشخاص.
عندما علمت بنبأ وفاته وأنا في بيروت تذكرت آخر لقاء معه في المحرس في بداية شهر سبتمبر الماضي إذ أسر لي بأنه يحلم بمغادرة إدارة المهرجان، لأن الحياة لا تتوقف على أحد ولابد من أن يأتي جيل آخر يواصل المسيرة ويحمل المشعل، لكنه كان خائفا على المهرجان، وقد سعى إلى عقد جلسة انتخابية للجمعية تأجلت أكثر من مرة إلى أن نظمها بمن حضر وشاءت الأقدار أن يرحل بعد عقد الاجتماع الأول أمس لبداية الأعداد لدورة 2023!
وبرحيل إسماعيل حابة نتذكر الجيلاني الدبوسي الذي توقف برحيله مهرجان الجاز في طبرقة بعد سطوة الثورجيين، وتوقف مهرجان سوسة الدولي لسينما الطفولة والشباب بعد انسحاب نجيب عياد قبل وفاته، وتراجع عديد المهرجانات الأخرى بعد رحيل أو انسحاب الذين منحوها أجمل سنوات حياتهم .
صحيح أن مهرجان المحرس الدولي كما غيره من المهرجانات لا يتوقف على إسماعيل حابة رحمه الله، كما لم يتوقف على يوسف الرقيق مؤسسه الأساسي، ولكن ستكون هيئة الجمعية أمام امتحان كبير للحفاظ على المهرجان وضمان استمراريته وهذا يذكرنا بكل المهرجانات التي تراجعت أو اندثرت بعد رحيل الكبار أو انسحابهم.
فالتطوع في خدمة الثقافة و»الكاريزما» وإدارة الخلافات ونرجسية المبدعين ليست متاحة لأي كان .
رحم الله إسماعيل حابة، رحيله خسارة ليس للمحرس بل لتونس، فقد كان المهرجان الذي أداره طيلة ثلاثين عاما تقريبا علامة ونجمة في سماء تونس .
رحم الله اسماعيل حابة على قدر حبه لتونس والثقافة والتقدم والتحديث. 

ليلى بورقعة: قلبه سر محبة الناس له

كان قلبه مصدر تعبه ومرضه، وسرّ محبّة الناس له… كل من عرف إسماعيل حابة من قريب أو حتى من بعيد كان ينحني خجلا أمام طيبته وتواضعه ودماثة أخلاقة وتقبله النقد بصدر رحب.. وكل المبدعين في مجال الفنون التشكيلية يشهدون على نضاله من أجل استمرار المهرجان رغم الانتكاسات والصعوبات.
كان إسماعيل حابة غيوراً على إرث صديقه يوسف الرقيق وحريصاً على تواصل المهرجان الدولي للفنون التشكيلية حتى تبقى مدينة المحرس عاصمة للفن التشكيلي ومنارة فن وألوان تشع عالميّاً في سبيل هذه المقاومة من أجل البقاء، دفع إسماعيل حابة الثمن باهضاً على حساب صحته وقلبه المتعب. طوال العام، وعلى امتداد فصول السنة، كان شغله الشاغل توفير الموارد المالية حتى يسن له تنظيم دورة محترمة تليق بسمعة المهرجان العريق وريادته على المستوى العربي. ما بين الوزارات والمؤسسات، كان إسماعيل حابة ينتقل بنفسه مدافعا عن حق مهرجان المحرس للفنون التشكيلية في الدعم والتشجيع… وفي أكثر المرات، كان يعود بخفي حنين وفي نفسه حسرة على جهل المسؤولين بدور الفن في البناء والتغيير. لكنه أبداً لا يستسلم ويصر على تنظيم المهرجان في كل الأحوال مهما كلفه ذلك ما كلفه.. حتى لو كان قلبه المتعب!

سامي بن عامر: كان محور اجتماعات المهرجان

ماذا أكتب عن رحيلك يا إسماعيل حابه. لقد تراكمت الصور في ذهني وتزاحمت الأفكار وخانتني الكلمات. كانت قصتنا طويلة ومتفرعة وجد متحركة.
برحيلك تكون المدير الرابع الذي تقلد رئاسة المهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس والتقى بالرفيق الأعلى:
يوسف الرقيق مؤسس المهرجان وبعده رجب الطرابلسي، ثم محمد قدوار وآخرهم أنت.
كنا نجتمع الخمسة بالمحرس في الشتاء، عندما أنزل من العاصمة لإعداد دورات المهرجان المتتالية، ثم أصبحنا أربعة. وبعدها بدا العد التنازلي السريع.
لا أزال أتذكر إيقاعات تلك الاجتماعات الليلية التي تبشر بدورات نسعى أن تكون أكثر نجاحا.. وكنت أنت محورها.
رحمك الله رحمة واسعة ورحم يوسف الرقيق ورجب الطرابلسي ومحمد قدوار. وليبق المهرجان مشعا بفضل رجالاته من الشباب. وتلك هي سنّة الله في خلقه.
وداعا يا إسماعيل. وداعا يا صديقي.

عمر الغدامسي: اسماعيل، وداعا أيها الميزان

إسماعيل حابة القلب النابض لمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية والصديق القريب منذ أكثر من عقد. حقا أشعر بالفقدان، لأن إسماعيل كان صاحب خصال أفادت المهرجان ومثلت عنوان مناعته واستمراريته، رغم المرض العضال والذي كان يعاني منه إسماعيل من سنوات عديدة، إلا أنه لم يتوقف عن خدمة المهرجان ومواجهة الصعاب وطرق الأبواب بصبر وإصرار لتأمين إنجاز هذه الدورة أو تلك من المهرجان. رحمه الله كان صاحب خصال المسؤول المثالي، من قدرة علي الصبر والديبلوماسية والحكمة ورد الإساءة بالصمت. رغم مرضه العضال، فإنه كان يجد كل الطاقة لقطع تلك المسافات بين المحرس وصفاقس وتونس العاصمة، من أجل مواعيد إدارية تخص المهرجان، مواعيد قد لا يظفر منها بشيء، ليعود إلي المحرس ويجدد المحاولة. بين موعد وآخر، كنا نلتقي ونتحدث وكنت أسميه «الميزان»، وإسماعيل رغم ما يبدو عليه من علاقات محدودة بقطاع الفنون، إلا أنه كان في المقابل علي معرفة بنفسيات الخلق وكان يحسن إدارة نوازعهم، ليقود بأكثر ما يمكن من الأمان دفة سفينة المهرجان ويقيها شر المتربصين والطامعين والدخلاء.
رحم الله إسماعيل حابة، وكل التعازي لزوجته وعائلته ولمدينة المحرس وكل الصبر والسلوان لهم ولنا.

< إعداد: إبراهيم الحَيْسن

Related posts

Top