«وهج العتمة» للشاعرة المغربية مليكة فهيم

>  بقلم: إبراهيم الحجري

يشكل ديوان “وهج العتمة” الخطوة الخجلى في أرض الكتابة الرحبة بالنسبة للشاعرة المغربية مليكة فهيم، التي تفتح لذاكرتها وتجربتها وعلاقاتها بذاتها وبالآخر وبالأفضية مساحات من البوح والجدل، جاعلة من تماساتها مادة مطواعا لتوالد المشاهد والمقولات والعبارات المزحومة بالدفق العاطفي، والصور الناظمة، والأخيلة النشوى، والذكريات العاصفة، مما يجعل هاته التجربة متميزة باعتبارها انهمارا كليا في محيط التعبير  الشعري، وتوحدا في محراب اللغة، وانفراطا قصيا في متاهات الحواس وسجالاتها الملتاعة بقلق الإحساس المفرط بالذات والعالم.

1- العشق

تهيمن مشاعر الوله على القصيدة هنا، حتى أنها تكاد تكون بنزين التجربة ورفدها الذي لا ينقطع طيلة مساحة البوح الشعريّ، وهو عشق متعدّد؛ أولها عشق الذات الذي يليق بفرادة الإحساس بالرغبة في خلق عوالم اللغة المسكونة بالقلق، وآخرها العشق الخاسر الذي يتكسر أفقه عند جدار الصمت وتعقد العلاقة بين الواقع والحلم في التجربة. الشيء الذي يجعل تجربة الكتابة في المجموعة مسكونة بالألم والشكوى والأنين جراء هزيم الذات في إيجاد الإيقاع الذي يناغم دفقات مشاعرها الصافية الرقراقة، وتعنّت الآخر الذي يصب وقود النكران على أزهار  مشاعرها الجياشة الحبلى بالحنين والود، والممهورة بعطش البدايات المتاخمة للروح والوجدان، وهذا ما جعل الكلمات تتدفق من شفتيها أنينا مزكوما، وجمرا مستعر الوجع، وصورا تتضور في مناحيها الروح أسى وحسرات.
تنقل الشاعرة مقولة العشق من تجربة ذاتية إلى تجربة كونية، فما ذاك الإحساس المفارق بتنكر  المعشوق، وغموضه، والتفافه حول سراب لا يبين، إلا مستوى من مستويات التحول والوعي بتنافي العلاقة المتساكنة بين الذوات، وطغيان نار أكول تقضم نسيج المحبة الفطرية التي تلحم بني آدم في كون تشعله جمرات النواعر، وتؤجّج فتنَه النائمة الرغباتُ، وتمزق نسيج توادده الفطريّ ألسنة لهب مسعورة تذكيها النزعات البرانية، المسكونة بالتهافت على الماديات والمظاهر  والقيم البراقة.
تقول الشاعرة:
“يا امرأة لها القلب والمدى
وكل الحدود
الشوق والشوك
الحناء والكبريت
القمر والغرق لها،
ومملكة العشاق،
مبجلة بالتواشيح حكايتي
فكم يكفي من الرحيل
من الرحيل كم يكفي…

