يوميات نادل.. -الحلقة 4-

                      قدري

ومن أقصى البؤس جاء ساعيا، متأبطا محفظة مهترئة، وبمظهر يوحي أن الجنون قد نال منه، تقدم نحوي حيث كنت أقف بمحاذاة المنضدة أستعيد أنفاسي التي ضاعت على بساط السجاد الذي أنسجه جيئة وذهابا بين الطاولات، خادما لكل من يحجز لنفسه مقعدا بالمقهى.

لم يخرج انطباعي الأول، عن كونه واحدا من المشردين الذين يؤثثوا فضاءات المدينة، خصوصا وأن الأوساخ كانت تستعمر كل تفاصيل ملابسه، التي بدت وكأنها لم تستبدل لعقود، خصوصا ذاك المعطف الملقى على بنيته الهزيلة، والذي انسلت أطرافه، وغربت ألوانه، وضاعت بعض أزراره.

قدر أحمق الخطى هذا الذي دفع بهذا المخلوق إلى قطع كل العلاقات الأرضية، وبالتالي امتهن اللامبالاة بالانطباعات العامة، وتوقف عن الأمل، والعمل، والرغبة..

شعر أشبه بكومة صوف امتزجت بالأشواك، وشفتان كساهما البياض، وكأنه رضع للتو من ثديي أمه، وأظافر كادت تفوق طول أصابعه.

لا أثر للنقاء على جسد هذا الكائن، الذي سرقت منه الأقدار أحلامه، وزجت به في تيه رهيب.

كصنم بقي لبرهة منتصبا قدامي، واجما محذقا في وجهي من تحت نظاراته.

بإيجاز خاطبته، ماذا تريد؟ … استفساري له جعله يزيل النظارات، رادا علي: “تحياتي رفيقي لقواري”.

ترى من يكون هذا الذي يعرف حتى قبيلتي؟؟؟

إمعان النظر في تقاسيم وجهه الذابل كنبتة تسلطت عليها أشعة الشمس الحارقة، جعلني ألتقط إشارة من ذاكرتي تفيد أنه هو المهدي الذي بدأت صورته تتشكل لدي.

من يكون هذا الذي أرقني، وجعلني أكابد لفك شيفرة هويته؟

حضور زبون لأداء ثمن قهوته، جعلني أصرف نظري عن ضيفي الغير منتظر قدومه،… لكن كيف لي أن أتجاهله وهو الذي بقي لصيقا بي، شاخصا بنظره، في رحلة استكشاف لتفاصيل الفضاء، الذي حج إليه دون موعد ودون سابق إشعار.

باختصار، صانع الحدث هذا، لم يكن سوى ابن بلدتي، الذي لو عاصر فيكتور هوغو، لخصص له صفحات في يوميات بؤسائه.

استحضار بروفايل هذه الكتلة من البؤس بعثر أوراقي ووضعني في حيرة من أمري، ولم أجد بدا من أن أحجز له مقعدا، مناولا إياه كوب قهوة أكد أن تكون سوداء ومركزة، وسجائر شربها تباعا وبشراهة، ولم يكلف نفسه عناء مغازلتها بين أنامله.

يمص المهدي السيجارة حتى تختلف أضلاعها، وبقدسية ينفث دخانها غير بعيد عن حيزه، ليطارده بنظراته العميقة وكأنه يرعاه.

يعلم الله وحده ما يفكر فيه المهدي، ويجهل المهدي ما يفكر فيه.

بقلم: هشام زهدالي

 

Related posts

Top