2- الموت

بالقدر نفسه الذي تهيمن به موضوعة العشق المتوزعة بين الذات والآخر والفضاء، توجد أيضا موضوعة أخرى تكاد تكون مرتبطة بالأولى؛ هي موضوعة الموت. ومع أنهما مقولتان مفارقتان، بحكم أن الأولى ترتبط بالحياة والاستمرار، والثانية ترتبط سياقيا، بالفناء والتّلاشي والتّوقف عن الحياة، فإنّهما متلازمتان في المجموعة الشّعرية، لأنّ فشل الأولى يؤدي حتما إلى الوقوع في شرك الثانية، إذ إن الإنسان العاشق لمّا يخذله المعشوق يتحول إلى كائن يفقد كل رغبة في الحياة، ويذبل مثلما تذبل زهرة اللوتس في فصل الجفاف، وتغشاه مواصفات الغياب التدريجي الذي يعادل الموت المعنوي.
ويحضر  معنى الموت في شكل تجليات متعددة، فكما تتجلى هاته التيمة بصفتها الذاتية، تبرز أيضا في شكل مقولات أخرى مجاورة أو محيلة عليها مثل (الغياب، الفناء، الحتف، الصّمت، النّعش، القبر، الحزن، الرماد، الذبول، الغراب، النّوارس، التّراتيل…)، وهذا التعدد الدّلالي والغنى المعجميّ؛ هو ما يجعل ورود موضوعة الموت أكثر ثقلا في المجموعة الشّعرية، حيث إنّ كلّ الحقول المعجميّة في النّصوص غدت روافد تغذي المعجم الكليّ للنص الشعري بصفة عامة.
إن انتقاء عبارات بهذا التناغم من حيث القوة والدّلالة، يدل على اشتغال واع من الشاعرة على موضوعاتها، فهي لا ترد عبثا، تبعا لميكانيزم التوارد والتداعي الشعري، وإنما جاءت إلى نسيج النص من خلال نشاط مفكر فيه يسعى إلى خلق كتابة تحريضية تنازع القوى الماثلة والغائبة في الروح، وتخلص الذات من حيرة الجدل الدائر  في الجوانيات حول الفوضى التي يحدثها شبح الموت في الحواس الباطنية، في ارتباط مفارق مع مقولات الخلود والعشق، ذاك أن هذا الأخير يصبح المعبر  الآمن للروح نحو خلودها، وانعتاقها من موت متعدد يلاحقها، لينتزع منها ما يربطها بكيانها البشري الأصلي الذي لا تعني شيئا في غيابه؛ وهو الحب بمعانيه المختلفة.

3- المكان:

تؤسس التجربة الشعرية لعلاقة هجاسيّة بالمكان. فالشاعرة لا تسكن المكان بقدر ما يسكنها، ولا تتفاعل فيه بقدر ما يتفاعل فيها، ولا تبصم فيه خطوتها بقدر ما يبصم فيها خطواتها، انبثاقا عن المشاعر  الرهيفة التي تنتابها اتجاه الحياة والكون معا.إذ تعتبر التجربة الفضاء كائنا حيا يحاور ويجادل، يبكي ويغني ويموت، وكأن الشاعرة وحدها من يسمع أناته، وشدوه، فتأرق لأرقه، وتسر لسروره، وتحزن إذا ما توحد بنحيبه الصامت.
تلوح أطياف الفضاء متشظية، منزوعة من أبنية الفراغ المحيطة، حالّة في مطلق الذات، متشحة بالشحوب ذاته الذي يسكن ذاتا شاعرة تتوجع في الكلمات وتفاصيل الشذرة الممزقة التي تغفو بين سطر وسطر. إن الذات المحكية شعريا، المبأرة في الخطاب، تسقط حالتها النفسية المسوّرة بالحزن والتشاؤم على الأمكنة التي بقدر ما تغيب، فهي إن بدت، تبرز في ألوان داكنة. وتحضر  هنا مدينة الجديدة كمكان يحضن تجربة الكتابة والحياة، في المتن لا باعتباره معادلا موضوعيا للحياة اليومية، بل كذلك، بوصفه عالما يحفه الخيال، ويغشاه فيض التجربة والصور والكلمات. تقول الشاعرة:

“في الثانية عشرة….
نعم في الليل…
ليل الجديدة الطويل…
يجثم الضجر على يقظتي
فراغ
و
سكون
… وأبدية مطلقة
وأنا وأنا
يفزعنا المكان
لا نجمة تضيء ليلنا
لا أغنية تشدني
إلى حب مضى
لا محطة في الأفق
لغد آت
لا عصفورة تزقزق
 من حماقتي  
أبدي هذا الليل
… كمنفاي” ص. 22.
    
ما عاد ليل الجديدة، المدينة الجميلة التي تحضن في برنسها الجمال الطبيعي والتاريخي، بقادر على أن يفسح الأفق أمام الذات، لأن هاته الأخيرة، بغياب العشق المستحيل، وفناء المشاعر الجوانية المحفزة على الحياة، ما عادت ترى هذا الجمال سوى خراب من أنسجة الخيال. وكأن الجمال يخلق من رؤية الذات لا من العالم المحيط بنا. يطول ليل الجديدة على الذات، ويجثم على أنفاسها، ويكبح كل شعور بالحياة ليحيلها منفى جحيميا، ويذيقها من معاناة الشعراء الأوائل.

Related posts

Top